في زمن العزلة، لا عزلة

Faten Fouaany

25 فبراير  .   2 دقيقة قراءة  .    575

 

في زمنِ العزلة، يزداد بيتي زحامًا وضجيجًا. في الصّالون، يتجالسُ نعيمة والرّيحاني وجبران لِيُكملوا ما بدأوه في رابطتهم القلمية مع فارقٍ بسيطٍ، مئة عامٍ فقط. يجلسون مُتلاصقين، يتهامسون كأنّهم لا يريدون لإيليا أبو ماضي أن يسمعهم. رشيد أيوب، في الزاوية، صامتٌ كالعادة يتأمّل العالم من النافذة، يعصرُ حنينه ويُقطِّرهُ. 


 

أَخْوَتُ الذّوق، الياس أبو شبكة، يقفز من شبّاكٍ إلى آخر باحثًا عن غلوائه، يُخربشُ على جدران الصّالون قصائدَ حُبٍّ لا يراها أحدٌ سواي. مسكينٌ الياس! لا يعلم أنْ "لا غلواء" في حَيِّنا. وراء المكتب، يتقوقع مارون عبّود. يبحثُ عن خرافاتٍ جديدة في الممارساتِ الدِّينِيَّة والدّنيويّة لكنّه لا يجدها في منزلي. يُقوّسُ أبو محمد ظهره، يرتدي عباءته، يُلقي نظرةً من النافذة القريبة ثمّ يهمهم: حسنًا، سأكتب عن هذه الجارة المُتَلَصِّصة هناك. على الكرسيّ الكبير، يَغُلُّ توفيق يوسف عوّاد مُتفكِّرًا في أحوال المجاعة والوضع الاقتصاديّ مردِّدًا: سأُعدِّلُ نسخة "الرّغيف" قليلًا لتلائم ٢٠٢١. كم هو مزدحمٌ صالون بيتي! 


 

على طاولةِ الطعام، يتسامر سارتر وسيمون. أمامهما فنجانا قهوة وقطعتا إكلير بالقشطة الفرنسية. يشعران وكأنهما يجلسان في قهوة "les deux magots"، في حي السان جرمان. يُباغتهما ألبير كامو فيمتعض سارتر ويقلب عينيه تحت نظارته السّميكة. لكنّ سيمون تُهدّئ من روعه. يجلس كامو غَيْرَ آبهٍ، يشتكي رأي طه حسين بهِ. لقد سمعه في مقابلةٍ ما، يُصرِّحُ ويعلن بأنّ كامو ليس كاتبًا بل مشروع كاتب. "شه،شه، أَخفِضْ صوتكَ يا ألبير، عميد الأدب العربي، يجلس في الحديقة. سيسمعك."


 

الحديقةُ يحتلّها الأدباء المصريون. المصريون يحبّون الأماكن المفتوحة. يتربّع على الكنبة الكبرى تحت ظلِّ العريشة، الصعيدي الأصيل، الكبير عبّاس محمود العقّاد. كعادته، يبحث عن الضّوء لِينفردَ به وحده. لكأنّ الشّمس قد خُلِقَت له. ليس مُستغربًا، هو المولود في أسوان، مدينة إله الشّمس. أمامه مباشرةً، يجلس برقةٍ وهدوءٍ، طه حسين، جلوس الندّ للندّ . حوله، يتناثرُ أنيس منصور محاولًا لفت نظر الأستاذ، نجيب محفوظ مُرتشفًا قهوته، مفتِشًا عن مَشربيّةٍ ما لبدءِ قصّة وتوفيق الحكيم مُتناقشًا مع مصطفى أمين حول تعليقه الأخير على صورته مع الحمار. دخلت مَيْ زيادة على مجلسهم كنسمةٍ ربيعيّة ملأتِ المكان عَبقًا فانفرجت أسارير الأستاذ وغفر لطه حسين دكترته وإتقانه للفرنسية. الله على النِّسَاء! جمالهنَّ يوقظُ الرّقّة في القلوب.


 

في أروقةِ الحديقة، يتنزّه بدر شاكر السّيّاب . يبحث بين الأشجار عن قريته. يرافقه أبو القاسم الشّابي. يتناقشانِ بالرويّ والقافية، والموضوع: ما الأكثر خُضرةً، توزر أم جيكور؟


 

في زمن العزلة والنّاسُ تشتكي من الوحدة، أعيشُ في عالمٍ مزدحمٍ من الأدباء والمزيد منهم يأتي كلّ يوم. فأهلًا وسهلًا.

  2
  3
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال