01 يناير . 8 دقائق قراءة . 1121
هذا اليوم لا يشبه غيره من الأيام أبداً بالنسبة لي. كنت قد طلبت إجازة خلال النهار كي أزور طبيبة نسائية، لأول مرة. هي لن تكون زيارة عادية، ولن تنسى أبداً.
في الأسابيع الماضية، أحسست بكتلة صغيرة في صدري، كحبة البازيلاء. جربت أن أتجاهلها وأن أركز على عملي، قائلة لنفسي: بعد عدة شهور ستفعلين ما يجب فعله إذ ليس لديك وقت لتشتيت أفكارك. ولكن عبث. أمضيت قبل الظهيرة وحدي في البيت، مكتئبة جداً، ليس فقط لأني بعد ساعات قليلة، قد أكتشف أنني مصابة بالسرطان، ويأتي بعدها ما هو أصعب، إخبار عائلتي التي تبعد عني ساعات بالطائرة خبر كهذا، بمكالمة هاتفية باردة. بل كنت مكتئبة أكثر لأني أشعر بقلة الاكتراث بين الحين والآخر. الفراغ. كأن يعيش الإنسان بقلب ميت، ووقته ينساب كغرفة ماء في يده، هدرا، دون أن يرتوي حقا. عند الطبيبة النسائية، كنت كاليتيمة، ليس هناك من يرافقني في لحظات كهذه. لم أطلب من أحد مرافقتي، ربما لأن الغربة قد علمتني أن أتكتم دائماً عن الأخبار السيئة، وأن لا أبلغ أحبائي إلا بما هو مفرح وخفيف على القلب. رائحة المشفى والأدوية جعلت الخوف يتصاعد تدريجيا ليصفع عقلي، ولكن ما ترانا نفعل في لحظات ضعف كهذه؟ لا شيء أبداً. ليس باستطاعتنا فعل شيء. دعوت ربي أن يكشف لي سلامتي ويسرّع دقائق العذاب هذه، أنا التي تكره الانتظار… عدت إلى عملي عصرا، وأنا أحمد ربي كثيرا كثيرا، بعد أن طمأنتني الطبيبة، والغبطة تملأ شراييني. عاهدت نفسي أن أعرف قيمة أيامي أكثر. شعرت بالحياة تفتح أبوابها أمامي من جديد، وكأن عمرا آخر قد كتب لي...
على طاولة العشاء في مطعم فرنسي متواضع، وسط ضوضاء زملائي في المختبر، اعتراني شعور بالضجر رغم صخب المجتمعين. ليس من اللائق أن أنسحب باكرا، إذ كانت دعوة مني للعشاء كي أتذوق طعم هذه الجمعة للمرة الأخيرة، قبل انشغالي أكثر في إنهاء رسالة الدكتوراة، حيث الوداع الأخير... حاولت كالعادة، أن أخفي شعوري بالفراغ، بينما نتبادل أطراف الحديث، بالفرنسية المتعبة أحيانا، حول مواضيع لا تؤثر بي مطلقاً. انتهت الجلسة. ودعت الأصدقاء، وتفرقنا... كنت متعبة جداً بعد هذا النهار الحافل، وأرغب في الاستلقاء على سريري في أسرع وقت، ولكن لسوء الحظ، مع (إيمان) و(شروق)، لم يبق لنا متسع في السيارات كي يقلنا زملائنا في طريقهم إلى المنزل. فاتجهنا نحو محطة الترامواي، متونسين ببعضنا في عتمة المساء.
في المحطة في قلب المدينة، بينما كنا نتساءل عن مدة الانتظار، لفت انتباهي شاب يبعد عنا بعض الأمتار، ينظر تجاهنا بشكل متكرر ويحرص أن يخفي ذلك.. لدينا ما لا يقل عن عشر دقائق حتى وصول الترامواي.. ألهيت نفسي بالحديث مع الفتيات، وعيني تفضحه من حين لآخر وهو ينظر نحونا، كأنه يتأمل (شروق) - المترجم اسمها من الفرنسية. لم أفهم نظراته كثيراً، لأنها لا ترتدي ثيابا ضيقة، قصيرة، أو مثيرة بعض الشيء، بل كغيرها ملتحفة بثياب شتوية. ولكن الجمال الفرنسي ببساطته ملفت دائماً. الشعر الأشقر، العيون الملونة والبشرة العذراء، التي لا تلمسها مساحيق التجميل المبالغ بها كما في بلادنا العربية. أما هو، فكان الصورة الأمثل لشاب وسيم من المغرب العربي على الأغلب. كان أسمرا بجاذبية، ذو ذقن مرتبة ليست بقصيرة، أنيقا ببدلة رياضة، يقف بهامته الممشوقة قرب محفظة لمستلزمات رياضية. حضر الترامواي وأخيراً.. ركبنا من الباب الأقرب لنا، وإذ بي أجد الشاب العربي يصعد خلفنا، ويجلس على مقعد قريب منا. الطريق ليس بقصير. عدنا نملأ الفراغ بأحاديث متنوعة. تنوع الجنسيات في المختبر، الأبحاث العلمية، مشوار الدكتوراة والعمل الذي لا ينتهي... وغيرها من الأحاديث الاعتيادية كتلك التي تكون مع زملاء العمل، لدرجة الروتين البعيد عن المتعة. في الطريق، كان ذلك الشاب العربي، بغرابة، يقف تارة ويجلس تارة، ويغير مقعده من حين لآخر. تارة أمامنا، وتارة بعيداً عنا... فارقتنا (شروق)، وأكملنا الطريق أنا و(إيمان) - صديقتي التونسية. كلتانا مفضوحتان بهويتنا العربية في الغربة، لأنه بكل بساطة، كلتانا محجبتان. وصلنا إلى محطة النزول قرب بيتي، مررت أنا أولا بين الناس، ونزلنا من الباب حيث الشاب العربي يقف منتظرا محطة نزوله. بالرغم من إحساسي بالتعب، اخترت أن انتظر ربع ساعة أيضاً على المقعد، ريثما تصل سيارة تقل (إيمان) إلى بيتها، كي لا تبقى وحدها في عتمة الليل. عدنا إلى دردشاتنا كي يمر الوقت بليونة أكثر.. وبينما أحدث (إيمان) بطول قامتها أمامي، أجدها تنظر خلفي، وترد على صوت خافت جدا لأحدهم، مرارا وتكرارا، بقلق واستغراب. التفتت خلفي، ويعتريني شعور بالخوف في عتمة هذا المساء. فإذا بي أرى الشاب العربي، وعلى وجهه ملامح ليست بمخيفة. ارتبك قليلاً ثم قال موجها لي الكلام: "عذراً... أردت أن أسأل صديقتك إذا ما كنت مرتبطة، لكن لم تسمعني"
هربت مني ابتسامة رسمت على وجهي، الذي لم يقو على التحديق به أكثر فانحنى خجلا.. نظرت إلى صديقتي، الذي تبين لي أنها ثقيلة السمع في مثل هذه المواقف الخطيرة، تشاركنا ضحكة بعد أن فهمت ما يريد منها، وقالت له باتزان: " أعتقد أنه من الأفضل أن تجيب بنفسها". أحببت جوابها، وغرقت في ارتباكي وخجلي. مرت دقائق ربما، بينما كان يحاول أن يصطاد كلماتي مني، ليعرفني أكثر، وأنا أحاول أن أتفادى الجواب دون أن أؤذيه بكلماتي، كطفلة تفضل أن تمرغ وجهها في ثوب أمها على الحديث مع الغرباء. حاولت بمراوغة أن أخبره أنني قد أترك فرنسا قريباً جداً وأعود إلى بلدي، الذي لم أفصح عنه أيضاً، بالرغم من استفساره. لم يكن هذا صحيحا إطلاقا. لم يكن في بالي غير فكرة واحدة تجمد عقلي: قلبي الصغير لا يتحمل أن أمنح شابا سعادة مزيفة بوهم الارتباط بي، وأنا أرى أن هذا الأمر مستحيل. شقت صديقتي قلة نضجي قائلة بأنني أفضل عدم الكلام، ورأيته بعيوني الحزينة، يلملم خيبة أمله، ويقتطع الحديث بكل أدب، ويتوارى عن الأنظار...... مرت شهور على هذا اليوم الذي أخفى في طياته الكثير من الحظ، ورحمة الله. شهور ولا تزال تغابتني ذكراه، أنا التي تمنت أن يتوقف الوقت وتطول الدقائق أكثر مع ذلك الشاب في ذاك الليل. في المختبر، حتى وإن لم أختر الإفصاح عما في داخلي، أجد صديقاتي يمازحنني دائما، إذ كيف بشاب وسيم اختار أن يغتنم فرصة محادثتي وأن يفوت الترامواي، ثم عاد إلى بيته بخيبة أمل ذريعة سيرا على الأقدام. لطالما قلن لي أنني تلك الفتاة التي لا تسمح لسهم الحب بأن يخترق قلبها، فتكسره قبل أن يصل إليها، ثم تتذمر من وحدتها. بالرغم من أنني قد ارتبطت مرة، تعرفت على شباب وسيمين، جذابين، أذكياء... تودد إلي شباب كثر غيره، ولكن ذاكرتي تميل أكثر لذلك الشاب اللطيف المجهول الهوية. غريبة هي الذاكرة عندما تنتقي أحداثا قصيرة وعذبة لتطفو على السطح من حين لآخر.
حبذا لو جمعتني به صدفة ثانية كي أقول له: كم وجدت في عينيك الكثير من الدفء، وفي حرصك على عدم إزعاجي الكثير من الحب. أنا -لا- لست مرتبطة، ولكنني، لبنانية، محكومة بالعنصرية، ومحبة لأهلي إلى حد الملل. سأقول له بأن أهلي أناس طيبون جداً، ولكن ليس بمقدرتهم السماح لي بالارتباط بغير لبناني. وسأقول له أيضاً أن الحب لم يخلق للجبناء، نحن الجبناء نختار أن نثقل ذاكرتنا بتفاصيل أرواح جميلة جمعتنا بهم الصدفة، مثله، في عمقنا الدفين، و نثقل أنفسنا بالكلمات التي لم تخن صمتنا. و سأقول له أيضاً، كنت تلك الزهرة التي تنبت بين الصخور، في ذلك اليوم.
" من مشاركتي في مسابقة القصة العربية الشابة للكاتب حسن سامي يوسف "
#غربة #حب #عنصرية #مجهول #صدفة