دوّار الشمس

01 يناير  .   4 دقائق قراءة  .    647

Photo by Odette Ion on Unsplash

أغمض عيني ثم أفتحها على مشهد لأناس يصعدون إلى الباص، وآخرين ينزلون منه تباعا على امتداد الطريق، ولا أولي اهتماما. 

أعاود النظر من النافذة إلى اللا-شيء، اللا-مكان، بعينين ذابلتين، والباص يسابق الريح، عائدا بي إلى البيت محملة بخيبة أملي. المقابلة رقم عشرة باءت بالفشل، ولم أنجح في الحصول على عمل، بالرغم من شهاداتي المعلقة على الحائط. 

لطالما روى لي أبي معاناته في تحصيله للعلم.. في صغره، لم يملك أبداً وقتاً للدرس، أو المراجعة قبل الامتحانات، إلا ما يتبقى بعد فراغه من معاونة جدّي في عمله في الأرض. 

ورغم ذلك لم يكن مسموحا لأبي أبدا أن يرسب في صفه. غادر أبي القرية إلى بيروت لإكمال دراسته الجامعية، واندلعت الحرب الأهلية، ولم يخسر أيا من سنواته الجامعية! كان يتلطى - مع غيره من الشبان -  من رصاص القناصين كي يصل بسلام إلى جامعته، التي كانت تقفل أبوابها بين حين وآخر، لفترات غير قصيرة. 

تخرج أبي دون إضاعة سنة واحدة، وتقدم إلى امتحان الوظيفة الرسمية، ليحصد المرتبة الأولى ويغدو أستاذا ثانويا ذا مستقبل آمن بعض الشيء. ذكي أبي، ذكي جداً، لدي يقين أنه كان قادرا أن يصل إلى أهم المراتب العلمية، ويحصد أعلى الجوائز لو ساعدته ظروفه.. لا أجد من حاز على جائزة نوبل للعلوم أذكى منه أبداً. ولكنه حرص أن يفني عمره في سبيل توفير ظروف أيسر لنا، كي يفتخر بما سنكون عليه في المستقبل. 

 إلى جانبي امرأتان في منتصف العمر، تثرثران كثيراً كما لو كانتا في الدار تحتسيان الشاي. يعلو صوتهما على صوت الهواء الذي يلفح وجهي وضجيج السيارات على الخط السريع والأغاني الهابطة التي يرغمني السائق في هذا اليوم المنحوس على سماعها. لا أرغب في الالتفات إليهما مطلقاً. 

تكمل المرأتان صراخهما وأعلم رغماً عني أنهما تسكنان في حارتين متجاورتين، وأنهما لا تلتقيان من كثرة الأشغال، وأن ابنيهما تصادقا في طفولتهما إلى أن أبعدتهما مسافات الحياة...  وأشعر بالتعب.

وتكمل ذات الصوت الخشن من فرط التدخين حديثها، وأفهم أنها تواسي رفيقتها بطلاق ابنتها، من "ابن الحرام"، فتقول لها: 

- يعني... اللي بشوف مصيبة غيره وتهون عليه مصيبته..

 وتسترسل المرأة بالشرح، فتصف حياة جارتها التي تسمع صراخها كل أسبوع ولا تترك بيت معنفها إذ لا مأوى لها غيره.. ويعلو صوت المرأة المنكوبة بطلاق ابنتها فتسترسل بالحديث عن "أشباه الرجال" ثم يخمد حزنها... 

وأشعر بالكثير من الأحاسيس، التي لا أدرك ماهيتها، وأسأل نفسي: هل علي أن أجد من هو أسوأ حالا مني كي أشعر بالرضا؟ 

"يلي بشوف مصيبة غيره بتهون عليه مصيبته"! أيؤنسني مثلاً أن أجد صبية في مثل عمري تعاني من أزمة صحية منعتها من أن تعيش يومها بيسر، ولا تشغلها قضية كالحصول على عمل؟ 

يا لهذه المعادلة المريضة.. أن ننقب عن تعاسة غيرنا كي نواسي أنفسنا.. يا لغبائنا، حين ندعي أنا نفهم كيف تلهو الحياة بمصائر غيرنا.. 

يدخل الهواء عيني فتذبلان أكثر، وتنزل المرأتان بضجيجهما ويكمل الباص طريقه. وأنعم بنظري الذي يسرح في حقل منسق بعناية إلهية، لدوار الشمس تلتفت إلى النور بتناغم جميل. 

داخلي مبعثر يا الله، هلا رتبته؟

(مشاركتي في جريدة الأخبار، ملحق كلمات) 


  3
  3
 1
مواضيع مشابهة

07 يونيو  .  2 دقيقة قراءة

  1
  2
 0

08 نوفمبر  .  9 دقائق قراءة

  3
  4
 0

07 سبتمبر  .  1 دقيقة قراءة

  0
  0
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Maher
02 أغسطس
وأشعر بالكثير من الأحاسيس، التي لا أدرك ماهيتها❤ مريح ما كتبتيه جدا!
  0
  1
 1