04 أبريل . 6 دقائق قراءة . 964
الحادي عشر من آذار/مارس عام 2020، يومٌ سيحفظه التاريخ جيداً، إذ لم يعد العالم بعده كما كان قبله. انهالت التطبيقات الإخبارية على هواتفنا "الذكية" بخبر إعلان منظمة الصحة العالمية فايروس كورونا المستجد وباءً عالمياً! لم يكن التداول الإعلامي لأخبار هذا الفايروس وليد تلك اللحظة، إذ بدأت أخباره بغزو مسامعنا على مدى الشهرين السابقين، لكنْ، وكما أنّ الطبيعة البشرية تجنح لرفض ونكران كلّ ما لا يتماشى مع هواها نفْساً وقناعاتِها عقلاً، خال كثيرون أنّ المأساةَ كانت وستبقى بعيدةً عنهم بُعدَ الصين مكانياً واجتماعياً وثقافياً، ولعلّهُ ما كان لغير المختصين بالوبائيات، أو حتى لبعضٍ أو أيٍّ من هؤلاء، أن يَزِن ثقل تلك اللحظة ويدرك تماماً آثار العصف الذي كان ينتظرنا والذي ستلازمنا تداعياته أعواماً مقبلةً على أقلِّ تقدير.
منذ ذلك اليوم، لم يألُ الوباء جهداً في اختراق دفاعاتنا، حتى أشدّها تحصيناً، ومَن سَلِمَ -حتى اليوم- من إصابةٍ، خفّت أم اشتدت، أو من فقدان عزيز، لم يسلم من تغييرٍ جذريٍّ في أسلوب حياته، ومن تداعياتِ ذلك على مختلف الأصعدة، ولا سَلِم من حالةٍ لا يمكن إغفالها من التلوث السمعي والبصري بمصطلحاتٍ غريبة، واشتقاقاتٍ عنها، تحطّ يومياً على قاموسنا المتداول، دونما فهمٍ جليٍّ بالضرورة لمدلولاتها، بل مجرد محاولاتٍ خائبة مصدرها خبرٌ منزوع المصداقية من هنا، ومقابلةٌ مع مدّعي امتلاك الحقائق كاملةً من هناك.
إقرأ أيضا :بحثاً عن لقاح كورونا الأمثل
أظهر الوباء ثغرات الأنظمة الصحية وأنظمة الضمان الاجتماعي، إن وجدت، ووقوعَ شعوبٍ ومجتمعاتٍ برمّتها ضحيةَ أوهامٍ بيعت لها بغلافٍ برّاقٍ جذّاب، أما أكثرُها حظاً، فلم تسلم من وعودٍ تبيّن لاحقاً أنها صعبة الإدراك. هي أزمةٌ صحيةٌ ظاهراً، نعم، إلا أنه من السذاجة بمكان عزلُها عن سياقها السياسيّ والاجتماعيّ وحيثياتها الأخلاقيّة، وبناءً عليه، ليسَ أبلغَ هنا من قول المعلّم دانتي: "إنّ أدنى مستويات الجحيم مخصصةٌ لأولئك الذين يبقون على الحياد في زمن الأزمات الأخلاقية."
لقد تطلبت السيطرة على بعض الأوبئة والأمراض التي عرفتها البشرية عبر التاريخ، كالطاعون والجُدَريّ وشلل الأطفال، عقوداً من الزمن، لكنّ العلم وأدواته التكنولوجيّة اليوم لا تشبه أياً مما كانت عليه ذاك الوقت، بدءاً من وسائل فهم الخصم، العامل الممرض، ومعرفة خصائصه وصفاته النوعية البنيوية والوظيفية، وبالتالي تحديد مكامن قوته وضعفه، وصولاً إلى فهمٍ واضح لفيزيولوجيا الخلية المصابة، وتحديد ما يمكن أن يشكّل فيها أو في خصمها هدفاً لاستراتيجيات علاجيةٍ أو وقائية جديدة.
إن كانت خبرة الإنسان بالتعامل مع وباء كورونا المستجد لا تتعدى العام الواحد، فإن خبرته الفعلية في تطوير اللقاحات تناهز المئة عام. صحيحٌ أن العالم لم يشهد عبرها تطوير لقاحٍ في أقل من عشر سنوات، بيد أن أبرز العوامل المتحكمة بمدة التطوير هذه هو التمويل، وهو ما نجحت أزمة كورونا بتخطيه، ما أظهر أنه من الممكن تخطي مدة التطوير المطوّلة أنّى تواجدَ التمويل الكافي والحاجة الفعلية الآنية والمُلحّة التي وَلّدت طلباً كثيفاً وفتحت أسواقاً لا يستهان بها، الأمر الذي مكّن المطورين من إبرام عقود بيعٍ مسبقة مع مختلف الجهات الراغبة بالحصول على المنتج النهائي منذ ظهور باكورة نتائج التجارب السريرية، وأتاح لهم بالنتيجة أن يأخذوا على عاتقهم المخاطرة بتطوير خطوط إنتاجٍ على مقياسٍ ضخم حتى قبل انتهاء جميع مراحل التجارب السريرية وصدور نتائجها والتقييم النهائي لها أو اعتمادها من قِبل الهيئات المعنية.
من جهة ثانية، فقد شهدت العقود الأخيرة تغيراً جوهرياً في استراتيجية تطوير اللقاحات، فما كان يتم تطويره سابقاً عبر تقديم العامل الممرض بعد إضعافه أو تعطيله، أو تصنيع مشابهات له، ثبتت خطورته على العاملِين على التطوير قبل سواهم في حال فشل عملية التعطيل أو الإضعاف، فضلاً عن احتمالية حصول طفرات جديدة تؤدي لفيروسات متحورة أسرع انتشاراً أو أشد إمراضية من تلك التي ننشد الوقاية منها.
صحيحٌ أن تقنية إدخال شيفراتٍ من الحمض النووي للعامل الممرض إلى الجسم المراد تمنيعه ليصار إلى تصنيع بروتينات العامل الممرض في الجسم وتكوين رد فعل مناعي عليه، هي تقنية حديثة نسبياً، إلا أنها ليست وليدة العام، سواء كآليةٍ وقائية (كبعض لقاحات الانفلونزا مثلاً) أو حتى كآليةٍ علاجية، إذ إنها تستخدم وبنجاح وفعالية منذ عقدين من الزمان ونيّف في علاج أمراض شتى، عبر إدخال حمضٍ نوويٍّ ضروريٍّ لتصنيع بروتين أساسي في عملية العلاج، لتصبح الخلية المعالَجة بحد ذاتها مصنعاً لعلاجها.
تُعَدُّ هذه الآلية بإنتاج اللقاح أكثر أماناً من سابقتها المعتمدة على فيروسات ميتة أو مضعفة، ليس فقط على متلقي اللقاح، بل على مطوّريه من باحثين وتقنيين، ما يجعل عملية التصنيع على مقياسٍ كبير أسرع وأفعل وأكثر جدوى، وهو عاملٌ إضافيٌّ يساهم، ولو جزئياً، في تفسير سرعة التطوير والتصنيع التي أضحى على إثرها اليوم 13 لقاحاً ضد فايروس كورونا المستجد قيد الاستعمال، فضلاً عن 79 لقاحاً في مرحلة التطوير السريري، و182 في مرحلة التطوير ما قبل السريري، بحسب آخر تحديث نشرته منظمة الصحة العالمية بتاريخ 5 من آذار/مارس 2021، ما يَعِد بتوفير لقاحاتٍ جديدة أو نواة لها في المخزون، أو أقله بسرعةٍ وديناميكيةٍ مقبولتين حيال جائحات أو أوبئة محتملة مستقبلاً.
سنشهد في الفترة المقبلة مزاوجةً بين اللقاحات التي باتت متاحة، وذلك بحثاً عن فعاليةٍ أكبر أو استمراريةٍ أكثر لهذه الفعالية، كما سنشهد تعاوناتٍ جديدةً ولربما اندماجاتٍ بين الشركات أو الجهات المطورة والمنتجة والمسوِّقة من القطاعين العام والخاص على السواء، على حساب المنافسات والاستئثار بالسوق، حتى إنّ اتفاقيات التعاون أو الاندماج هذه، والتي تستغرق مفاوضاتها عادةً أشهراً أو سنوات، ستغدو ناجزةً على نحوٍ أسرع مما كانت عليه الأمور آنفاً، وليس أول هذه التعاونات، ولن يكون آخرها، ذاك المبرم بين شركة آسترازينيكا ومعهد غاماليا المطوِّر للقاح سبوتنيك الروسي، والذي بدأت بفعله مطلعَ العام التجاربُ السريرية لاختبار التآزر بين اللقاحين.
إقرأ أيضا :أين أضحت فرنسا في سباق تطوير لقاحات كورونا؟
من ناحيةٍ ثانية، تشهد أروقة المراكز البحثية في أنحاء العالم نشاطاً غير مسبوق، وشحذاً للطاقات والإمكانات والهمم، إذ يرعى معهد باستور الفرنسي حالياً، على سبيل المثال، أكثر من خمسين مشروعاً بحثياً، منفرداً أو على شكل تعاونات مع هيئات بحثية وأكاديمية ممتدة على نطاق العالم، منها ما يصبو لفهمٍ أعمق لآليات انتشار الوباء من الحيوانات إلى البشر، وكذلك بين البشر أنفسهم، وبين الخلايا المختلفة لدى الإنسان المصاب، وذلك بغاية الحد من الانتشار على اختلاف مستوياته، فضلاً عن السعي لمزيدٍ من التطوير لتقنيات التقصي لناحية حساسيتها ودقتها وبالتالي مصداقية نتائجها، وكذلك زيادة سرعتها والخفض من تكلفتها، وعدم حصر التقصي عن الفايروس بالمصابين أو المصابين المحتملين وحسب، بل ليتعداه إلى الكشف عن الفايروس في الهواء، ما سيشكل قفزةً نوعيةً على طريق إمكانية التدخل الوقائي-العلاجي على مستوى نقاط الالتقاء الأولى للفايروس بالإنسان.
لا يمكن الاستهانة هنا بأهمية تقنيات الذكاء الصنعي إن أُحسن توظيفها كإحدى أدوات تمييز الإصابات بفايروس كورونا عن سواها من أمراض الجهاز التنفسي التي تتشابه معها بالأعراض، وإجراء تقاطعات بين الأبحاث بمختلف أطيافها ومجالاتها، حتى تلك التي تُجرى على كائناتٍ غيرِ الإنسان، والتي أضحت، كما بات معلوماً، خزاناً للعديد من الأوبئة ونقطة انطلاقها نحو الإنسان.
أما فيما يخص البحث عن علاجات آمنة وفعالة، فإنه، وفضلاً عن التمويل، فإن أحد أبرز التحديات أمام إدخال أي اكتشاف علاجي جديد حيز الاستخدام الواسع هو القوانين، إذ إن عمليات البحث والتطوير محكومةُ بالقوانين حد التكبيل. ورغم المرونة والسرعة النسبيتين اللتين شهدناهما في هذا الخصوص مع اللقاحات، فلابد، ريثما يتخطى أي علاجٍ جديد السباق متعدد الحواجز، من توسيع المعارف عن المتوفر من علاجات وخصائص كلٍّ منها وطاقتها الكامنة والسعي لإيجاد تطبيقات علاجية جديدة لها، مع ضرورة التوصل لإلمامٍ أشمل وأعمق من قبل فرق الرعاية الطبية بهذه الخصائص وحسن توظيفها.
وفي هذا السياق، لا ينبغي التقليل من أهمية أي بحث مهما تهيأ للمُطّلع عليه ضيقُ نطاق تطبيقاته، فحتى الأبحاث التي تأتي نتائجها سلبيةً أو دون التوقعات، أو يظهر آنياً عدم جدواها، فإنه من الممكن استخلاص عِبَرٍ منها قد توجه مسار غيرها من الأبحاث وتجنبها من الوقوع بالفخاخ عينها.
إن إحراز إنجاز ملموس يعول عليه على أي من هذه الجبهات لن يكون إلا حصيلة سنواتٍ من البحث الكثيف وسلاسل من تجارب متكررة، دقيقة ومضنية، يحكمها الخطأ والسّرّيّة والكثير من الرهانات. إن تسريع الخط الزمني لإنجاز هذه الأبحاث ليس بالأمر السهل، لكن التاريخ زاخر بأمثلة كانت فيها الأزمات وقوداً وقوة دافعة نحو إنجازات ما كانت لتتحقق بهذه الفعالية أو السرعة لولاها، كأساليب العلاج والوقاية المختلفة التي طورت ووضعت قيد الاستخدام إثر مآسي كل من الحربين الأولى والثانية، ولعل أهمها على الإطلاق التصنيع واسع النطاق للمضادات الحيوية.
من جهة ثانية، فإن أي خطأ سيكون تأثيره كارثياً، إذ إنه لن يضع صحة وسلامة الإنسان على المحك وحسب، بل سيزعزع ثقته بالبحث العلميّ ومعطياته ونِتاجه، والشواهدُ على ذلك كثيرة، ولعل أبرز شواهدها حالات التوحد التي تم ربطها بأحد المكونات المساعدة للقاحات، ما أدى لنشوء معسكرٍ لا يستهان به من المناهضين للتطعيم بعد أن كانت استراتيجية التطعيم قد حققت نجاحاً غير مسبوق بالتخلص الكلي من الجدري وشلل الأطفال وغيرها من الجوائح على مستوى العالم. وعليه، فمن الأساسي بقاء الجهات المعنية بحالة تيقظ، وإجراء تحليل مستمر وسريع للمتغيرات، واستشراف السيناريوهات المحتملة والتأهب لمواجهتها، ما يمكّن من اتخاذ قراراتٍ سريعة ذات جدوى، والأهم، عن درايةٍ وبعيداً عن التخبط، لإبقاء الأمور تحت السيطرة.
إقرأ أيضا: أسس سلامة لقاح كورونا على محك الأعراق
الحادي عشر من آذار/مارس عام 2020، يومٌ سيذكره العالم جيداً لسنواتٍ، وربما لعقودٍ مقبلة. دروسٌ كثيرةٌ تعلمناها من العام الأول في عمر الوباء، وأخرى مازالت قيدَ التعلّم، لكنها ستبقى دون شك مرجعاً ومنطلقاً لمراجعاتٍ مطولةٍ عميقةٍ وشاملة. وفي حال امتلكنا رؤيةً تحليليةً ونقديةً موضوعية مع القدر الكافي من المرونة ومهارات التكيف مهما تشابكت التعقيدات، فلربما ستستحيل هذه الأزمة، أو غيرُها من الأزمات، شرارةَ انطلاقٍ على طريق الألف ميل نحو إحداثِ تغييرٍ نوعيٍّ في أسلوب وأدوات التعامل مع الكوارث، الصحية منها أو الاجتماعية أو السياسية أو حتى الأخلاقية، والبناءِ على مكامن القوة والنجاح حيث وجدت وتطويرِها بشكلٍ فعّالٍ ومُجدٍ وصولاً إلى واقع أفضل، أو على الأقل، لا يشبه أياً مما نحن عليه اليوم.
نُشر هذا النص ضمن ملف “عامٌ على الجائحة” على موقع أوان ميديا في 11 آذار 2021