05 مايو . 3 دقائق قراءة . 1097
يُجمعُ متنبئو ليلة رأس السنة -على تباين مشاربهم- على إطلاق عنوانٍ عريض ٍعلى العام الذي يدقُّ الأبواب، ويشيع أن يكون هذا العنوان غامضاً فضفاضاً بحيث يمكن إسقاطه على مروحةٍ واسعةٍ من الأحداث، ويحمل طابَعاً سوداوياً بالغالب، حاله حال واقعنا الذي لا يتطلب أيّةَ قدراتٍ ماورائية لاستشراف مساره. أما اليوم، وقد أوشك عام 2021 على إدراك منتصف الطريق، فلعل من الممكن أن يُجمِعَ غير المتنبئين على وَسْمِ ما مضى من العام واستشرافِ ما هو آت من خلال عنوانٍ عريضٍ، سيكون بجدارة "عام انتظار تحقق الوعود".
تغيب كلياً عن هذا العنوان أية حماسةٍ عادةً ما ترافق عنصر المفاجأة، كيف لا وقد تبلدت أحاسيسنا حيال مفاجآتٍ نابنا منها على مدى عامٍ ما يكفي لعقدٍ آتٍ من الزمن، بل إنّ في العنوان الكثيرَ من الضجر المصاحب للانتظار، وفيه ما يناقضُ قناعات كثيرين أنْ ما من وعدٍ إلا وتصحبه خيبةٌ تفوقه ثقلاً، وغالباً ما تعيد منتظريه أشواطاً إلى الوراء.
تزامناً مع تقدمِ سباق تطوير اللقاحات، ثم بدْءِ طرحها للتداول، أخذ يطفو أولُ هذه الوعود بأنّ بداية نهاية النفق الحالك لهذا الوباء العالمي باتت تلوح في الأفق. أما صفوة الوعود فكانت بأنّ حصول سكان العالم بأكمله دون تمييز على اللقاح ضد فايروس كورونا ما هو إلا مسألة وقت، وأننا سنتمكن، آجلاً إن لم يكن عاجلاً، من استعادة نمط حياتنا السابق.
صحيحٌ أن مسار الأمور، سواءٌ لناحية ظهور نسخ متحورة عن الفايروس، أو بطء سير عملية التطعيم، لا يشي سوى بطول الطريق، بَيدَ أن تتبُّعَها باتَ البلسمَ الأوحدَ في هذه المرحلة التي لا تقل عن سابقتها صعوبة، فبات جلياً الاهتمام بالإحصاءات اللحظية لعدد حالات العدوى المثبتة، أو عدد الوفَيَات، أو عدد متلقّي اللقاح، ليس من قبل المعنيين والمختصين وحسب، بل من قبل عامة الناس ممن ما كانوا ليُعيروا علم الأرقام اهتماماً في عالم ما قبل كورونا.
ومع تقدم سباق تطوير اللقاحات التي كُشِفَ الستار عنها تباعاً وبدء استحصالها على تصاريح الاستخدام، اعتلت وسائل الإعلام - المختصة منها وغير المختصة على السواء - موجةَ المنافسة، وفاضت علينا بتقارير لا حصر لها مايزت بها هذه اللقاحات استناداً إلى النِّسَب المصرح عنها من قبل الجهات المطوِّرة سواء لناحية الفعالية أو السلامة والأمان أو عدد الإصابات بالعدوى أو الوفيات بين المتلقين، ما هيأ أرضاً خصبة لجدالاتٍ مطوَّلة طامحةٍ للوصول لأحكامٍ قطعية تُمكّنُ من مفاضلة هذه اللقاحات.
إقرأ أيضا :عامٌ في عُمرِ الوباء... هل في المنظور ما قد يُعدّل كفّةَ الإخفاقات؟
ولعل مَكمَن الالتباس لدى الأعم الأغلب من الناس يقع في النسب المئوية للفعالية التي صرّحَت عنها كلٌّ من الشركات المطوِّرة للقاحات، إذ إنّ من الطبيعي أن يجنح القارئ أو السامع للاقتناع بأن لقاحاً بفعالية 95% هو أفضل بطبيعة الحال من ذاك ذي الفعالية 66%. وليس مستغرباً أن يتم تطويع هذه الأرقام بما يخدم بعض الجهات، وليس ذلك ببعيدٍ عن بعض الحكومات في محاولةٍ لتبرير انتقائيتها في عقودها المبرمة مع الجهات المُصنّعة والُمورّدة للقاح على حساب خياراتٍ أخرى متاحةٍ يجري تجاهلها كلياً، ولا هو بمستغربٍ من وسائل إعلامٍ تعمل وفق أجنداتٍ موجّهة تصبو لوضع ثقة المتلقين ببعض مصادر اللقاح على المحك، ما يدفع هؤلاء المتلقين للبناء عليه في انتقاء اللقاح على المستوى الفردي، لِمَن يملكون رفاهية الانتقاء. إلا أن الواقع أن مقارناتٍ كهذه غير ذات جدوى أو صدقية في ضوء المعطيات الراهنة، بل إنها مغلوطة ومضلِّلة ولا يمكن أن يُعتدّ بها بأي شكل، وذلك لأسباب عدة :
بدايةً، علينا ألا نتغافل عن أنه، وبالرغم من التباينات العديدة بين اللقاحات المتوفرة وخصوصية كلٍّ منها، تشترك هذه اللقاحات جميعها في قدرتها على تأمين حمايةٍ بنسبة 100% من التداعيات الشديدة للإصابة بفايروس كورونا، كالحاجة لاستخدام أجهزة التنفس الاصطناعي والفشل المعمم لأجهزة الجسم والوفاة، فلا تتعدى الأعراض المرافقة للإصابة لدى متلقي اللقاح تلك المرافقةَ لنزلات البرد الموسمية الطفيفة. فضلاً عن ذلك، فإنها تشترك جميعاً في قدرتها على إيصال المجتمعات المتلقية إلى المناعة الجمعية، وهو بحد ذاته - من منظور الهيئات الصحية والوبائية - إنجازٌ يتخطى كل طموحاتها لو سألتَها خلال الأشهر الأولى من انتشار الوباء.
أما فيما يتعلق بما انتشر من نسبٍ مئوية لفعالية اللقاحات المختلفة، والتي بتنا نحفظها عن ظهر قلب، فقد تم التوصل لهذه الأرقام تحت شروطٍ شديدة التباين، تباينت فيها عينات الأفراد عمرياً وصحياً واجتماعياً وعرقياً، فضلاً عن تباين الحيثيات والظروف التي تم إجراء الدراسات الأولية ويتم إجراء الدراسات المتممة وفقها، فقد جرى مثلاً اختبار فعالية كلٍّ من لقاحي فايزر- بيونتك ومودرنا حين كان الفايروس بنسخه الأولى منتشراً، كما كان انتشار الوباء حينها أقلَّ بكثيرٍ مقارنةً بما بات عليه حين إدراك اللقاحات المنافسة مراحل التجارب السريرية.
على المقلب الآخر، فقد جرى اختبار كلٍّ من لقاحي آسترازينيكا وجونسون آند جونسون في مناطق جغرافية تختلف عن تلك التي اختُبِر فيها لقاحا فايزر- بيونتك ومودرنا، كجنوب أفريقيا حيث ظهرت النسخ المتحورة من الفايروس بقدرةِ انتشارٍ وتداعياتٍ تتخطى سابقاتها، وهو ما جعل التحدي أكثر صعوبةً حين الحديث عن فعالية أي لقاحٍ موجّهٍ لهذه المناطق جغرافية.
من جهةٍ ثانية، افتقرت باكورة نتائج تجارب بعض اللقاحات، كآسترازينيكا، لبياناتٍ وافية لدى الشريحة العمرية من هم فوق 65 عاماً. وبالرغم من أن الوكالة الأوروبية للأدوية قد تغاضت عن ذلك، مانحةً الإذن باستخدامه لدى البالغين من مختلف الأعمار، فإن استعماله مازال مقتصراً في دولٍ كألمانيا على البالغين ممن هم ما دون 65 عاماً، ما يجعل المقارنات مغلوطةً لناحية الفعالية والأمان بينه وبين منافسيه من اللقاحات القابلة للاستخدام لدى كبار السن ممن يعانون على الغالب من أمراض مزمنة قد تتداخل بالنتائج.
لذا فإنه للتوصل إلى مقارنةٍ حقيقيةٍ دقيقةٍ ومعتدٍّ بها، يتعين على الباحثين إجراء الدراسات المقارِنة بشكل متزامن وعلى الفئات البشرية العرقية والعمرية والسكانية عينها بعد إخضاعها لظروفٍ متماثلة. وحتى بِتحقُّق ذلك، فإن الأمر قد يتطلب أشهراً قبل أن يغدو بالإمكان الخلوص لمقارنات شاملة دقيقة ومعتدٍّ بها.
أما إن سلّمنا جدلاً بمصداقية ما هو متاحٌ لنا من أرقام ومعطيات وما بني عليها من تصنيفات ومفاضلات، فيكفي التذكير بأنّ أياً من هذه سيكون رهن تغييرات جذرية في حال تغيير الجرعة المعطاة في المرة الواحدة، أو المسافة الزمنية بين الجرعتين، أو حين المزاوجة والجمع بين لقاحين أو أكثر يعمل كل منها بآلية مختلفة عن الآخر. بناءً عليه، قد يكون اللقاح الأمثل، بالشروط المثلى، هو ما لم يتم التوصل إليه بعد.
لا يمكن أيضاً إغفال العامل البشري في تفسير البيانات والبناء عليها، فقد تتباين مثلاً معايير مصممي التجارب السريرية التي تم بناءً عليها استنتاج أمان وسلامة لقاحٍ ما، كتعريفهم لما سيعدّونه في قراءتهم للنتائج أعراضاً جانبية بسيطةً أو متوسطةً أو شديدةً، وربطها باستخدام اللقاح أو بتداعيات العدوى أو بعوامل ذاتية متعلقة بالوضع الصحي للمريض.
إقرأ أيضا :أين أضحت فرنسا في سباق تطوير لقاحات كورونا؟
في الكفة المقابلة، لم يعد خافياً على أحدٍ أن عدداً من حالات العدوى بالفايروس رغم تلقي اللقاح وكذلك الوفاة جراء تجلطات دموية أو غير ذلك من المضاعفات الخطيرة باتت مقترنةً اليوم بعددٍ من اللقاحات المتداولة. لا يمكن التقليل من ثقل ذلك وأثره على ثقة الناس بهذا اللقاح أو ذاك، لا بل بمبدأ عملية التطعيم من أساسه، ومهما كانت نِسَب الحالات الخطيرة المسجلة قياساً لعدد المتلقين ضئيلة، حتى لتكاد تكون مجهرية، فلن يخفف الإيمان بعلم المنطق والأرقام من وطأة الخسارة على أُسَر المتوفين. إلا أنه وفي ظروفٍ بعيدة كل البعد عن المثالية، كحالات الكوارث والجوائح والأوبئة، فإن المفاضلة بين الخيارات سيحكمها مبدأ "أَهوَنُ الشَّرَّيْن"، والذي يتظاهر في حالتنا هذه في كون نِسَب الحالات الخطيرة والوفيات في حال العزوف عن أخذ اللقاح ستفوق بأشواط تلك التي تكشّفت لنا بين الملايين من متلقي اللقاحات المختلفة.
فضلاً عن الأمان والسلامة، فإن أي تصنيفٍ لأفضلية اللقاحات في ظل الظروف الراهنة لا ينبغي أن يكتفي بالأخذ بالفعالية بالحسبان، بل يتعين أن يتعداها ليتناول استمرارية الحماية التي بإمكان اللقاح أن يوفرها وسِعَة طيف هذه الحماية ليشمل السلالات الجديدة المتحورة من الفايروس، دون إغفال الكلفة والإمكانيات اللوجستية لتوزيعها وإعطائها، إذ إنّ لقاحاً ذا فعاليةٍ يشيع أنها متواضعة لكنه في الوقت عينه لا يتطلب درجات حرارة شديدة الانخفاض لثباته أثناء النقل والحفظ والاستخدام سترجِحُ كفته حكماً كخيارٍ وقائي أمثل في الدول المدارية والاستوائية على لقاحاتٍ يشيع أنها تفوقه فعاليةً لكنها تتطلب شروطاً صعبة التوفر للنقل والحفظ والاستخدام. وذلك بالطبع ريثما يتم تعزيز البنى التحتية المحلية في هذه الدول الحارة أو الرطبة بما يضمن إمكانية الاستخدام بالشروط المثلى لخياراتٍ بديلة من لقاحاتٍ لا نملك حتى اللحظة إمكانية الجزم أنها تفوق منافساتها فعالية أو أماناً.
وبالرغم من كثرة المشككين بمصداقية أيٍّ من الأرقام المعلنة بمُطْلَقِها أو طرائق التوصل إليها، ناهيك عن أن فرضيات التمييز العرقي والطبقي فيما يخص التعامل مع الوباء وتداعياته حول العالم تجنح في كثير من الأحيان لإثبات صحتها، لكنْ قد لا يكون هناك من ضيرٍ في تنحيتها جانباً من آن لآخر لصالح رؤيةٍ أشمل وأعمق فيما يخص مواقفنا المسبقة المبنية على بياناتٍ مغلوطةٍ ومضلِّلة في أغلب الأحيان. أما إن كنا نصبو للمثالية في التعامل مع الوباء والسيطرة عليه، فإن المؤشرات تُجمِعُ للأسف على أن الطريق ما زالت موغلةً في الطول.
لن يملك كُثُرٌ رفاهية اختيار اللقاح الذي سيتلقونه، وسيجد كُثُرٌ - بالرغم من كل ما ذٌكِر آنفاً - صعوبةً في تخطي ما تُحدِّثُنا به الأرقام، لذا تبقى التوصية الأجدى لاختتام هذه الجدلية أنَّ أفضل لقاح ليس سوى ذاك الذي سيكون متاحاً لنا.
بعض المراجع:
Nature 591, 16-17 (2021), doi: https://doi.org/10.1038/d41586-021-00409-0
Communications of Deborah Fuller, Professor of Microbiology, University of Washington
نُشِر هذا النص على موقع “أوان ميديا” بتاريخ 03 أيار2021
01 ديسمبر . 10 دقائق قراءة