قراءات نقدية في تجارب تشكيلية عربية مبدعة

Aboud Salman

09 أبريل  .   5 دقائق قراءة  .    1188

 

ثراء لوني يتدفق من ذاكرة عذبة

الأربعة قدموا صورة إبداعية غمسوا فرشهم في لون الطين ونسجوا بها واقع الموروث المعماري

العويس يستعيد ذاكرته الطفولية,, والغنام يمزج الخيال بالواقع والحواس يختزل المسافة وأباحسين يؤكد على الذاكرة الشعبية



يعد الفن التشكيلي جزءاً مهماً في التفكير الإنساني بمفهومه العام, فقد ادى الى الانسانية خدمة جليلة في تصويرها في شتى عناصرها الجماعية, لتبقى حية متوقدة في ذهن الإنسان على مر العصور,.
حيث إن رسالة الفن التشكيلي ذات مدلول ايجابي مهمته توثيق العلاقة مابين الفنان والمجتمع انطلاقاً من نظرية الفن للمجتمع وليس الفن للفن لهذا فإن ريشة الفنان العربي السعودي اتجهت إلى هذا المسار وحققت فيه نجاحاً مذهلاً حيث قامت بتسجيل الحياة القديمة بمافيها من تنوع عن طريق اللون والريشة مما جعلها في مأمن من الزوال في ذاكرة الناس.
من هذا المنطلق جاءت فكرة المعرض التشكيلي البناء القديم في الفن التشكيلي , للفنانين خالد العويس وخالد الغنام, وعبدالرحمن الحواس وعبدالمحسن اباحسين.
في قراءة اولية للبناء القديم في الفن التشكيلي العربي السعودي,, والمعرض المشترك الاول لهؤلاء الفنانين الرائعين في اجتماعهم وافكارهم وماطرحوه من جديد سواء على صعيد الفكرة أو العمل او التقنية والمكان,.
العويس وما يرسمه من جديد:
حيث وجه الاشياء المألوفة لذاكرتنا التي لابد له ان يكشف لنا عن صور تحاكيها أو تكاد تشبهها.
فثمة رحلة واحدة الى مكان يذكرنا فيها لايمكن إلا أن تعيدنا إلى عمق تلك الصور, حيث لابد ان تشغلنا وتأخذ حيزاً سعيداً لتسيطر على خيالنا,, فتنسجم معها وتفتح لنا معها تاريخاً مرئياً الذي هو تاريخنا المفعم بالمبالغة العاطفية الرومانسية,, كل ذلك يعيدنا إلى مرحلة لذكرياتنا الحميمة بنشاط ولذة,.
حيث (الرياض) بالنسبة لهذا الفنان قد اعادت له الذاكرة الطفولية الخصبة والمليئة بالحب في معرضه الحالي المشترك مع زملاء له,, بعد رحلة مفعمة بالبحث والتجريب والعمل، وقد حضرت المدينة القديمة معه بحواريها والدروب الضيقة وطراوة البيوت الطينية بأفقها السماوي الشفاف، وقد طغت في اعماله تلك المسحة الجليلة بألوان الارض الترابية المنعشة ببرودتها عندما تهب لارواحنا في زرقة السماء الهادئة وكأنها جنبات الذكريات ودفء تلك الامكنة التي نتعشقها.
ومع هندسياتها المعمارية المتعامدة بطابع شرقي اصيل يتباهى بها الى قمة مستويات ضربات ريشته التجريدية وهي تنزع الى ايقاعات بصرية انيقة وهادئة ومنفعلة بالشحنة الانفعالية عن طريق الكتلة ككل وماتحدثه من تأثير درامي في الفراغ او عن طريق التباين اللوني وحركة الخطوط وهارمونيتها التي تبرز درجة الثقل لتؤكد علىحركة فتنة البيوت الطينية القديمة وسحرها النابض في العين والمنتشي بأنفاس حياة حالمة كماهي راقصة ريشة الفنان مع توزيعات الضوء وانتشاره في اللوحة مع تباينه مع الظلال والاشجار والمقاطع الدائرية التي تسيطر على الجانب التعبيري في لوحاته,, لتبرز الجهد والعناء في تموسق وحدة فنونه الجمالية في اعماله الفنية التي اعتمدها على الضربات المهتزة والشفافة في آن واحد,, في حركة ناسجة لموضوعاته الساخنة والتي تزخر بالنبض والحيوية المستمدة من المواقع وقيمة لون الصحراء القوي في درامية الموضوع والتفاصيل,, والعمق النفسي لانفاس ذاكرته التي يرسم فيها حميمية رحلته الفنية الجديدة والجدية بكل المقاييس والتي ننتظر منها الكثير بحب وشغف وموضوعية.
الفنان: خالد فهد الغنام
يقول الشاعر والناقد الفني (شي, بودلير): ان المتعة العظمى ان تحدد سكنك في المتعدد,, في المتموّج,, في المتهرب في اللانهائي.
اما حين يأتي التحديث متلائماً مع الموضوعات الأولى فذلك يتجلى مع تعدد لغة الحوار البصرية والسمعية واللغة التشكيلية التي قد تتلاءم مع الحس الداخلي في عمق صيغ الانسان الجديدة والمتجددة مع لغة الواقع المندفع نحو الهيمنة الجديدة من خلال لغته الفنية المحدثة, ليقودنا هذا الكلام ونحن نرى تجربة الفنان خالد الغنام الجديدة والقديمة من خلال نقاط من التأقلم والتعايش واخلاصاً للروح الانسانية التي تعمل على الابداع ومسمياته في حضور خصوصيتها ومستوى الطموح فيها مع نوعية كل ماهو ابداعي وحقيقي,, وهي الضفاف الاخرى في عوالمه الفنية المطلقة على عالم الفني فيه وما تعطيه في اساس متين وحضور قوي وصلب في تجربته التي تحمل معها منتهى الثراء اللوني والموحيات التكوينية الاخرى بكل ثقة وجرأة او من خلال مساحات واسعة ارتاح لها الفنان وريشته,, والتي هي تجربة الفنان خالد الغنام وهو المزيج لما بين عالمي الخيال والواقع ومايريده الفنان مع كل هذا القلق الابداعي الذي عرفه الفنان من خلال مسيرة فنه في رحلته الفنية المستمرة مع ابعاد تجربته المفطورة على الالوان الباردة الهادئة، او هو يحلل الطبيعة والواقع وما يحاول ان يضيف إليها مستخدماً الاسلوب نفسه عندما يمثل الواقع والامكنة في صورة التصميم الهرمي المنبسط على الناحية البنائية او عندما يرى المساحات وهي تتداخل مع توازنات الشكل الرئيسي كتلك الأعمال الحديثة والتي من خلالها يحاول الفنان جاهداً الفكاك في ترسيم التفاصيل الدقيقة الى منحنيات انفعالية لها كل الجانب الروائي ولكنها تقتصر على العملية التشكيلة التي هي الخط الاساسي في عناصره التصويرية التي ينحو نحوها بقوة سريعة وجذابة عين الفنان الرائي.
الفنان التشكيلي عبدالرحمن الحواس
تجربة فنية تختزل مسافة شاسعة من الفن والحب والمودة واللون والهدوء بعد ان بدأت تتمرحل وقد امتلكت نبرة صادقة يتمتع بها صاحبها بجدية, ويهرول اللون فيها حتى يصل الىحدود اللامنتهي ومن اجل معرفة كل شيء يريد الفنان ان ينموويتقدم الى عالم الابداع والتشكيل وعندما يصل,, وهذا نادراً مايراه الفنان في كل عمل او تجربة اوموضوع,, ليصعد الى تخوم الضفة الحقيقية ومع تلك الذاكرة الحنونة التي حملت من مدينة الام الرياض .
اما عن اعماله فهي تنتظر في لهفة وشوق مع تلك الدرجات اللونية التي تحدد غفوته ومامدى الراحة فيها وغايتها مع مصدرها في ذلك الرقيب الناظر نحوها من خلال رسمه لتلك الاشياء التراثية وكل مايتعلق بالماضي الساكن في اللوحات في صمت عظيم وفي فسحات جمالية متعادلة مع الضوء الكثيف فالذي نجده مع هذه الملامح التي توزعت بحب وتفاؤل وأمل لتبعث في النفس الانسانية مايحترم كل هذا الحلم الانساني وهو يشع بلهفةوحقيقة وومض وقد يورق املاً دائماً وانفتاحاً على جرار فخارية تستعمل للماء ودلال للقهوة العربية الاصيلة واباريق وسدو وتمر وسعف وبخور ومواقد وابواب قديمة مطرزة بالحنان وزخرفات للالوان المشعة كوجوه لوحاته وهي العزف على اوتار الحياة الاولى وقد يسكنها عذاب جميل وحالةأخرى في ماء الحياة الذي يستمر مع انغامه اللونية الساكنة في بقع لونية كثيفة قد تتوافق مع ضربات الشبه المشبعة بعالم الكدح والتعب ماخلفه الآباء والاجداد في كثافةوجودهم الانساني النبيل.
الفنان عبدالمحسن أبا حسين
يعد الفنان عبدالمحسن اباحسين,, احد فناني التشكيل السعودي ومن الذين اكدوا على التراث الميثيولوجي والشعبي المحلي للذاكرة الشعبية في الحياة السعودية كما أنه اجتهد بعد الفنان التشكيلي علي الرزيزاء لان تكون اعماله محاكاة بطابع عربي اصيل كلوحات الفسيفسائية المعتمدة اصلاً على العنصر التزييني وخاصة في المرزات للاشغال الخشبية المصبوغة بايدي فنانين شعبيين مهرة وقد حولها الفنان على طريقته في استخداماتها اليومية الى اللوحة الفنية القماش بعدما شكل هو هذه المطرزات البيوت والنوافد ورسم البيوت القديمة مسقطاً من عنده عليها الاضواء المنكسرة التي خلقت ظلالاً وعتمة تتعشقها العين وتحلو امام المشاهدين,, فتحولت هذه اللوحات وهذه البيوت الى شاعرية جميلة وكأنها -هذه البيوت- غير خالية من وجوه الناس الطيبين عندما ينتشي الإنسان في النظر اليها او عبر زخرف الحوائط التي تضم بين طياتها ذكرى الناس الرائعين بكل افراحهم واحزانهم ومشكلاتهم وهمومهم او من خلال رقة التعبير في انعكاسات الاضواء في لوحاته ومايليها من ظلال عبر الوانه المتدرجة التي تشبه إلى حد كبير درجات الالوان المائية او الترابية المغموسة بخامة التصوير والملمس والظل والنور وقدرته في التحكم في التكوين واملاكه لمفرداته المصورة بحرفته وقد تختلط مابين الديكور واللوحة في تجربته الفنية وهو المحتفظ بالحالة الهارمونية وبنائه التناظري في عملية ولادة اللوحة عندما يتنامى في لغة شاعرية ذات حسّ تصاعدي عنصرها الموتيف الشعبي المأخوذ من حياة الاقدمين وتاريخ المدينة القديمة فيما تركه لنا الاجداد هؤلاء الاولون في زخرف ومقرصانات ومآثر اسلامية او من خلف ابواب ونوافذ خشبية كحتمية السحر والجاذبية في الهواء, وقد تطرب عين الناظر لوحات هذا الفنان الصبور والمجتهد حيث لابد لها من ان تعود بك مرة اخرى وبلغة تشكيلية قد تجعلك ترى فيها مفهوماً إنسانياً آخر لماهو إلا انعكاس لنشاط روحي وخاصة في سطورنا بعمق حاجتنا الى ان نؤكد على قيم التراث عندما يتطلب ذلك من خلال الفن او اللوحة في سبيل تواصل الحضارات التي تتوالد وتنمو دائماً في المنطقة وفي حاضرة المملكة علىوجه التحديد.

 


*قراءة وتحليل: عبود سلمان العلي العبيد*

*عضو بيت الفنانين التشكيليين بجدة

جريدة الجزيرة السعودية في 15 رمضان 1999م العدد 9947

  1
  5
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال