14 أبريل . 9 دقائق قراءة . 841
في نقاشه عن الديموقراطية بوصفها "الديموقراطية التي قد تأتي أو الديموقراطية القادمة "(la démocratie à venir) في كتابه (المارقون)، يدفع دريدا تأملاته عن السيادة القابلة للتقاسم بعيدا. فهو يدعو إلى التفكير في الديموقراطية أبعد من سيادة الدولة القومية وإلى نظام دولي يسعى لإضفاء الطابع الديموقراطي على السيادة بدلاً من الركون إلى مزاعمها المتأصلة والمقدسة بأنها غير قابلة للتجزئة أو التشارك.
في (المارقون)، يصر دريدا على التفكير في الديموقراطية بوصفها محكومة بمنطق المناعة الذاتية. بيولوجيا، تُعرَّف المناعة الذاتية بوصفها نوعا من التدمير الذاتي للجسم حيث ينتج جهاز المناعة في الكائن الحي الأجسام المضادة أو الخلايا الليمفاوية التي تعمل ضد الخلايا والأنسجة الموجودة طبيعيا في جسمه. وفي حين أن المصطلح مستوحى بوضوح من الاستدلال البيولوجي، إلا أن دريدا يوظِّفه لوصف لفتة الدفاع عن / أو الحفاظ على الذات أو على كيان محدد مما يؤدي في الواقع إلى تدميره. لذا فعندما يقترح دريدا أن الديموقراطية هي مناعة ذاتية فإنه يدعي أنها تتعرض للتهديد داخليا من قبل منطقها الخاص ذاته. هذه التسوية الداخلية أو الثلمة في الديموقراطية أمر حاسم في تفكير دريدا بـ (الديموقراطية التي قد تأتي). وأريد هنا أن أسلِّط الضوء على الطرق التي تناول بها دريدا هذا الانشقاق المؤذي ذاتيا ضمن الديموقراطية.
تتعلق القضية الأولى بالعلاقة بين الديموقراطية والسيادة. يشير دريدا إلى أنه من أجل أن يكون للديموقراطية[تفهم حرفيا بوصفها حكم (cratos) الجماهير (demos)] تأثير ملحوظ في الحكم فإنه يجب أن تعتمد على شكل من أشكال السيادة. السيادة والديموقراطية شريكان لا ينفصلان ولكنهما متناقضان حكما. بمعنى أن فعالية الديموقراطية تعتمد على السيادة: من دون سيادة، فإن سلطة الجماهير قد تُغتصب من قبل بعض القوى الأخرى، وبالتالي فقد لا يتحقق لها الحكم الفاعل.
في السعي لحماية نفسها وضمان هيمنتها التي تتشاركها مع السيادة، فإن الديموقراطية تعاني من التدمير الذاتي على غرار المناعة الذاتية. ففي محاولتها لتحصين وحماية نفسها من الدمار، تدمر الديموقراطية نفسها من خلال إغلاق وتوحيد وتحديد التعددية جوهريا؛ تلك التعددية التي تمكن من تشكيل الديموقراطية في المقام الأول. تعددية الجماهير يجب أن تُضبط وتُقيد في مجتمع السيادة: "الشعب المحدد بدولة" أو "الأمة". في هذه الخطوة إقصاءات وانكماشات حتمية تحول المجموعة غير المتجانسة إلى وحدة متجانسة. ولكن الساقطين الذي جرى تجاهلهم دائما كثيرا ما يعودون إلى مطاردة السيادة المفترضة في أي مجتمع سياسي، مدمرين بذلك مناعة المجتمع ضد الاختلاف والغيرية. ترتبط الديموقراطية والسيادة بقفلة مدمَّرة مما يعني أن الديموقراطية بحد ذاتها (أي الديموقراطية دون سيادة) لا تزال أمرا مستحيلا.
تتحول القضية الثانية إلى الاشكالية القانونية للعلاقة بين المساواة والحرية. مرة أخرى، المساواة والحرية مطلبان ضروريان ولكنها متناقضان، ويتآخيان، مع ذلك، في الديموقراطية. تأمل المساواة ضمان أن لكل فاعل داخل المجتمع قيمة متساوية، وتتضح هذه الحالة في تحديد صوت واحد لكل فرد داخل المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين. الحرية، من ناحية أخرى، هي مسألة تفرد كل فرد، حرية أن تتجاوز التساوي الذي تحاول المساواة إنشاءه. ولكن، يقول دريدا، إن الحرية مستحيلة دون مفهوم المساواة – والفكرة هي أن الحرية يجب دائما أن تحدث فيما يتصل بالحدود المفروضة من قبل الآخرين، ونحن يجب، من الناحية النظرية على الأقل، أن نكون أحرارا بشكل متساو ودون تمييز.
وهكذا، فإنه لا معنى للحرية الديموقراطية إلا إذا كان كل فرد من الجمهور حرا. لذلك، تصبح المساواة جزءا لا يتجزأ من الحرية. ولأن هذه المساوة منقوشة ضمن الحرية، فإنها لم تعد مجرد مسألة عدد وحساب ولكنها أصبحت غير قابلة لأن تحصى في حد ذاتها. يرتبط المفهومان معا جوهريا ولكن علاقتهما لن تكون إلا على غرار المناعة الذاتية. تقيد المساواة كل تفرد(بمعنى كل حرية) بوحدة قياس قابلة للاستبدال إلى ما لا نهاية. الحرية، من ناحية أخرى، تتجاوز هذا الحساب وتمكِّن كل تفرد من أن يكون غير متجانس مع الآخرين، إنها تضمن تفرد كل فرد، وتمكين كل آخر من أن يكون آخرا (بالكامل). وبالنسبة للديموقراطية، فإن هاذين العامليين المتنافسين يعتمدان على بعضها البعض - الحرية يجب أن تتم في إطار الحرية للجميع - و هذا بالذات ما يمثل الفساد الداخلي في بنية الديموقراطية، كما يراه دريدا.
الديموقراطية، بهذه القراءة، هي دائما في حالة حرب مع نفسها، لا تقوى أبدا على حل توتراتها وتناقضاتها الداخلية. وبتوظيف مصطلحات دريدا السابقة التي تعكس اهتماماته بميتافيزيقيا الحضور، يمكن أن نقول إن الديموقراطية ليست حضورا ولكنها مرجئة دائما. وحين تدعي أنها حاضرة (ديموقراطية هنا، والآن)، فإن الديموقراطية تستحث السيادة التي تدعو لتدميرها. الديموقراطية إذن ليست حاضرة تماما في المزاعم (السيادية) التي تزعم أن الديموقراطية قد تحققت. ومن هذا المنطلق فإن الديموقراطية دائما "قد تأتي to come ". ومن الجدير بالذكر أن "قد تأتي" هنا ليس من قبيل افتراض أفق ما لإمكانية الديموقراطية، كما لو كانت مجرد فكرة (بالمعنى الأفلاطوني أو الكانطي) يجب أن نسعى إليها. بدلاً من ذلك فإنها "قد تأتي" لتعبر عن خلخلة بنيوية تهدد إمكانية الديموقراطية من داخلها.
ومع ذلك، فإن الاستدلال المستقبلي الذي تشي به عبارة اـلـ "قادمة" أو التي " قد تأتي" (à venir)، كبير وذو مغزى مهم. يميز دريدا بين "المستقبل " the future – يفكر فيه بوصفه المستقبل ـــــ الحاضر، ما يمكن التنبؤ به وبرمجته – وبين ما "قد يأتي à veni" بوصفه مجيئا غير متوقع لحدث، تمزقا أو اضطرابا لا يمكن التنبؤ به، مفتوحا على كل الاحتمالات، ودون غاية أخيرة أو مصير تمكن معرفته. تشير "أن تأتي أو قد تأتي " في صياغة دريدا، إذا، إلى إمكانية تحويلية وتخريبية في قلب الديموقراطية، إنها تشير إلى وعد بالتغيير في(هنا والآن).
ماذا عن "المناعة الذاتية" المفترضة للديموقراطية؟ أليست كل الجهود الديموقراطية منطوية تحت نوع من التدمير الذاتي؟ حسنا، بمعنى من المعاني، نعم. ولكن خلافا للسياق البيولوجي أو الطبي حيث تحرِّض المناعة الذاتية العواقب المدمرة والتي قد تكون قاتلة، يرى دريدا ظلالا مختلفة لمنطق المناعة الذاتية. الأهم بالنسبة لدريدا، هو أن المناعة الذاتية تكشف أن المناعة المطلقة مستحيلة: وأن أية محاولة لتحقيق الحماية المطلقة لا بد أن يتبعها تدمير شامل. فإذا كانت الديموقراطية عتية ومستعصية ومنيعة على التسوية بشكل مطلق، فإنها ستكون سيادة مطلقة، لا تتغير، خاملة لا حياة فيها. ولكن المناعة الذاتية، للمفارقة، تمنح الحياة للديموقراطية، وتفتح كوة على ما "قد يأتي "، على إمكانية إعادة لا نهائية للصياغة والعمل والتكرار.
يمكننا، إذن، أن نرى أن مقاربة دريدا للديموقراطية ترنو إلى لفتتين مترابطتين. اللفتة الأولى هي استجواب ظروف إمكانية الديموقراطية، والكشف عن المعضلة أو التناقض في قلبها. ومن هذا المنطلق يتوجب علينا أن نحافظ على مسافة نقدية عندما يتعلق الأمر بالديموقراطية كما تفهم وتمارس ويعاد إنتاجها حاليا. وبالتالي فلا بد من مساءلة جذرية للتصريحات التي تقول بأن الديموقراطية تحققت وبلغت كمالها في الأنظمة والممارسات المعاصرة. أما اللفتة الثانية في تفكيره عن الديموقراطية القادمة التي قد تأتي - مع التركيز الآن على قد تأتي - تحث على التدخل والخلخلة والتحول والمقاومة. وتدعو إلى طريقة تشاركية أي بمعنى تدخل متهور في هنا والآن يفتح الديموقراطية على أفق يختلف اختلافا جذريا.
يوظف دريدا مفهوم (الديموقراطية التي ستأتي أو قد تأتي أو القادمة) ليس لوصف الطريقة حيث لا تتمكن السياسات الديموقراطية الحديثة من تحقيق مثلها المعلنة، ولكن الديموقراطية "التي ستأتي" بمعنى أكثر جذرية بكثير. ذلك أن الخلل المناعي الذاتي في الديموقراطية هو الشيء الذي يفتح إمكانية مستقبل ديموقراطي. ولكن هذا الانفتاح على المستقبل غير متفائل بصورة عمياء، كما لو أن هناك فقط أياماً أفضل وأكثر ديموقراطية في المستقبل.
يحدد تعبير دريدا الضروري القادم من المستقبل، سواء كان أفضل أو أسوأ بكثير. وفي حين أنه لا يقدم أي توجيهات معيارية أو ضمانات، إلا أن دريدا يشير إلى الإضطراب الضروري في قلب الديموقراطية. والحاجة الملحة إلى العمل المستمر والمشاركة. الديموقراطية بهذا المعنى سوف تكون دائما "قادمة مرتقبة،" ودائما في موقع الأمل والإمكانية المفتوحة. قد نسمي هذا الفهم للديموقراطية، الديموقراطية بلا نهاية.