20 مايو . 7 دقائق قراءة . 1394
تيسير خلف
حجبت الأيديولوجيا اليساروية التي تبناها بعض المفكرين والمسرحيين العرب خلال عقدي الستينيات والسبعينيات الكثير من الحقائق عن وجود تيارات فكرية متصارعة في بلاد الشام أواخر العصر العثماني تتجاوز الأدلوجة الاختزالية التي تقول إن مَن ناصب مسرح أبي خليل القباني (1842- 1903) العداء في ثمانينيات القرن التاسع عشر هم رجال الدين الإسلامي المتحالفون مع السلطة الاستبدادية الحميدية.
ولكن دراسة وثائق تلك المرحلة تبين أن الصراع الفكري حول المسرح لم يكن بين "ظلاميين" إسلاميين، و"متنورين" علمانيين فحسب، بل كان داخل التيار الإسلامي الذي انقسم إلى مدرستين؛ صوفية وقفت موقفاً شديد العداء من المسرح معتمدة حرفية النصوص وشكلانيتها. وسلفية؛ نظرت إلى المسألة من منظور فقهي جديد يعتمد الغايات والمقاصد، حيث وصل هذا الصراع في مراحله الأخيرة، وخصوصاً بعد خلع السلطان عبد الحميد في العام 1909، إلى حرب مفتوحة انتهت إلى تكفير التيار الصوفي الثاوي منذ قرون طويلة للتيار السلفي الوليد بسبب إباحته للمسرح. يضاف إلى ذلك ظهور تيار حداثوي تغريبي ناصب تجربة القباني العداء بسبب عدم مطابقتها لشكل المسرح الأوروبي ومضمونه.
كان الشيخ أحمد أبي خليل القباني قد خرج على المؤسسة الدينية الصوفية مبكراً، وأوجد صيغة خاصة جداً لمسرحه قائمة على توليفة ثلاثية جمعت بين فن المقامة البغدادية، وقصص الأولين، ورقص السماح. أما المبررات الفقهية التي قدمها لشيوخ عصره فهي تخريجه لمبدأ "الاعتبار" الذي يفسر الآية القرآنية الكريمة {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ}، حيث رأى أن الاعتبار الذي تحض عليه الآية الكريمة مقرون بالبصر والمشاهدة. فالغاية من الفعل المسرحي هي الاعتبار من قصص الأولين، لتحقيق صلاح النفس والمجتمع انطلاقاً من الذات. وهو ما عبر عنه في النص الذي نقله تلميذه كامل الخلعي (1881- 1931) حين يقول:
"التمثيل جلاء البصائر، ومرآة الغابر. ظاهره ترجمة أحوال وسير، وباطنه مواعظ وعبر. فيه من الحكم البالغة، والآيات الدامغة، ما يطلق اللسان، ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان، ويرغّب في اكتساب الفضيلة، ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويحركها إلى مسابقة الأمم، ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع، ويشنف الأسماع، وهو أقرب وسيلة لتهذيب الأخلاق ومعرفة طرق السياسة، وذريعة لاجتناء ثمرة الآداب والكياسة. هذا إذا تدرج فيه من ذكر الأحوال، إلى ضرب الأمثال، ومن بيان المنهاج، إلى الاستنتاج؛ ليرتدع الغر من غيه وينزجر، ويجد العبرة في غيره فيعتبر".
ولم يخرج القباني طوال حياته المسرحية التي استمرت قرابة الثلاثة عقود عن هذه الرؤية سوى مرة واحدة، حين سافر إلى شيكاغو في العام 1893 ليقدم مسرحيات معاصرة، لجمهور غير مسلم، لم يكررها بعد ذلك.
التيار الصوفي كان ينطلق في عدائه للمسرح من تخريجة فقهية تقول: إن التمثيل والتشخيص هما نوع من الغيبة والنميمة المنهي عنهما في الإسلام، يضاف إلى ذلك تحريم النظر إلى الفتيان المرد المتشبهين بالنساء، وهي إشارة إلى الشبان الذين كانوا يؤدون الأدوار الأنثوية في المسرح بسبب الافتقار للعنصر النسائي في ذلك الوقت.
أما التيار السلفي الذي كان يمثله بشكل رئيس، أيام نشاط القباني في دمشق، الشيخ طاهر الجزائري (1852- 1920)، فكان يرى أن المسرح ليس محرماً بحد ذاته كونه وسيلة؛ حلالها حلال، وحرامها حرام، فالتحريم والإباحة مرتبطان بما يقال على المسرح.
حارب التيار الصوفي تجربة القباني بمختلف الوسائل التي كانت متاحة بين يديه في ذلك الوقت، فحين قدم مسرحية "عطرشان وورد الجنان" في مسرحه بخان الجمرك في شهر أيلول عام 1875 ثار المتصوفة ضده بسبب ظهور شخصية السلطان نور الدين محمود على المسرح وهو يلهو ويستمتع بالطرب، والمعلوم أن السلطان نور الدين شخصية تحظى بأسمى آيات التكريم عند متصوفة دمشق، فسلطوا عليه الكراكوزاتية وجمهورهم الذي نهب المسرح. وفي العام 1883 ثاروا ضده مرة أخرى بسبب مسرحية أبو الحسن المغفل التي ظهر فيها الخليفة بدور المغفل، فحشدوا ما استطاعوا من حشد حتى استصدروا أمرا بمنع التمثيل في ولاية سورية، وهو ما استدعى ثورة في دمشق شهدت كتابات على الجدران تندد بالسلطة وتدعو لاستقلال العرب.
بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني شن التيار الصوفي مجدداً هجمة شعواء ضد التيار السلفي بسبب حضور رموزه في دمشق الشيخين جمال الدين القاسمي وعبد الرزاق البيطار في العام 1911، لمسرحية زهير الأندلسي، بحيث وصلت هذه الهجمة إلى حشد شيوخ الصوفية من دمشق، وبيروت، وحلب، وعينتاب، وعكا، وحمص، وطرابلس الشام، ضد البيطار والقاسمي، واللذين سبق أن تعرضا لمحاولة اغتيال من الغوغاء في الجامع الأموي عام 1909 حين استضافا الشيخ رشيد رضا (1865- 1935).
ورغم الضعف الظاهر على رموز التيار السلفي في دمشق آنذاك، فإن تلاميذ القاسمي والبيطار والجزائري هم الذين قاموا بأعباء الدعوة للنهضة العربية في المشرق العربي، بعد أن كشفت جمعية الاتحاد والترقي عن وجهها القومي الشوفيني، فكان مصير الكثير منهم الإعدام بين عامي 1915 و1917 على يد جمال باشا، ولعل أبرزهم الشيخ عبد الحميد الزهراوي (1855- 1916)، وعبد الغني العريسي (1891- 1916) الذي دافع عن الشيخين القاسمي والبيطار في جريدته "المفيد" وفند الحملة الظالمة ضدهما في قضية المسرح، والأمير عارف الشهابي (1889- 1916) تلميذ الشيخ القاسمي، وصاحب الدعوة لمسرحية "زهير الأندلسي" التي فجرت الجولة الأخيرة من الصراع بين التيارين السلفي والصوفي في دمشق.
وبالإضافة إلى التيار الصوفي كان ثمة تيار فكري حداثوي استغرابي ناصب مسرح أبي خليل القباني العداء، انطلاقاً من فكرة أن ما يقدمه القباني لا تنطيق عليه مواصفات ومقاييس المسرح الغربي!
وبدأت بوادر هذا العداء حين امتنع مراسل "جريدة لسان" الحال في دمشق جبران لويس عن تغطية أنشطة القباني المسرحية، رغم أنه لم يدخر جهداً في ملاحقة أي خبر يخص دمشق، حتى وإن كان مسرحية مدرسية. وربما اضطر لذكر مسرح القباني عرضاً في أحد أخباره عام 1879 حين زار السفير البريطاني في الأستانة السير هنري لايارد دمشق واصطحبه الوالي مدحت باشا لحضور مسرحية في مسرح القباني.
وجبران لويس واحد من المثقفين الدمشقيين المتشبعين بالثقافة الفرنسية، وكان مديراً للمدرسة البطريكية للروم الأرثوذوكس. ويبدو أنه كان أحد داعمي فرقة الاتحاد المسرحية التي أسسها أحد المنشقين عن مسرح القباني وهو جورج ميرزا بالاشتراك مع الكاتب والمترجم حنا العنحوري. وقد احتفى لويس بفرقة الاتحاد احتفاء كبيراً على صفحات جريدة "لسان الحال" في مطلع العام 1883، وكتب كثيراً عن أن هذا المسرح هو المسرح الحقيقي، غامزاً من قناة مسرح القباني، ومشككاً بنسبته لفن المسرح.
ويبدو أن الصحافي خليل الخوري، محرر جريدة "سورية" الرسمية، كان من ضمن هذا التيار، إذ رحب أشد الترحيب بقرار صاحب مسرح العصرونية الذي استقر فيه القباني في أعوامه الثلاثة الأخيرة، بإغلاق المسرح إغلاقاً نهائياً بسبب انحراف أصحاب الروايات عن جادة الصواب. ولا شك في أن خليل الخوري الذي امتنع عن تغطية أخبار مسرح القباني في جريدة سورية، كان لا يرى في هذا المسرح الأنموذج الأوروبي الذي قرأ عنه وشاهده في مدارس الإرساليات.
تيسير خلف
01 يناير . 5 دقائق قراءة