01 مارس . 5 دقائق قراءة . 906
كُثُرٌ هنّ الممثّلات اللاتي طبعن بأدوارهنّ كأمهاتٍ مسيرتهنّ المهنيّة، حتى ليطغى دورهنّ المشغول بعنايةٍ حتى أدق تفاصيله على أحداث القصة، ويضحي أداؤهنّ أيقونياً لشدة صدقه وواقعيته، فيغدو الدّور بحدّ ذاته حدثاً مفصلياً لا تعود بعده المؤدية والمتلقون على السواء كما كانوا قبله، والأمثلة كثيرةٌ في أرشيف المرئيّ والمسموع، من القديرة جولييت عوّاد بِدَور "أم أحمد" في التغريبة الفلسطينية، إلى آمال سعد الدين بدور "أم عطا"، الأمّ المقدسية التي وجد مطران القدس المقاوم هيلاريون كبوجي لديها الملاذ والحضن الدافئ في غربته، والقائمة تطول. لكن مهما كثُرت الأمثلة، يبقى الأكيد أن عايدة صبرا قد حجزت لنفسها من خلال دورها كأمٍّ مكلومةٍ على مسرح وجدي معوّض مكانةً مرموقةً على هذه القائمة، وأنها أكّدت المؤكّد أنّها "أستاذةٌ" بكلّ ما للكلمة من معنى، ملعبُها خشبة المسرح الذي تمتلك كلّ أدواته الماديّة والحواسيّة على السّواء.
فبعد مسرحيتَي الأداء المنفرد "وحيدون Seuls" و"شقيقات Sœurs"، ومع غروب شمس الأيام الأخيرة لعام 2021، كان روّاد مسرح لاكولين الباريسي على موعدٍ مع مسرحية "الأم Mère". موعدٌ بات منتظَراً لاستكمال ثالت حبّات سُبحة السيرة العائلية التي كان المسرحيّ اللبنانيّ-الكندي وجدي معوّض ينحت تفاصيلها بأنامل الفنّان لأكثر من عشر سنوات على درب المشهدية التي ستكتمل مع آخر حلقتي السلسلة: "الأب Père" و"أشقّاء Frères".
بَيد أنّ المدماك الأول للتعاون بين وجدي معوّض وعايدة صبرا لم يبدأ مع أولى تجارب الأداء على خشبة مسرح لاكولين، ولا مع أولى الكلمات التي خطّها كاتب النص أو حتى مع الشرارة الأولى للفكرة، بل شاءت الأقدار أن يُرسى هذا المدماك أوائل التسعينيات، على متن حافلةٍ كانت تذرع طرقات مونتريال، استقلّتها الممثلة عايدة صبرا، فإذا بحديثٍ عابرٍ يدور بينها وبين الراكب جوارها... تخبرُه أنّها ممثلةٌ لبنانية، فيَحضره اسم شابٍّ لبنانيّ الأصل، بدأ يلمع اسمه في عالم المسرح... كان هذا الاسم "وجدي معوّض".
لم يتوانى جليسُ الطريق عن إعطاء عايدة رقم هاتف معوّض، فلربما يحصل تعاونٌ فنّيٌّ بينهما مستقبلاً. "احتفظتُ بالرقم..." تقول عايدة، "لكنّني لم أجرؤ على الاتصال به". ثلاثون عاماً مرّت قبل أن تتلقى عايدة اتصالاً غير منتظَرٍ من وجدي معوّض نفسه، يطلب إليها أداء دور والدته في عمله المسرحيّ الجديد. بقيت قصة رقم الهاتف سرّاً إلى أن أفرجت عنه بطلة العمل عقب إحدى أمسيات العرض.
"لم أبكِ منذ وفاة والدتي"... بهذه الجملة افتتح وجدي معوّض عمله المسرحيّ الجديد معلناً أنّ وفاة والدته، السيدة جاكلين معوّض، في 18 كانون الأول/ديسمبر 1987 كانت آخر عهده مع دمعٍ جافاه بعدها سنين طوال. لم يكن وجدي طفلاً حينها، إذ كان يبلغ من العمر واحداً وعشرين عاماً، أمّا والدته فلم تكن قد تجاوزت الخامسة والخمسين، إذ كان الورم الخبيث أشد فتكاً وأمضى حدّاً عليها من آلات الحرب الطّاحنة.
عام 1978، فرّت جاكلين مع أبنائها الثلاث من ويلات الحرب، ظنّاً منها أنّ سفرهم مؤقت، بينما بقي ربُّ الأسرة، عبده، في بيروت تحت خطر القصف أو التهديد بالخطف لمواصلة أعماله وإرسال المصروف الذي تحتاجه عائلته للعيش، أو بالأحرى للنجاة، بعيداً عن ساحة الحرب.
على مدى ساعتين من الزمن، يقدّم معوض عملاً بعيون وجدي الطّفل ذي الأعوام العشر. هي قصة سنواتٍ خمسة قضاها مع والدته جاكلين وشقيقته الكبرى نايلة وشقيقه الأوسط ناجي في ملجئهم الباريسي الشاهد على آخر سنوات طفولته. كانت شقةً باريسيًّة في إحدى أحياء عاصمة الأنوار المُنعَمة، لكنّها في واقع الأمر تكاد لا تختلف كثيراً عن الملاجئ التي عرفها وخبِرها اللبنانيون جيداً في أقبية مساكنهم في خضمّ الحرب الأهلية.
لم تكن تلك الشقّة بالنسبة لجاكلين سوى مأوىً مؤقت تستعدّ، شهراً بعد شهر، لمغادرته حيث ينبغي لها أن تكون: في بلدها وبرفقة زوجها. لكنّ أمد مكوث العائلة في باريس طال مدة خمس سنوات، ليحطّ بهم الرِّحال عام 1983، في منفىً آخر هو مونتريال - كيبيك، إذ بخلت عليهم فرنسا أيام ولاية فرانسوا ميتران بتجديد تصريح إقامتهم أو إعطائهم حق اللجوء، ولن يُقدّر لجاكلين أن ترى لبنان مرة أخرى أبداً.
"أنا مُنهارة!... أعصابي مُنهارة!... روحي مُنهارة!!!" تصرخ هذه الأم التي عدِمت الصبر وأساليب التعبير. جاكلين امرأةٌ أشبه بِكُرةٍ من النار منبعثةٍ من لبّ بركانٍ ثائر، تحاول دون جدوى إيجاد مصرفٍ لِفَيض طاقتها، فَتَرَاها متشاغلةً في الأعمال المنزلية وتحضير الطعام، الكثير منه. هي حيلتها المكشوفة للتغلب على ما يعتريها من قلقٍ ومخاوف وقد نالت منها أكثر السيناريوهات قتامةً حيال مصير زوجها الماكث تحت وبال الحرب.
الجميع مُتطلّعٌ لانتهاء الحرب بين لحظةٍ وأخرى، أو مفصلٍ سياسيٍّ وآخر، أو زيارةٍ من هذا المبعوث أو تدخُّلٍ من ذاك، راجين استعادة حياتهم كما ألِفوها سابقاً. يكون أصغر الأبناء شاهداً على الأقدار تسحق أعزّ شخص لديه، والدته، دون أن يتمكن من التعبير عن ذلك أو التأثير بمسار الأحداث أو حتى إدراك هولها بِحَق، ودون درايةْ منه أن هذه الأحداث لن تكتفي بطبع ماضيه وحسب، بل ستطبع حاضره ومستقبله إلى الأبد، تماماً كتأثيرها على أشلاء الذاكرة التي سيحملها عن والدته.
يلاقينا الكاتب في منتصف الطريق بين الواقع والخيال، إذ ينسلّ معوّض ذو الثلاثة والخمسين عاماً بصمتٍ ثقيلٍ إلى خشبة المسرح، متنقلاً كالشبح بين أفراد عائلته أواخر السبعينيات تارةً، وطوراً معيداً تكوين عناصر الديكور من أثاثٍ متواضعٍ بسيط للانتقال بين مشاهد العرض المختلفة. يسبر وجدي معوض أغوار علاقته المؤلمة مع والدته، عبر إعادة نسج رابطٍ مع الطفل الذي كان عليه، ويحاول يائساً أن يغدو مرئياً لهذه الأم المرهقة التي لم تسلم من الحرب رغم بُعدها المكانيّ، والمتشبثة بشدةٍ بأمل العودة إلى لبنان، وهو ما لم يُقدّر له أن يحصل.
تؤدي أوديت مخلوف دور نايلة، الشقيقة الكبرى لوجدي. هي كالدرع يمتصّ الصّدمات التي لا تأتي فرادى، بل تُترجمها حيويةً وطاقةً هائلتين، وقدرةً على إدارة شؤون عائلتها في منفاها القسري، بعكس والدتها التي كانت تُترجِم قلقها ويأسها غضباً وسخطاً على أتفه التفاصيل. أما الشقيق الأوسط ناجي، فلا يزال شخصيةً غير مرئيةٍ حتى هذا الجزء من السلسلة، وكأنه يقبع على الجانب الآخر من جدران غرفة المعيشة.
على مدى الأسابيع الستة التي امتد عليها العرض المسرحي، تناوب أربعة أولادٍ على أداء دور وجدي ذي السنوات العشرة، وتميز كلٌّ منهم بموهبةٍ لا يمكن المرور دون الثناء عليها، وبتماهٍ مُطلقٍ مع التطوّر الطبيعي لمهارات وجدي في اللغة الفرنسية شهراً بعد شهر، وتخلّصه من اللكنة الغريبة التي وسمت كلامه أول العرض.
مَن اعتاد متابعة أخبار الثامنة مساءً على القناة المحليّة الثانية حينها، سيَحضره بكل تأكيد الوجه الإعلامي المخضرم في التلفزيون الفرنسي، كريستين أوكران، التي كانت قيمةً مضافةً في العرض ليس سوى عبر أدائها دورَها الحقيقي كمذيعةٍ للأخبار، مكرِّسةً كلَّ ما يقتضيه الدّور من كاريزما لا تنقصها للإقناع.
تنافست الأحداث الملتهبة للحرب الدامية في لبنان في ذلك الوقت مع أخبار عجز نظام الضمان الاجتماعي الفرنسي على احتلال المرتبة الأولى في نشرات الأخبار، وأضحت كريستين أوكران جزءاً من يوميات عائلة معوّض في فرنسا، بل خامس أفرادها، إذ إنها لم تكتفِ بإبلاغهم آخر مستجدات الحرب على أرضهم خلف مايكروفونها وشاشة التلفزيون، بل كانت تدخل في حواراتٍ جادّةٍ مع أفراد العائلة، دون أن تعدم روح الدعابة في كثيرٍ من المواضع، خاصّةً في أحاديثها مع وجدي ذي السنوات العشرة، وما هذا إلا تأكيدٌ على المكانة التي شغلها التلفزيون في المنازل في ذلك الوقت ودوره المحوريّ في صقل الرأي العام.
لم تستطع أغنياتُ تلك الحقبة التي كانت تبثها الإذاعة الفرنسية وبرامجها الفنية، ولا إلمامُ جاكلين السابق باللغة الفرنسية، أن يجعل اندماجها في مجتمعها الجديد أمراً سهلاً سلساً، ولربما كانت في لاوعيها قلقةً من خسارتها أبناءها أمام ثقافةٍ جديدةٍ غريبة عنها. أما المؤثرات الصوتية المرافقة لما عُرض من تقارير إخبارية خلال تلك الفترة فقد كان كفيلاً بإيقاظ الرعب الدفين لدى من عاشوا الحرب، وردِّهم إلى أيامٍ تأبى أن تغادر ذاكرتهم، إذ ما أشبه الأمس باليوم!
لم تكن جاكلين تستطيع الوصول إلى زوجها عبر الهاتف والخطوط مقطوعةٌ باستمرارٍ بفعل الاشتباكات. حتى رنينُ الهاتف بات مرعباً ثقيل الوطأة، إذ لا يدري المتلقّي ما قد يحمله إليه. جاكلين غاضبةٌ، مبالغةٌ في أعمال التنظيف والطبخ، لا تتوانى عن الصراخ والشتم، والمزيد منه... حتى كانت تلك الصرخة التي ينفلق بها الحجر، صرخةٌ لا يعلوها صوت انفجارٍ أو انهيار مبنى بفعل القصف، صرخة امرأةٍ تعيسةٍ وردها خبرٌ غير مؤكدٍ من أحد أقربائها في المهجر عن احتمال قضاء رب الأسرة بفعل القصف. يالها من لحظاتٍ ثقال تعتصر القلب، لا يعود مهماً بعدها تحقق الحضور من صحّة الخبر.
قد يعيب البعض على النص تواتر استخدام عبارات السخط الجلفة والنافرة في كثيرٍ من الأحيان والتي كانت تنهال كالقنابل التي تمطر سماء بيروت، وما هذا سوى مرآةٌ لخشونة شخصية جاكلين، وانعكاسٌ لغضبٍ دفين على كلّ ما أودى بهم إلى ما أضحوا عليه حينها، فما بالك بلغةٍ محكيّةٍ أكثر عباراتها تَحبُّباً هي كلمة "تقبرني"؟!
مشهدٌ وحيد، وصورةٌ وحيدة هي كل ما تبقى من عشاءٍ لمَّ شمل عائلة معوّض في باريس مع والدهم قبل أن تحط بهم الرحال في كندا، وتفجعهم الأيام بإصابة والدتهم بورمٍ خبيثٍ تأتّى من خلال عُقَدٍ ملأت جسمها المتهالك. جاكلين ضحيّةٌ بالأصالة لا تختلف عن أيٍّ ممن قضوا تحت وابل النيران، إذ إنّ الأثر النفسيّ لما مرت به هذه الامرأة كان كفيلاً باستحكام السرطان من بنيانها الصلب. تُعرض صورٌ حقيقيةٌ لجاكلين في نهاية العرض. كانت امراةً جميلةً ذات وجه جادّ الملامح، لا تبتسم حتى لمناسبة عقد قرانها وحفل زفافها. لعلّها واحدةٌ من كثيراتٍ لم تقسم لهنّ الحياة نصيباً من السعادة وراحة النفس والبال.
بعكس عملَي "وحيدون" و"شقيقات"، فإن "الأم" هي المسرحية الأولى في السلسلة التي حُمِّلت عنواناً بصيغة المفرد، إذ ليس هناك سوى أمٍّ واحدة. بيدَ أن صيغة الجمع تبقى متخفّيةً وراء صيغة المفرد، إذ، وبحسب معوّض، فإن لكلّ لبنانيٍّ والدتان: أُولاهما أمه التي أنجبته، وثانيهما الحرب التي تطلقه إلى الحياة تماماً كوالدته البيولوجية. ولن يكون معوّض استثناءً من ذلك، فكأنّ للحرب فضلٌ في إيصال معوض إلى خشبة المسرح، وأنّ لأنقاض هذه المأساة اليد الطولى في نحت شخصيته على ما هي عليه اليوم. المسرحُ يجعل كل شيء ممكناً، لذا قد يكون وسائرَ الفنون التعبيرية ملاذنا ومُنقذنا من بعض ابتلاءات الدهر، ما يضفي عليها دوراً حيوياً، بل علاجياً، للممثلين والحضور على السواء.
أخطُّ هذه الكلمات ونحن على أعتاب يوم الأمهات، مُهديةً إياها لكلّ من فقد والدته هذا العام وفي أيّ عام، سواءٌ في حربٍ أو حادثٍ أو لمرضٍ عُضال أو أيّ قدرٍ محتومٍ آخر. لهؤلاء أقول آسفةً.. إنّ الزمن لن يكون كفيلاً بملء الفراغ بضوضائه الباعثة على الجنون، ولا باندمال جرح الفقد، ولعلّ عزاءنا الوحيد يبقى أنهنّ، الأمهات، في مكانٍ أفضلٍ الآن دون أدنى شك.
23 مارس . 3 دقائق قراءة