باب من قماش في الطابق السابع

12 يونيو  .   8 دقائق قراءة  .    1085

Photo by Matthew Pablico on Unsplash

عقارٌ اعتيادي.. يسكنه غالباً أهل الطبقة المتوسطة.. بوابةُ مدخل حديدية دارجة؛ وطوابقُ ستٍ يطل على كلٍ منها باب وحيد لشقة واحدة.. بينما بعد المرور بباب الشقة السادسة يظهر باب خشبي يمنع الصاعدين من متابعة الصعود إلى الطابق السابع الأخير؛ ومن بعده سطح العقار بما عليه من خدمات لكامل المبنى، وللصعود إلى السطح لا بد من استئذان صاحب الشقة السابعة أولاً حتى يسمح بالمرور من أمام باب شقته، ويعجب المارة من ذلك في كل مرةٍ حينما يعبرون ليجدوا ستاراً من القماش يغطي باب تلك الشقة؛ ويتساءلون بلا جواب حاسم حتى اعتادوا الأمر فتقبلوه وتغاضوا عنه. كان هذا أمراً واقعاً في ذلك العقار لبضع سنواتٍ قاربت على العقد؛ منذ اشترى تلك الشقة مالكها الأستاذ رشيد.

 

قبل ذلك كان الأستاذ رشيد يقطن في حي آخر بعيد برفقة أسرته الصغيرة، يحيون في سلامٍ حياة طبيعية 

لا تثار حولها شُبْهات ولا تساؤلات، حيث كان الأستاذ مدرساً للتاريخ في مدرسة تبعد عن منزله مسيرة نصف الساعة، يترجل كل صباح برفقة ابنته الكبرى ذات السِنون السبع، تسير بجانبه حيناً ويحملها حيناً آخر ذهاباً وعودة، وتنتظره كل يومٍ أمام بوابة المدرسة حتي ينتهي من أعمالٍ إدارية تستغرق قرابة ربع الساعة بعد انتهاء اليوم الدراسي..

 

وذات يوم انتهى الأستاذ رشيد من أعماله وخرج من المدرسة فلم يجد طفلته في انتظاره، فعاد بهدوء يبحث عنها داخل المدرسة لعلها تكون هناك جالسة في انتظاره؛ فلم يجد لها أثر أو عنها دليل، وبدأ الفزع يتملكه فصار يهيم على وجهه في الشوارع يبحث عنها بلا جدوى، واتصل بزوجته في المنزل يسألها فلم يجد منها سوى الذُعْر والنَحيب؛ فتركها لعويلها وعاد يستأنف بحثه، ولم يك بيد الأم المَكْلومَة من حَوْلٍ سوى النَدْب والدعاء إلى ربها ليرد عليها فلذة كبدها سالمة آمنة، بينما ظَلَّ الأب الجريح يعدوا في الشوارع كما من مَسَّه مَسّ، وذهب بعد يأسٍ إلى الشرطة للإبلاغ عن فقيدته، وأمضى اليوم على تلك الحال حتى أظلمت السماء وأظلمت الدنيا بأكملها في عينيه، ورأى أن عليه العودة إلى منزله ليكون برفقة زوجته الهَلِعة ورضيعها بعد أن أقنعه رجال الشرطة بذلك؛ وتعهدوا له بتكثيف الجهود حتى العثور عليها.

 

عاد الأستاذ رشيد بالفعل إلى منزله؛ حيث كان حينذاك يقطن في الطابق الثالث من عقار ذي أربعة طوابق، وحين وصل إلى باب منزله وجد ابنته نائمة تفترش بَسْطَة السُّلَّم أمام باب الشقة وصوت المذياع المرتفع من المنزل على الذِّكْرِ يغطي على أنينها، فهرع يحتضنها ويوقظها ويدق الباب بعنف حتى سألت الزوجة بعد حينٍ من خلف الباب عن الطارق فصاح بها لتفتح، ودخل يركض بالطفلة المغشي عليها ليصب على وجهها الماء البارد؛ حتى أفاقت وبدأت الصراخ والعويل بحرقةٍ وصوت مجروحٍ استحال محوه من ذاكرة الأبوين، بينما باءت كل محاولات تهدئتها بالفشل التام، وازداد الأمر سوءاً بأن ظَلَّ الرضيع هو الآخر يصرخ مذعوراً والأهل مشغولون عنه؛ حتى ذهب له الأب واصطحبه إلى غرفةٍ بعيداً عن صراخ أخته، وترك الطفلة للأم تحاول طمأنتها وتسكينها بلا جدوى، وانتبهت الأم بعد حينٍ إلى انتفاخ أسفل سروال الطفلة؛ فانتزعته لتجد قطعاً من القماش مغطاة بالدم؛ تمنعُ نَزِيفْ..

 

كانت الطفلة تصرخ بلا توقف منذ أفاقت حتى هرعوا بها متجهين إلى المستشفى، وفي السيارة في الطريق هَدَأَت واطْمَأَنَّت فسَكَنَت وسَكَتَت، ثم عادت للصراخ ثانية لحظة أن دخلت المستشفى حتى حقنها المسعفون بمُهَدِّئٍ فنامت، واتخذ الأطباء بعدها كافة الإجراءات الطبية اللازمة بعد ثبوت حالة الاعتداء الكامل على براءتها، وحين استيقظت عادت للصراخ مرة أخرى فتم حقنها ثانية بالمهدئات، وحضرت طبيبة نفسية للطفلة؛ وظَلَّت تحاول على مدار أيامٍ لاحقةٍ لإيقاف ذلك الصراخ بدون الحاجة إلى مهدئات؛ ولكن بلا جدوى، فنصحت باصطحابها إلى المنزل لعلها تجد هناك في منزلها الآمن المألوف بين أحضان الوالدين ما تحتاج إليه من سكينة وسلام، ليكون ذلك حل أخير قبل إيداعها مصحة نفسية..

 

توقف الصراخ تماماً مرة أخرى في الطريق بعد الخروج من المستشفى، وعادت تصرخ لحظة أن وصلت أمام مدخل المنزل؛ حتى صعدوا بها، وداخل المنزل لاحظ الأب نظراتها المُرْتَعِبَة ناحية باب الشقة ففتح الباب فلم تتوقف وظَلَّت تحدق في الباب برهبة، فسألها: "أتودين مني انتزاعه"، فأشارت إليه بالتأكيد، فهرع يبحث عن أداة صلبة ليرفع بها الباب وينتزعه من المُفَصِّلات، وحين انتزعه الأب؛ وكاد الباب يسقط عليه ويُرْدِيه على الأرض إلا أن تمالك قوته واستعاد توازنه؛ وجدها قد هدأت واكتفت بالدَمْع في صمت؛ ثم أشارت إليه بإخراجه من الشقة، ففعل وأخرجه ووضعه قائماً على بَسْطَة السُّلَّم وعاد يسألها:

  • هل هناك شيء آخر يرضيكِ يا حبيبتي؟

فنطقت للمرة الأولى منذ الحادث وقالت بصوت واهِن مَقْهور مشيرة بإصبعها إلى داخل المنزل وعينيها على مدخل الشقة المنزوع بابه؛ بلا جرأة على النظر إلى داخل المنزل:

  • الأبواب..

لم يفكر الأب للحظة واحدة رغم ذهوله، وانْكَبَّ على نزع باقي أبواب المنزل وهو يجد الرضا في نظراتها حتى انتهى، ونظر إليها مبتسماً ففاجأته تقول:

  • باب.. الحَمّام..

فقال الأب بلا تردد:

  • حسناً.. سنضع ستاراً سميكاً.. هل من الستار مشكلة؟!

فأشارت بالنفي.. وابتسمت.. وغَطَّت في نوم عميق بين أحضان والدتها.

 

صباحاً.. بعد أن ظل الأب جالساً طوال الليل بجوار مدخل الشقة المفتوح؛ اتصل بالمدرسة وأبلغ بإجازة مفتوحة، وأحضر من قام بتركيب الستائر على مدخلي الشقة والحَمّام، وحيث أن كان هناك من يقطن في الشقة أعلاهم؛ ويمرون عليهم اثناء صعودهم ونزولهم وصادف تغيبهم عن المنزل في ذاك اليوم المشؤوم؛ قرر الانتقال بأسرته إلى عقار  ليسكن بأسرته في طابقه الأخير، ولم تعترض الابنة حينئذ على تركيب بابٍ للشقة الجديدة من الزجاج الشفاف المقاوم للكسر، يكسوه من الداخل ستار مُعتِم لا يُسدَل أبداً إلا حين تنام الابنة؛ وآخر من الخارج يُسدَل حين عبور مارة إلى السطح كي لا يثير الباب الزجاجي التساؤلات.

 

بعد فترة من متابعة طبيبة الأمراض النفسية لحالة الطفلة من المنزل؛ تحدثت إلى الأبوين برأيها قائلة: "ما استخلصته من حديثي معها أن هناك من استدرجها داخل إحدى المنازل، ولم تفطن الطفلة إلى واقع الأمر إلا حينما بدأ في التعدي عليها، وأنها استطاعت الخلاص في لحظةٍ فارقة ووصلت إلى الباب فلم تستطع الوصول إلى التِرباس -مزلاج غلق الباب-، وحينها عاد المُغتصِب واستعاد الهيمنة من جديد.. بل أنه في الغالب قد أسندها إلى الباب فألصق وجهها به وتابع جُرْمُه. وحينما عادت المسكينة إلى المنزل مترجلة منهكة بعد ما أصابها؛ ظَلَّت تطرق الباب بما أوتيت من قوة في تلك اللحظة، ولكن الأم لم تسمع؛ لضعف طَرْق الطفلة الواهِنة، أو بسبب صراخ الرضيع أو صوت المذياع المرتفع. لقد كانت الأبواب واحداً تلو الآخر عقبة في طريقها للأمان؛ بعد ما تحمَّلت ما لا يقدر على تحمله البالغون، وتكونت لديها عُقْدَة دوائها قد يكون مع الأيام..".

 

لم تستطع الطفلة الذهاب ثانية إلى المدارس ذات الأبواب، وتابع والدها بنفسه وبمساعدةٍ من زملائه تعليمها من المنزل كل مساء، وحين يتوجب عليها مغادرة المنزل للتنزه أو الضروريات يحتضنها أباها ليضع وجهها في صدره؛ كي لا تقع عيناها على أبواب الشقق الستِ وبوابة العقار، وخلال كل باب من تلك الأبواب كانت الفتاة تبكي وترتجف، بينما يمر الأب مسرعاً على الأبواب واحداً تلو الآخر، والفتاة ترتجف فزعة بين يديه بينما هو يقول: "انتهينا.. انتهينا يا عزيزتي.. الأول، وها قد عبرنا الثاني، لا تخافي أباك معك.. الثالث مَرّ، لن يستطيع أحدٌ المساس بك وأنا على قيد الحياة.. الرابع، انتهى الأمر.. ها قد مضى الخامس، اهدئي بالله عليك.. ها هو السادس"، ثم يغادرون مدخل العقار فيُنْزِلها لتقف على الأرض بعد الخروج من العقار وهو يضع على جبينها القبلات ويقول "أرأيتِ.. لا خطر عليك أبداً وأنتِ في أحضاني".

 

وبمرور قرابة العقد من الزمن؛ فإن الفتاة قد صارت من الخارج كما مثيلاتها من الفتيات في عمرها، بينما ظَلَّت الأبواب على حالها منذ الأزل تمثل نهاية لماضٍ مفزعٍ من جانبٍ، وبداية لقادمٍ مُبهمٍ من الجهة الأخرى حين التجرؤ على عبورها. ولكن حَمْل فتاة ناضجة بالغة أثناء الصعود قد أصبح عسيراً على من تجاوز الستين وهو لا يزال في الخامسة والأربعين، بينما التي على تلك الحال وما زال أمامها عمر مديد فلن تجد من يحملها بلا مَضَض من بعده؛ بعد عمرٍ طويل.

 

أقرا أيضاً: الغرفة السفليّة (الجزء الأول)

 

 

بقلم: الروائي عمر ابراهيم 

لفريق مرداد

من سلسلة (وعي من أجل حماية الطفولة) 

  6
  7
 1
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Kenan Dumat
20 يونيو
كمت أتخيل كل كلمة أثناء القراءة ..
  0
  1