01 يناير . 6 دقائق قراءة . 907
لم يكن العام 1998 عامًا عاديًّا في لبنان؛ بل كان الأبرع في الدّهاء والخداع، فأوهم الجميع أنّه تتوأم مع باقي الأعوام التي تلت هدوء إعصار الحرب اللبنانيّة، لكنّه أخفى بين ثنايا دروبه، نبضات خوفٍ متراقصٍ فوق ضباب الحقيقة، وخبّأ بين طيّات خريفه، اصفرار قلوبٍ متساقطة على تراب الحريّة.
كان لبنان مع بداية ذلك العام، يمارس طقوسه الجماليّة بشتّى أنواع السّحر، فاستحضر روحه الأزليّة بياض ثلجٍ نثره فوق تمرّد جباله، وتعويذة فرحٍ رسمها على ثغر بحره، وطلاسم جنونٍ أرساها في شرايين ناسه، وبدأ يرشّ ملح شموخه فوق نار وجعه، ليطرد شياطين غضبه من جسد تمزّقه.
هو لبنان الذي لا يعرف الانكسار، ولا الخنوع، ولا الهروب إلى الحزن. صدح صوته مع بدايات ذلك العام، ترنيمة شوقٍ إلى الحياة، أسمعها إلى أهله الطيّبين وضيوفه الباسمين، فرقصوا على أنغام شغفه في ساحات فرحه، وأطلقوا ما في صدورهم من زفرات حريّة، لتسابق دقّات قلوبهم إلى أعراس التنّعم بصقيع الأرز، وعشق شمس فاريّا الثلجيّة، والذّوبان في أحضان ليل بيروت، وفجر جونيه، والهيام بكل ملمس هواء يتنفّسه ذلك البلد الآتي من غد.
أنّت الجبال والقرى المتعانقة من صقيع بدايات ذلك العام، ولكنّها أهدت دروبها المكحّلة بالنّفناف فسحة تلاقي، وحقولها المشبعة بالضّباب رُزمة خير، وبيوتها المتألّقة بالمواقد إشراقة أحلام. كلّ بقعة ضوء فيها تغامزت كي تزرع الأمل في العيون، وتغازل أجمل الأمنيات. لم يكن بحر لبنان بعيدًا عن هذا الغزل؛ هو الآخر تأنّق بالحياة، فحضن مدنه من شماله إلى جنوبه، وأوعز إلى أمواجه كي تحمل رذاذها المتعجرف، باقات حبِّ تلاطف شوارعها ومبانيها وسهرها، وألوان سعادة تتحايل على الوجوه الهائمة على رصيف الكدّ اليومي وشمّ رائحة الرّغيف.
كلّ شيء كان ينذر بصخب الحياة منذ إطلالة ذلك العام، وكانت بيروت الأبرع في ملاحقة نبضاته، فلم يهدأ قلبها يومًا، ولا جناحها المنفلش فوق أضواء جونيه والكسليك والمعاملتين. كلّ معزوفة أملٍ كانت تعاند حاضر تلك المدينة الباسمة، فتدّفقت ألوان الفرح في شرايينها، وجعلت الآتين إليها من كلّ بقعة، يتنافسون على إسعادها، ويطلبون ودّها ورضاها صبحًا ومساءً، وعلت الضّحكات فوق أحجار مبانيها الجميلة التي زيّنت قلبها الفتي، وتعانقت مساجدها الأثريّة مع كنائسها القديمة، وغنّت مقاهيها مع مطاعمها، وقهقهت وشربت ورقصت مع السّاهرين فيها، وتناغمت مع أصوات نراجيلها المتزاحمة على أرصفتها، وقرقعة الصّحون الملوّنة بأطعمة الكون.
كلّ شيء كان يُبهر في ذلك العام الذي حمله الزّمان على أكتاف المتعطّشين إلى الحياة، والملهوفين على أمنهم وأمانهم، ولم يشعر أحد أنّه عام غائر في عظام التّاريخ، وآتٍ كي يغوي العقول، ويتلصّص على الأنفاس، ويتبختر على أنغام القهر والتسلّط، ويرقص على قرع طبول القمع، ويرسم سوادًا على عنفوان اللبنانيّين، ويسطّر أيّامًا تخجل من عيون الإنسانيّة؛ تهليلٌ للفرح رافق شتاءه، ودعاءٌ للأمل واكب ربيعه، وتصفيقٌ للمستقبل آلف صيفه، وطعنٌ للحقيقة زيّن خريفه.
حمل ذلك العام للبنانييّن آمالهم على أكتاف هروبهم من القلق، في غفلة انشغالهم برتابة أيّامهم وتنهّداتهم، ولكنّه ومن دون أن يدري، أيقظ أقدار بعضهم واستفزّ ماضيهم. "باسمة الحسّان" كانت واحدة من أولئك.. ففي لحظات هائمة من ذات صباح صّيفي من ذلك العام، شيء ما حثّها على التّجهم؛ ربّما لأنّ صوت "فيروز" الذي كان يتراقص بين ضلوع مذياعٍ صغيرٍ رابضٍ في إحدى زوايا غرفة أمّها، غُيّب فجأة، وحضر مكانه صوت المذيع الذي بدأ ينشر أخبار البشائر بقدوم عهدٍ جديدٍ على لبنان، يُضيء المستقبل، ويُفرح اللبنانييّن. شيء ما انتفض داخلها لمجرّد أن سمعته. كلّ مفرق حياة استفاق أمامها في تلك اللّحظات، وهي واقفة عند نافذة غرفة أمّها تراقب نبض الحياة اليوميّة في بيروت، واستفاق معه كلّ مفرق أملٍ تدلّل على كآبتها، ولم تعرف لماذا استفاق أمامها فجأة، كلّ خوف!.. فحاضر بيروت الملفوف بحزامٍ من فرح، حثّها في تلك الومضة الإنسانيّة، على استفزاز الغد، فلاذت بأمس تلك المدينة العنيدة، المنزوي بين ضلوعها، والمدمن على استنهاض ذاته والصّراخ على مساحة حنجرته، في زُرقة سماء. سمعت صراخه في تلك اللّحظات، تموّجات حزن ارتطمت بوجوه المارّة السّاعين إلى رزقهم اليومي، وترنّحات أمل ارتسمت على شفاههم وألسنتهم، وهم يلاحقون خطواتهم الثّقيلة في الشّارع أمامها. شعرت أنّ تلك المدينة التي ألفتها، لا يصرخ أمسها إلاّ إذا خاف على غده.. خافت معه!.. فبدأت بتحسّس خشب النّافذة، الشّاهد على تاريخ الأبنية القديمة في بيروت، حاملةً عينيها إلى جبل صنّين الذي لم يملّ من التلصّص عليها وعلى تلك المدينة المتباهية بعنفوانها، والذي لم يسمع منها يومًا، ذلك الشّامخ فوق نحيب أمواج المتوسّط، وحارس رمال الصّحراء، كلمة؛ بل كانت تكتفي على مدى مئات الصّباحات التي ولّت، أن تقف أمامه عند تلك النافذة، وترميه بسهام عينيها المكحّلتين بمسحة ألم، وبريق حنان. كان صنّين يتشوّق، ككلّ صباح، إلى نظراتها الدّافئة، وإشراقتها الرّاقية، وجمالها المسكون بجنّيات البحر وتغريد الطّيور الصّباحي وشذى القُندول المتمرّد على رقّة النّسمات العاشقة لرزانته، لكنّ عينيها ما لبثت أن تحايلت عليه وعلى ذاكرتها الهاربة إلى صدرها؛ حنينٌ ما شدّ تلك الجميلة إلى الماضي، حين كانت بعمر الثّمانية عشر ربيعًا!.. استفاقت ذاكرتها على الشّارع الذي كان قبل عشر سنوات ينتشي كلّما لامست قذيفة جسده وولجت محرّماته، وعلى الرّعب الذي واكب قلبها هناك، ورماها بين أحضان ذلك الرّجل الأربعيني الملتحي.
أبت ذاكرتها إلاّ أن تزرع في عينيها دمعتين، وتدغدغ ضلوعها بتنهيدةٍ جاحدة. تناست في تلك اللّحظات، لهفة الجبل المغرور على نظراتها، فأشاحت عنه وجهها، وعادت تتأمّل بعضًا من نبض مدينتها الصّابرة، علّها تنسى، ولو لرشفة وقت، ما حملته لها الحرب المجنونة..
(يتبع)