14 أغسطس . 5 دقائق قراءة . 1452
تجليات مفهوم الحرية في رواية "عالم بلا خرائط" لعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا[1]
يعرّف جلال الدين سعيد الحرية بالعموم على أنها "خاصة الكائن الذي لا يخضع للجبر ويتصرّف بدون قيود، وفقاً لما تمليه إرادته وطبيعته."[2] كما يوجد حريات سياسية مثل حرية الضمير وهي اعتناق كل فرد ما يشاء من أفكار ومذاهب والتعبير عن آرائه الشخصية، وحرية التجمع/ وحرية الانتخاب.[3] وتأتي الحرية أيضاً بمعنى ما هو مضاد للحتمية، ومعناها أن فعل الإنسان متولّد عن إرادته. وهذا معنى نفسيّ وأخلاقي.[4] وفق هذه المعاني الاصطلاحية والواقعية تبرز الحرية بعدة أشكال في رواية "عالم بلا خرائط". وهذا القول لا يعني في حد ذاته أية صفة إيجابية أو سلبية.
ويمكن اقتفاء أثر تمظهرات الحرية وفق الدلالات الاصطلاحية السابقة في عدة شخصيات في الرواية رئيسية وثانوية وعابرة، اثنتين منها تعودان إلى بطلي الرواية، علاء السلّوم ونجوى العامري.
وبحسب وصف الراوي "علاء" فإنّ "نجوى نفسها كانت كالفرس الأصيلة. كان دمها كبرياء سائلة تجري في عروقها." (ص 69) لقد كانت نجوى "جريئة رغم الخوف" وكانت "تنتصب في وجه الذئاب المكشرة عن نيوبها." (ص 69) لقد تجلّت حرية نجوى في تمرّدها على الأعراف الاجتماعية وانخراطها، رغم زواجها من خلدون الثغراني، صديق علاء، في علاقة غرامية جامحة، وقد يكون مقتلها ذا صلة وثيقة بهذه العلاقة، إن لم يكن متعلقاً بناحية أخرى من حياتها، وهي دخولها القوي عالم الرجال المالي. لقد كان علاء يرى في نجوى حفيدةً لجده الأكبر حمدي سويلم (ص 69) حتى قبل أن تخبره هي بأنها بالفعل من السوالم. لقد كان التمرّد سارياً في عائلة السلوم، التمرّد على المحتل العثماني وعلى قمع الدولة ومحاولتها استصغارهم هم وغيرهم من الناس؛ فلقد مات سليم سلوم، بحسب العمة نصرت، لأنه ثار لرجولته ورجولة أصدقائه باصقاً في وجه الجندرمة (ص 76)، وأبوه أدهم قتل رئيس الجندرمة بعد موته وهرب. أمّا حمدي سويلم، أول السوالمة الكبار، فكان أيضاً يقف في وجه الأتراك، "عاش على عشرة أمتار مربعة من الأرض عيشة أمير يملك الدساكر والبساتين." (ص 77) هكذا إذن كان يواجه السرايا التي يرسلها الأتراك بالقوة أو بالإقناع، ليحولها إلى عشيرة أخرى يحكمها ويرسل أفرادها ليقفوا في وجه الأتراك. لقد كان حمدي السويلم إذن رمزاً للتحرر السياسي والفردي في آن معاً. لقد كان "وحصانه يحبّ به من قرية إلى قرية، من دار إلى دار، أميراً لا تعترف به السلطة، ولكنها تتفاهم معه سراً بين الحين والحين لكي لا يفضح عجزها." (ص 78؛ قارن مع ص 238 أيضاً)
الحرية في هذه الرواية لا تظهر كمجرّد سمة فردية، بل هي نوع من الصفة الموروثة، وإن كانت تتخذ تمظهرات متنوعة أو متناقضة؛ فنجيب السلوم، أبو علاء، ورث أيضاً سمة التمرد، ولكنه، بحسب حسام الرعد، حولها للتحايل وكسب الثراء (ص 238)، أما أدهم ابنه، وأخو علاء الأصغر، فقد انضم إلى المقاومة الوطنية والفلسطينية في لبنان أيام الحرب الأهلية وكان قد بدأ منذ شبابه بكتابة الشعر السياسي المتمرد (ص 304) بتشجيع من خاله حسام الرعد. وقد تفوّق أدهم على خاله؛ فبحسب علاء فإنّ هنالك فارقاً بين الاثنين في الفعل، لأن حساماً "كان يتكلم، وبندقيته نائمة تحت فراشه، يتراكم عليها الصدأ والغبار،" (ص 265) بينما يعبّر أدهم بصراحة عن وقوفه إلى جانب المظلومين والمضطهدين والقتلى (ص 258). لقد كان أدهم وارثاً لحمدي سويلم ولكنه أيضاً وارث لخاله حسام الرعد، وهنا تبدو الحرية موروثاً بيولوجياً من جهة وموروثاً فكرياً أيضاً، لأن أدهم كان يقضي الساعات الطويلة حين يكون في "عمورية" وهو يتبادل الأحاديث مع خاله (ص 254). فطبع الحريّة فيه وراثة وممارسة في آن معاً.
لقد كان أدهم، كأخيه الروائي علاء، وارثاً للاستقلالية المدهشة المطبوعة في وجدان عائلة السلوم (ص 239). وكان الاثنان كخالهما في تمردهما على الدنيا والمساعي التي يحمدها المجتمع من مال ومناصب ومكانة اجتماعية. علاء، بطل الرواية، يلفت النظر إذن إلى نوع آخر من الحرية أو التحرر، نوع أقرب ما يكون إلى الزهد والتنسك، حيث يقول إنه لم يجد في أوراق خاله المتوفى، حسام، "كلمة واحدة تتعلق برغبة منه في أن يمتلك شيئاً، في أن يكون له شيء خاص به. كان يفكر في عمورية، في الناس، في الأشياء التي تجعل الحياة، حياة الآخرين، أكثر صدقاً وبساطة وجمالاً." (ص 252) وهنا تمتزج الحرية الخارجية في مواجهة المجتمع، على طريقة نجوى العامري وعلاء في علاقته معها، بحرية داخلية أخلاقية أو نفسانية أو شخصانية. لقد تبلورت شخصية حسان الرعد كفرد مستقل بذاته لا يكترث بمظاهر المجتمع الفارغة. إنها نوع من حرية النسّاك والرهبان والدراويش. ولعلّ أبرز برهان على هذه الحرية قدومه إلى الكلية التي يعلّم فيها علاء بملابس بالية مفتوحة على صدره النحيل ومقابلته العميد بهذه الهيئة، ومن ثم خروجه من المكان ووقوفه بين طلاب الفنون في الباحة وتوبيخهم على تجردهم من إنسانيتهم ومن سعيهم نحو المعنى في أعمالهم الفنية ونبذهم التعبير عن الإنسان الحقيقي (ص 174-175). لقد ارتبط تحرّر حسام الرعد من الأشكال الاجتماعية بقلق وجوديّ على مصير الإنسان، والإنسان عنده كائن حسّاس ينبغي أن يعبّر عن نفسه كما هو. وما أثار غضب الخال كان رؤيته للأعمال الفنية، التي يمكن أن نصفها بالحديثة، كون أحداث القصة تجري في سبعينيات القرن العشرين، بلا بشر حقيقيين، بلا تعابير حقيقية عن اللحم والدم، تظهر الفرح والحزن وغيرها من سمات البشر بوصفهم بشراً، بل "أوضاعاً مسرحية جوفاء". وكأن الخال فقد تماماً ما يسميه كارل يونغ بالبرسونا Persona، قناعه الاجتماعي أو شخصيته الاجتماعية التي يعرّف بها الإنسان نفسه بين الأقران والأنداد.[5] لقد ثار على التصنّع، ولعلّه ثار على تجريد الفن، وبالتالي الإنسان، من إنسانيته، فصار الفن والإنسان ضحيتين لإرادة الابتكار والتجديد لمجرّد الابتكار والتجديد.
إنّ هذا النوع من الزهد بالممتلكات يجد لنفسه انعكاساً واضحاً في شخصية علاء السلوم نفسها؛ فهو أيضاً يكره المال والتخطيط للسيطرة والامتلاك المادي. ولهذا فهو ينفر من حبيبته نجوى حينما يكتشف فيها قوة الجانب المادي والتخطيطي الذي يرغب في السيطرة والنفوذ، لا بل يكتشف أنها في هذا الجانب لا تختلف كثيراً عن أخيه الأكبر صفاء، إلى درجة أنه يبدأ بالشكّ في أنّ علاقة عاطفية من نوع ما بدأت تنشأ بينهما. (انظر ص 311-317، 352، 369).
واللافت أيضاً أنّ هذه الرواية تظهر نوعاً من التلازم، أو التصاحب على الأقل، بين الحرية الوطنية والسياسية من جهة والحرية الإنسانية الأخلاقية من جهة أخرى؛ فأصحاب المال والنفوذ، كآل العامري، كانوا بشكل ما على علاقة بإعدام المناضل شهاب خالد السلّوم، الأب الحقيقي لنجوى، وكأنّ الرواية تقول إنّ التآمر على الوطن وشعبه يترافق بالجشع الذي يجري وراء المال والمقتنيات (ص 345).
ومن ناحية أخرى، وباعتماد مصطلحات بو علي ياسين عن الثالوث المحرّم، السياسة والجنس والدين، فإنّ هذ الرواية قدّمت بياناً ضدّ الاستبداد السياسي والخراب الأخلاقي والتقييد الجنسي، حيث يمكن قراءة تمرّد نجوى جنسياً على أنه تمرّد ضد عائلتها البرجوازية ومجتمع الطبقات الرجّالي على حد تعبير ياسين.[6] هذه الحريّة التي لم تكن بلا ثمن أبداً.
[1] عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، عالم بلا خرائط، ط6 (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018).
[2] جلال الدين سعيد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية (تونس: دار الجنوب للنشر، 2004)، 156.
[3] نفس المرجع السابق.
[4] نفس المرجع السابق، 157.
[5] Cf. C. G. Jung, The Archetypes and the Collective Unconscious, trans. R. F. C. Hull. From the Collected Works of C. G. Jung, Vol. 9, Part 1 (Bollingen Series/ Princeton University Press, 1980), 20, 123.
[6] بو علي ياسين، الثالوث المحرّم: دراسات في الجنس والدين والصراع الطبقي، ط2 (بيروت، دار الطليعة)، 27.
15 سبتمبر . 2 دقيقة قراءة