16 أغسطس . 5 دقائق قراءة . 769
كان قد غادر سريره ليزيل آثار النوم الممتزجة بآثار الرؤى الغريبة عن وجهه المتعب، وحين نظر في المرآة بينما يغسل وجهه بالماء حدث ما جعله يتسمر عندها للحظات.
ظن ان ما حدث ليس إلا وهم شكله دماغه المثقل بهواجس الرؤى التي رآها، لكنه حين أعاد النظر في المرآة ، بعد ان اعاد غسل وجهه بالماء، افتقد فيها مجددا ما سبق له وأن أفتقده فيها.
راح يمسح وجه المرآة الاعمى بكف يده اليمنى ليزيل عنها ما يحول دونها ورؤيته واظهار رسمه، ثم راح يهزها كأنما ليستجديها أن تفصح له عن مكان إخفاء هذا الرسم، ومع التزام المرآة بصمتها ووقوفه مستسلما أمامها خطرت له خاطرة جاءت لتضعه وجها لوجه أمام الحقيقة المؤلمة حين تذكر الأعمى الذي صادفه البارحة في الطريق - والذي تعثر به بعصاه بسبب شروده هو وغفلته عن المحيط- وقوله له متهكماً "من كان مثلك أعمى ايها العجوز القبيح ينبغي أن يلازم منزله والا يغادره ابدا لئلا يعيق سواه من المبصرين "
وإذ استعاد من ذاكرته مضمون الدعاء الذي دعاه الرجل بعد أن تلقى منه حائراً هذه الكلمات " أدعو الله أن تعمى عن رؤية ذاتك حتى تراني مرة ثانية " اطلق من فمه صرخة مكتومة ثم فر هاربا من نفسه ومن وجه المرآة .
*
مع الآتي من الزمن ، شرع يبحث عن الأعمى في كل مكان يصله وبكل الوسائل، ومع بحثه عن الأعمى ، تابع بحثه عن رسمه في مرآته كما في كل المرايا التي يصدفها ويقصدها بمرور الوقت أدرك ان أية مرآة يقف امامها تفقد وبالمطلق قدرتها على عكس رسوم الأشياء ورسوم الآخرين ممن يكونون في مجالها ، وان الامر لا يقتصر على رسمه هو فقط، كذلك أجهزة التصوير على اختلاف انواعها واحجامها، تمتنع عن التقاط رسمه كما رسوم الآخرين و الأشياءعندما يكون هو في مجال العدسة، ما حمله على تجنب التقاط الرسوم المشتركة مع سواه وعلى تجنب الظهور في مجال أجهزة التصوير والمرايا، وعندما تفتق دماغه عن فكرة ارتاحت لها نفسه، وقصد إلى الرسامين متوسلا بل متسولا ابداعهم في تشكيله، توقف إبداعهم عند حد وجهه ، ونضبت قدراتهم الفنية ، ولم تطاوعهم مواهبهم وادواتهم في تشكيله، ما جعلهم يرتابون مما يحدث وهم من خبروا هذا الفن زمنا وتمرسوا فيه . ونتيجة ليأسه من طول بحثه عن الأعمى وعن رسمه هو معا، توقف عن هذا البحث وارتضى القهر قانعا بما تجمع لديه من رسومه القديمة .
كان قد رأى الأعمى في منامه اول مرة عقب مرور شهر على لقائهما، وتتابعت رؤيته له لاحقا ومن حين حتى انحفرت ملامحه في جدران الذاكرة .
وتمضي الأرض بمسيرتها حول الشمس ، وتتعدد دوراتها ، ومع تعدد الدورات تطول المسافات بين الماضي والحاضر ويرقب البشر تبدل ملامحهم مع تقدم العمر ، وتكون المرايا والرسوم وسيلة لهم ، اما هو فكان معدم هذه الوسيلة ، يستعيض عنها وعن سواها من الوسائل بتحسس ملامحه ويستدل على مدى تغيره بما يطرأ من تغير على ملامح الآخرين من معارفه خصوصا من يلقى منهم بعد غيبة طويلة، ونام على سره دون أن يعلم به أحد، وامتنع عن الزواج خشية إنكشاف امره وإنتقال اللعنة إلى أبنائه وبناته من خلاله .
ويوغل الزمن في العمق، ويقطع شوطا طويلا على خطه المستقيم ، حتى كان ذات صباح افاق فيه من نومه تعبا وتأهب لمغادرة السرير، ولحظة أن وطأ بقدميه الأرض ألفى نفسه مدفوعا بفعل قوة ما للمثول امام المرآة التي تحولت إلى سقط متاع لا خير فيه بعد هجرانه لها طيلة سنين.
راح يتصفح وجه المرآة الأخرس، رغم قناعته بعبثية المحاولة مع إنقضاء كل تلك الأعوام ومع إلتزام المرآة بصمتها ،على عهده بها، هم بالتحول عنها لولا أن نطقت برسم رجل عجوز سرعان ما عرف فيه الأعمى الذي لقيه منذ حوالي النصف قرن من الزمان.
ارتدت به الصدمة إلى الوراء، واستحضرت ذاكرته مجددا مضمون الكلمات التي قالها الاعمى قبل رحيله :
" أدعو الله أن تعمى عن رؤية ذاتك حتى تراني مرة ثانية"
وتردد في ذهنه مضمون الكلمات الأربع الأخيرة " حتى تراني مرة ثانية " واستمر يتردد حتى لطمه الفهم لطمة قوية سقط من هولها على الأرض مغشيا عليه.
حين وعى من غيبوبته، كانت الظلمة تعم كل شئ حوله رغم أن الضوء قد غمر بأنواره المكان.
تمت
باسم ممدوح شبو