الاحتراق الذاتي للبحث عن التأصيل التاريخي والإنساني
كتب في جريدة الجزيزة السعودية
الخميس 20 ,شوال 1420 العدد 9982
- أحمد صبحي: تتجلى أهمية الأعمال الفكرية والإنسانية عموما بالأبعاد الحقيقية التي تطرحها القيمة الوجدانية والتاريخية والتأريخية والتي عادة ما تسكن بين لجات العمل الإبداعي نفسه الذي يقدم نفسه الى القارىء والمتابع دون مواربة وبالتالي فهو لا يحتاج الى أي نوع من جوازات السفر للمرور لأن المصداقية التي يعتمد اساسا في بناء لبناتها وبالتالي فهي تعمل حتما على التأسيس وهذا بحد ذاته امر غاية في الضرورة، لأننا في وقت من الأوقات قد نحتاج الى العودة الى الترجمات الأولى للرقم والآثار القديمة، والأحجار المرمية في صحاري العمر لمعرفة ماذا ترك لنا من كانوا قبلنا,,؟! وبالتالي السؤال الأهم ماذا يجب ان نترك للآخرين,,؟! من هنا تأتي الأهمية الحقيقية لأي نتاج إنساني حقيقي يبحث عن تأصيل ذواتنا وترجمة التفاصيل التي كان أحدنا يفعلها يوما لكي نستطيع ان نستفيد منها وأن نفيد,,!! في هذا الإطار تأتي التجربة المهمة والمميزة حقا للأديب والناقد والفنان التشكيلي النشط والمجتهد حقيقة عبود سلمان والذي استطاع أن يقدم إنجازه الرائع بتلك الدقة والأمانة وتلك الموضوعية التي نشد على يده من خلال ذلك، فمثل هذه الإنجازات ستشكل مرجعا تاريخيا وفكريا وجماليا مع قادم الأيام لما تحمله من مضامين وطروحات ومن خلال اعتماده على المنهجية والموضوعية في هذا الانجاز. وطبعا كتابه هذا شخوص مدينة العجاج يتعرض لفناني جماعة الميادين تلك الجماعة التي شكلت ظاهرة مميزة على صعيد المشهد التشكيلي السوري لما قدمته من اسماء مهمة استطاعت العمل وبقوة على تفعيل الدور الثقافي والتشكيل في هذا المشهد. والشاعرة المتميزة سعاد شهاب استطاعت بما يشبه التقديم ان تحتفي بهذه الجماعة، الظاهرة، حين قالت: تتفجر الأشلاء,, بما تبقى من تجاعيد الأربعين,, لكنها عيناك,, تحتفط بعجاج الفرات وخبز الرمال,, وحليب الحنطة,, الذائبة. أية صور وتخييلات تلك التي تمازجت وتناغمت حين تحترق الأنثى في غياهب اللون وجماليات المكان بتلك الفردية,, ترى أية انفعالات تلك التي يختزنها ذلك الفنان القابع هناك على الضفاف الأخرى للحلم. مما لا شك فيه ان الكتاب يقف وبشكل دقيق على التفاصيل الحميمة لتلك المنطقة وتلك المظاهرة تاريخيا واجتماعيا وفكريا وجماليا فتجده بعد الإهداء الطويل والجميل والعذب يتحدث عن الميادين المدينة بين الستار والمشهد فيقدمها تاريخيا ويتغلغل بين أنفاسها يعطر أنفه برائحة الشوارع والحارات والبيوت القديمة والأثرية ويعانق الباعة الجوالين راصدا نبض المدينة وعاداتها وتقاليد اناسها الطيبين البسيطين بلغة سردية جميلة وبسيطة تطفح بالعذوبة والشاعرية. وفي حضارات من الفرات من أرض التاريخ يقدم رحبة مالك بن طوق التي تنتسب إليها بلدة الميادين ثم يصف لنا القلعة من جوانبها المختلفة تاريخيا ومكانيا,, ويقودنا لنشاهد مواجع مسرح الفنان الكهفي الأول/ حيث بقرص ودالية/ القورية/ الطريق المفتوح نحو ماء النهر العذب/ وترقا/ العشارة/ الصالحية,, تل الحريري/ ماري/,, ماري/ التأملات في التجاذب بن فن الشرق وفن الحاضر من سومر الى الفن الحديث,إلخ,. ويستطيع القارىء أن يجد تحت عنوان عمارة على ضفاف الفرات مايريد معرفته عن طرق البناء القديم والحديث والمواد المستخدمة والتطور الذي لحق بالمدينة عبر مختلف المراحل التاريخية المهمة التي مرت بها المنطقة وتعاقبت عليها الحضارات. نخلص من خلال ذلك الى الفصل الأهم والذي له علاقة مباشرة بموضوع الكتاب ويتحدث فيه بشكل مسهب وعميق عن فناني مدينة الميادين,, عن تلك الجماعة، الظاهرة، التي لعبت ولما تزل الدور المهم في تحديد مسار المشهد التشكيلي في المنطقة وكأن لها تأثيرا واضحا على صعيد المشهد التشكيلي في سوريا عموما وقد قدمت اسماء مهمة وبارزة على ذلك الصعيد وكان لهم الدور الفعال في تنشيط وتفعيل الحركة الثقافية والتشكيلية مدعمين بالإرادة والايمان الذي يدفعهم دائما للأمام. وقد قدم السيرة الذاتية لأكثر من اربعين فنانا تشكيليا من الصعب التحدث عنهم في هذه العجالة ولكن ما أود التأكيد عليه ان المتابع للشأن التشكيلي والثقافي لا بد وأن يعود الى هذا المرجع المهم والقيّم ليرى مقدار الجهد الإنساني والفكري المبذول في انجازه. ولا أظن ان القارىء سيجد صعوبة في التعرف على هؤلاء الجماعة والتمكن من قراءة أعمالهم فما قدمه الفنان والناقد عبود سلمان في هذا العمل الإبداعي يستحق الوقوف كثيرا لما فيه من طروحات فكرية جريئة وآراء نقدية ودراسات وحوارات مكثفة استطاعت أن ترصد لأعمال جميع هؤلاء الفنانين من خلال تلك الموضوعية الواعية والثقافة البصرية والفكرية التي يتمتع بها والتي مكنته من الولوج في تفاصيل الألوان والمشارب المختلفة والأجيال ليتمكين من التعامل مع هذا الكم الجيد من الفنانين وبالتالي أن يضع الآخر، المتلقي، وبشكل وجداني عميق في ان يقف على تجارب هؤلاء جميعا تدعمه في ذلك إنسانيته وروحه المتعطشة الى العطاء المستمر متدفقا كالحب وهو يعترف في كل مرة بأن العمل الإبداعي والانتاج الإنساني هو ذلك الذي يدفعنا للقول: كل الوقت للصبر,, لا وقت للسقوط,, ومن برهة الخلوة تحضرني الذكريات المركبة من العطش والحنظل وأجواء القرى الحنونة على حرارة الصحارى والمدن البعيدة الخ,, ص 350. وفي نهاية الكتاب يعمل على الاستعانة ببعض الشهادات التي قيلت في تجربة جماعة الميادين وقد استقاها من لقائه بالآخرين ومن المعارض الكثيرة التي اقامتها تلك الجماعة في المناطق المختلفة والمدن العديدة وهذه الشهادات سجلتها أقلام النقاد والأدباء والمهتمين الذين تابعوا وشاهدوا أعمال تلك الجماعة في المعارض المختلفة. ولا بأس ان نستعيد أخيرا التقديم المهم للفنان الدكتور فاتح المدرس استاذ الدراسات العليا في كلية الفنون الجميلة بدمشق. مثل اي ذئب آسيوي يتأمل الشكل، شكل من طقوس العبادة والموت وروعة الجمال يتحرك ليهدم ويبني معنى القهر, إنه آشور بانيبال وإنه الحصار حول الجدران الرائعة لقلعة الحصن وإنه انفجارات الكرامة من اصابع أطفال الحجارة إنه الشرق القريب من الغرب وانه يريد الزواج من الغرب كالقراصنة الذين رقصوا على امواج البحر الأبيض المتوسط, انه هو، هو لا ينتمي إلا لألوان لطيفة من سهول سورية.