02 يناير . 9 دقائق قراءة . 201
دمشق، ربيع عام 2005، خفتت أضواء مسرح المركز الثقافي العربي معلنةً بدء العرض، وفُتحت الستارة المخمليّة الحمراء. فُتحت ليتركز ضوء المسرح، كما أنظار الحاضرين، أساتذةً وأهالي وتلامذة، على مجموعة من اليافعين في إحدى جلسات الأصحاب، وقد تركز نظر كل منهم على شاشة هاتفه المحمول. تبرع أحدهم لإيجاد أغنية ترضي ذوق الجميع الذي يميل إلى التعقيد يوماً بعد يوم متماشياً مع تعقيد مفردات حياتهم. رغم أن كلاً منهم قد بدا سارحاً في عالمه الخاص، إلا أن ذلك لم يمنعهم من كسر الصمت بين وقت وآخر بجملٍ وأحاديث تخلو من الترابط، لا بل وتطغى عليها نفحة من السطحية والابتذال، حالها حال كلمات الأغنيات التي يحبونها ويرددونها، كما شابت أحاديثهم كلمات وعبارات من من العاميّة المحوّرة تأثراً باللغتين الانكليزية والفرنسية.
في محاولة بطل المهمة الصعبة لإيجاد الأغنية المرجوة، مرّ على محطة إذاعية كانت تبث لحظتها أغنية "سكن الليل". يطرب الحضور من الأهالي والأساتذة على الصوت الفيروزي والكلمات الجبرانية وألحان محمد عبد الوهاب: سكن الليل، وفي ثوب السكون تختبي الأحلام... ما كان من نجوم العرض إلا أن طلبوا من المتبرع اليائس تبديل الأغنية بسرعة، وتثبيتها على أخرى تخاطبهم، وتتحدث بلغتهم.
دخلت المسرح في هذه الأثناء سيدة قد يصعب تحديد عمرها للوهلة الأولى، ترتدي عباءةً بيضاء وغطاءً أبيض انسدل بحرية على القسم الأكبر من رأسها وكتفيها وظهرها، فما استطاع أن يخفي انحناءته. كانت تحمل بيدها جريدة يومية، تنظر إليها عبر نظارتها التي انزلقت حتى اقتربت من حافة أنفها. أخذت تُقلّب صفحات الجريدة، والتعب والألم باديان على وجهها.
استرعى مظهرها غير المألوف ببساطته بين ألوان وبريق ملابس هذا الزمن انتباه أحد الفتيان، فبادر إلى سؤال أصحابه بصوتٍ ربّما تخيّله هامساً لم يُثِر انتباه السيدة علّهم كانوا يعرفونها، فما كان منها إلا أن وضعت نهاية لحيرتهم وعرّفت عن نفسها مستشهدةً بأبيات كتبها فيها الشاعر المصري حافظ ابراهيم علّه يفيها جزءاً من حقها:
أنا البحر في أحشائه الدّرّ كامن ... فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
نعم، لقد كان شخص اللغة العربية متجسداً أمام الحضور في تلك الأمسية. تابعت معاتبةً أبناءها:
أرى كلّ يومٍ في الجرائد مزلقاً ... من القبر يدنيني بغير أناةِ
فلا تَكِلوني للزّمان فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي
استذكرت اللغة العربية ذاك المساء أيام عزها، أيام كانت بلاد العرب تُقصَد لتعلم لغتهم ولنهل علومهم، وكيف تغيب عن أبنائها كل المواضيع التي حملها الشعر العربي بمختلف مراحله، من الشعر الوجدانيّ وما فيه من نفحات الحب والحنين والحزن والألم، إلى الشعر الوصفي بعظمة صوره، إلى الكلام الذي كان يقال لشحذ الهمم قبل المعارك، أو لوصف أهوالها، إلى المدح والهجاء والرثاء والغزل، إلى الشعر الحديث والكلام المُغنّى وأناشيد الأطفال والشعر السياسي وشعر القضية الفلسطينية. وعجباً أن تعجز لغةٌ وسعت القرآن الكريم بإعجازه اللغوي، وهو كلام الله، عن وسع كلام خلقِ الله، وما كان منها إلا أن ذكّرتهم بالآية الكريمة: "كتابٌ فُصّلت آياته قرآناً عربياً لقومٍ يعقلون".
استشهدت اللغة العربية بأبياتٍ وأغانٍ لأجمل ما قيل، وعلى أنغام الموسيقى الرحبانية وقصيدة ‘’شآم يا ذا السيف لم يغب‘’ المغناة بصوت فيروزي خالد، حيت اللغة العربية الحضور وكلها أمل أن تكون كلماتها قد أيقظت ذاك المساء قليلاً من الوعي الراقد لدى هؤلاء اليافعين الذين تسنى لهم حضور العرض، وردّت لهم قليلاً من ثقتهم بلغتهم الأم، وبعضاً من إيمانهم بقدرتها على مسايرة عصرهم.
بهذه التجربة المميزة على كل الأصعدة ودعتُ الحياة المدرسية، وكلي فخر أنني جسدتُ اللغة العربية يوماً على خشبة المسرح لثلاثة عروض متتالية، تلك اللغة التي لطالما عشقت، والتي ظلت متبوئةً المكانة الفضلى في قلبي رغم إذعاني لشغفي بالمجال العلمي، الطبي منه على وجه الخصوص، ومتابعة دراستي الجامعية في مجال الصيدلة.
فيا أيتها الأم الرؤوم التي جسدتُ يوماً، أكتب عنك ولك وإليك في يوم عيدك...
لم يمنعني يوماً حبكِ من السعي وراء امتلاك أدوات العصر وإتقاني غيركِ من اللغات، ولا وجدت نفسي على المقلب الآخر مضطرة لتبديل جلدتي والتنكر لكِ بعد أن اخترت متابعة تخصصي في بلد أجنبي كنتِ تصدرين العلم له يوماً.
أتعلمين أن أول كتاب اشتريته عندما بدأت دراستي الجامعية كان المعجم الطبي الموحد الذي وضعه نخبة من الأساتذة المختصين من عدة بلدان عربية بغية توحيد المصطلحات الطبية من محيط الوطن العربي لخليجه، فكان رفيقي في دراستي الجامعية؟
أتعلمين أيضاً أني وبرغم إتقاني لأغلب مصطلحاته باللغات الثلاثة، العربية والانكليزية والفرنسية، لم أتلق يوماً سوى نظرات الحيرة والضياع إذا ما استخدمت أياً من المصطلحات المدرجة بين دفتيه باللغة العربية أمام أي من الزملاء العرب؟
أتدرين أن مصطلحاته بغالبيتها لا تمت لك أو لأصولك بصلة، وأنها ليست سوى محاولات يائسة لتعريب مفردات أجنبية مركبة وفق طرائق اصطلاحية ووضعية يعاني أساتذتنا قبلنا من تقبلها والتكيف معها فما بالك من استخدامها بسلاسة؟ لن أحدثك بالطبع عن نوبات الضحك التي تثيرها بعض المصطلحات في صفوف الطلاب وكأنهم سمعوا كلمات بالصينية أو اليابانية.
أتعلمين أني تركت يوماً إحدى محاضراتي الجامعية المملة وذهبت لعيادتك في بيتك، مجمع اللغة العربية، فلم أجد فيه سوى قليلٍ من المخطوطات التي بلي ورقها وأخذ بالاصفرار، وكأن الزمن قد توقف فيه قبل نحو خمسمئة عام؟
أتعلمين أنه وبينما يتم التحضير لطبعة جديدة من هذا المعجم الموحد، تظهر المئات من المصطلحات والمفاهيم العلمية والطبية الجديدة التي تحتاج لاجتماع لجان التعريب واتفاقها على مقابل عربي مناسب لها، ولربما تعلمين أكثر من أي أحد آخر أن أبناءك إن اتفقوا يوماً على شيء، فهو اتفاقهم على ألا يتفقوا.
أخشى إن أخبرنكِ أيتها القديسة عما بات عليه أبناؤك من الشقاق والنفاق والتنكر لك والتشبه بمن عاداك أن أتسبب لك بنوبة قلبية أُسرع بها بوفاتك! أي عزٍ يستحقه اليوم قومٌ أضاعوا لغتهم، أو كما وصفهم ابنك الشاعر محمود درويش: عربٌ أطاعوا رومهم... عربٌ وباعوا روحهم... عربٌ وضاعوا...
قد لا تكفيني السطور لتوصيف الحال التي وصلتِ إليها يا عروس العيد. لربما يدعي غالبيتنا أنه يملك تفسيراً علمياً وتاريخياً لما آل إليه حالك، ولكن لعله من غير الواقعي، بل لعله ضربٌ من السذاجة، أن أدعي أنني بما أكتبه إليك اليوم سأطرح علاجاً ناجعاً أو آليةً إنعاش أعطيكِ عبرها قبلة الحياة. سأكتفي هذه المرة بطبع قبلة على جبينك فقط، مسدلةً الستارة المخملية الحمراء مرة جديدة على تلك الأمسية التي أحييتك فيها بعد أن مضى عليها ما يناهز الخمسة عشر عاماً. لكن اسمحي لي أن أسدل الستارة هذه المرة باللغة المحكية وعلى الأنغام الرحبانية من الجيل الثاني:
بكرا برجع بوقف معكن، إذا مش بكرا البعدو أكيد
أنتو احكوني وأنا بسمعكن حتى لو للصوت بعيد
ولا غنية نفعت معنا ولا كلمة إلا شي حزين
إذا ما بكينا ولا دمعنا لا تفتكروا فرحانيين.
* نُشر هذا النص على صفحة الميادين الثقافية (الميادين نت) في اليوم العالمي للغة العربية الموافق لـ 18 كانون الأول ديسمبر 2018 تحت عنوان "في عيدها... هل ماتت لغتنا العربية"
إقرأ أيضا