08 يناير . 13 دقيقة قراءة . 920
العولمة وما بعد الحداثة.
أماني أبو رحمة
تعد العولمة من أكثر المفاهيم والمصطلحات التي تعرض لها المفكرون والنقاد والسياسيون والاختصاصيون في مختلف المجالات المعرفية الحديثة بالدرس والتحليل والتأويل والتفسير، بحيث لم يبق جانب من جوانبها بحاجة إلى المزيد من التوضيح والتفصيل، وتبقى الإشكالية التي تداولها المختصون في ما يخص العولمة وعلاقتها بما بعد الحداثة هي من منهما يمكن أن تعد سببا للأخرى ومن منهما النتيجة، بمعنى: هل أدت العولمة إلى ظهور وانتشار ما بعد الحداثة، أم أن ما بعد الحداثة هي التي مهدت لظهور وصعود العولمة؟ أم أنهما ظاهرتان مترافقتان ومتزامنتان بدون علاقات سببية؟ يوضح فرانك جي. لتشنر وجون بولي في كتابهما الضخم (العولمة، الطوفان أم الإنقاذ؟ الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية) والصادر عام 2000ـ وهو مجموعة واسعة من الدراسات لباحثين متخصصين تغطي جميع مظاهر العولمة أن العولمة جاءت كنتيجة لنشاطات كوكبية متنوعة تميزت بتبادل التبعية والتنظيم والوعي، وشهدت ظهور مجتمع عالمي متزايد التكامل والاندماج باطراد. إنها تحول عالمي تاريخي بالغ الأهمية. ويذهبان إلى أن العولمة “ليست ظاهرة اقتصادية فقط، بل إنها ظاهرة ذات أبعاد سياسية وثقافية مثيرة”، بينما يؤكد (ستيوارت سم Stuart Sim) على الجانب الاقتصادي البحت للعولمة ويعرفها بوصفها السعي إلى خلق وتأسيس سوق اقتصادية عالمية تعمل من خلالها الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود على إضعاف وتهميش سلطة الدولة القومية وقدرتها على التحكم بأسواقها واقتصادياتها المحلية.
ويوضح ستيوارت سم أن القليل من البضائع والسلع أصبحت تصنع وتستهلك في البلد نفسها، في الوقت الذي تحاول فيه هذه الشركات العمل على توسيع نطاق توزيعها للخدمات والبضائع ليشمل أي مستهلك محتمل في أي مكان في العالم وعلى حساب البنى التحتية للدولة والحقوق المدنية للفرد وتحويل الكرة الأرضية إلى سوق كبير يتم فيه ضخ السلع واستهلاكها بشكل مفرط.
إن إضعاف سلطة الدولة القومية كان دائما من أهم أهداف الليبرالية، فمن خلال تآكل قوة الدولة يمكن تحقيق أعلى قدر من الحرية الفردية. غير أن استبدال هيمنة الدولة بهيمنة الشركات المتعددة الجنسيات يؤدي إلى إحلال الاستغلال محل التسلط والقوة. لم تتحقق طموحات الليبرالية في الحرية والاستقلالية الفردية بسبب تزايد هيمنة السوق العالمية ونشر ثقافة الاستهلاك لتحقيق أعلى مستويات الربحية التجارية ومهما كانت النتائج المترتبة على ذلك.
ويرى ستيورات سم أن العولمة أدت إلى ظهور ما يعرف (بأصولية السوق Market Fundamentalism)، وهي السعي إلى إخضاع جميع جوانب الحياة الإنسانية لشروط السوق والعمل التجاري والربح وتجنب تدخلات الدولة في ما يعرف بالحمائية.
أدت العولمة في النهاية إلى الاستهلاك الفائق للموارد الطبيعية لكوكب الأرض ولطاقات الإنسان على حد سواء. وبذلك يخلص ستيوارت سم إلى أن العولمة تقف بالضد من كل قيم ما بعد الحداثة الساعية إلى تحطيم القيود وتحرير الفرد. فرجالات الحكومة في الدولة القومية يفكرون في صناديق الاقتراع والانتخابات وبذلك يكونوا ملزمين بنوع من العقد الاجتماعي مع أفراد المجتمع، أما مدراء الشركات العالمية الضخمة فلا ينظرون إلى الأفراد إلا بوصفهم مستهلكين. يتضح من خلال تناول سم للعولمة أنه ينظر إليها بوصفها النقيض الاقتصادي لحركة ما بعد الحداثة الثقافية. وفي الوقت الذي يهاجم فيه العولمة وأصولية السوق، نراه يضفي على ما بعد الحداثة بعدا إيجابيا. ففي مقال له بعنوان (ردا على سؤال: ما معنى ما بعد الحداثة) نشر في مجلة (Critique) عام 1982، يصف المفكر الفرنسي البارز ليوتار العولمة بطريقة تجعل من الصعب التفريق بينها وبين مظاهر ما بعد الحداثة، حيث تتداخل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لتخلق حالة عامة تصبح معها ما بعد الحداثة والعولمة وجهان لعملة واحدة. يقول ليوتار “يستمع الفرد إلى موسيقى الريجي ويشاهد أفلام رعاة البقر، ويتناول أطعمة مكدونالد على الغذاء وطعاما محليا على العشاء، ويضع عطور باريس في طوكيو ويرتدي أزياء (ريترو) في هونج كونج، وتصبح المعرفة هي ألعاب الفيديو. ومن اليسير العثور على جمهور للأعمال الانتقائية. ولكن الفن بمجمله يتحول إلى الدونية، ويغض الطرف عن الاضطراب الذي يسود (ذوق) رعاته. فينغمس الفنانون وأصحاب المعارض والنقاد جميعا في هذا (السوق). ويتحول العصر إلى عصر للتراخي، واقعيته هي واقعية السوق والمال. ففي غيبة المعايير الجمالية، يظل من الممكن ومن المفيد تقويم الأعمال الفنية حسب ما تحققه من أرباح. ومثل هذه الواقعية تلائم كل التوجهات كما يفي رأس المال بكل (الاحتياجات) شريطة أن تكون للتوجهات والاحتياجات قوة شرائية. أما الذوق، فلا حاجة إلى أن يكون مرهفا مادام الفرد يتأمل ذاته أو يسليها “.
ومثلما يختلف النقاد على طبيعة العلاقة بين العولمة وما بعد الحداثة، فإنهم يختلفون كذلك حول البعد الأخلاقي في العولمة. ففي حين يهاجم البعض العولمة بصفتها التعبير الأكثر وحشية عن الرأسمالية المتأخرة والمسئولة عن التراجع الكبير في الأخلاق والمشاعر الإنسانية السامية، فضلاً عن أنها تعمل على تحطيم الطبيعة على الأرض وتدمير البيئة بشكل متسارع، يعدها البعض الآخر من أهم عوامل التحرر والليبرالية، ويرون في التوسع الاقتصادي على مستوى الكوكب سببا في إيجاد فرص عمل للملايين من البشر الفقراء والمسحوقين حول العالم.
إقرأ أيضا: ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية.
كتب المفكر اليميني المحافظ بيتر مارتن مقال نشره في الفاينينشينال تايمز في مايو 1997، دافع فيه عن البعد الأخلاقي للعولمة، وأوضح بأن من نتائج التعاون العابر للحدود والمخترق للجماعات نسف إمبراطورية الشر المتمثلة في الاتحاد السوفيتي والتي توشك على تحقيق النتائج ذاتها في الصين. يعتقد مارتن أن العولمة ساهمت في إيجاد الملايين من فرص العمل الجديدة في العالم، وفي مناطق مثل هونج كونج وسنغافورة وماليزيا وتايلاند ظهرت طبقة عاملة مثقفة تعمل في شركات مثل سامسونج ودايوو في ظروف عمل متطورة، وفي الصين تحرر الملايين من البؤس الزراعي الكاسر للظهر وأخذوا بشق طريقهم نحو الازدهار والحياة المستقلة. وبنبرة خطابية مبالغ فيها يقول مارتن، “أطير فرحا حين أقف على طموحات العالم الثالث وأحلامهم، وعلى رغبتهم في تحقيق الثروة والازدهار، والحرية. ما الذي يريد المنتقدون قوله لأمثال هؤلاء الناس؟”.
وعلى النقيض من ذلك، يهاجم ديفيد هارفي أخلاقيات العولمة ويعتبر بعض الممارسات ذات الأهداف الدعائية، والتي تأخذ طابعا إنسانيا انتهازيا ومنافقا. محاولات لحقن الصدق الوهمي في ضمير المجتمع، والذي لا يكشف في النهاية إلا عن التدهور الأخلاقي للعولمة وانتصار الصورة على الأخلاق. يشير هارفي إلى حقيقة فوز الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بفترة رئاسية ثانية فيما كانت كل الإحصائيات تدل على أن أكثرية الناخبين كانوا لا يتفقون مع سياساته. وعند انتهاء فترته الرئاسية الثانية خرج من المنصب وهو يحظى بموجة من العاطفة الشعبية رغم أن معظم أفراد إدارته البارزين كانوا قد اتهموا أو وجدوا مذنبين في مخالفات خطيرة ضد القانون واحتقار صارخ للمبادئ الأخلاقية. ويعزو هارفي ذلك إلى حقيقة كون ريغان في الأساس ممثلا سينمائيا ونجما من نجوم هوليوود المعروفين. لقد انبهر الشعب الأمريكي بشخصية ريغان وطريقته في الظهور أمام عدسات الكاميرا وقدرته على تسويق صورة مبهرة عن نفسه. لقد أثبت ريغان، كما يقول هارفي، انتصار الجمالي على الأخلاقي. ويشير الكاتب تيد سي. فيشمان في كتابه (مباهج الاستثمار الكوكبي The Joy of Global Investment) إلى قضية المذيعة ومقدمة البرامج الأمريكية كاتي لي غيفورد في محاولة للكشف عن آليات حقن الصدق الوهمي التي تتبعها المؤسسات الإعلامية الأمريكية، فقد اتهمت المضيفة التلفزيونية غيفورد بالترويج لسلسلة ملابس مصنوعة من قبل فتيات هندوراسيات في الثالثة عشر من العمر يعملن أربع وعشرين ساعة في اليوم. ظهرت غيفورد باكية على الشاشة وادعت بأنها لم تكن تعرف بذلك، كما طالبت بإنقاذ هؤلاء الأطفال من الاستغلال، وجاءت صورة زوجها فرانك غيفورد المتلفزة بمهارة، وهو يقدم المال إلى إحدى العاملات في ورشة من ورشات التعرق لتتوج صورة زوجته المعنية بمناقشة تعقيدات الاقتصاد الكوكبي. ويعلق فيشمان على قدرة وسائل الإعلام الأمريكية على قلب الحقائق وتحويل مثل تلك المواقف إلى ميلودراما مضحكة قائلاً: “كان ذلك مشهدا بشعا، لا لأنه أماط اللثام عن الوجه القاتم ـ ثمة امرأة حاصلة على خمسة ملايين من الدولارات ومصرة على أنها لا تعرف شيئا ـ فقط، بل لأننا رأينا كيف يمكن، شرط توافر ما يمكن من المال والنزعة الكلبية الماكرة المنافقة الجادة، إعادة قلب تلك الميدالية لإبراز وجهها المشرق والضاحك، ما لبث كل شيء أن تعرض للنسيان”. استمرت غيفورد في عملها وساهمت بابتسامتها العريضة بحملة ترويجية لسائل منظفات، وهكذا شعر جمهور المشاهدين المتابعين للفضيحة بالارتياح.
إقرأ أيضا: عن التحول الباراديمي بين الحداثة وما بعد الحداثة
ومن عمليات حقن الصدق الوهمي في المجتمع الرأسمالي ما بعد الحديث فضيحة ووترغيت الشهيرة والتي اضطر على إثرها الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة من منصبه عام 1968، والضجة التي قامت على المبالغ الضخمة التي تقاضاها لاعب كرة السلة الأمريكي المحترف مايكل جوردن من شركة نايك للأحذية الرياضية مقابل القيام بحملات الترويج الإعلاني لها، في الوقت الذي كانت ترفض فيه الشركة القبول بزيادة أجور العمال العاملين في فروع الشركة في الصين والذين يعملون لساعات طويلة في ظروف عمل قاهرة. والحقيقة أن تلك الممارسات لا تدل على صحوة أخلاقية مفاجئة من قبل المجتمع الأمريكي وأجهزة الرقابة الشعبية فيه، بقدر ما كانت نوعا من الخداع الذاتي للتأكيد على أن مثل تلك الانحرافات الأخلاقية كانت استثناءات بسيطة في النظام. كما أن الضجة الإعلامية، والتي سرعان ما تتلاشى وتختفي بعد أن يفقد المشاهدون الاهتمام والمتابعة، والتي ترافق مثل تلك الفضائح عادة ـ كانت تضع اللوم على الأشخاص وليس على النظام. وغالبا ما كان يتم التعامل مع المشكلات الإنسانية الكبيرة والآثار الخطيرة لاستغلال واضطهاد الشعوب الفقيرة من أجل رأس المال، من خلال حملات خيرية لجمع التبرعات وحفلات موسيقية صاخبة. وهكذا يستطيع المجتمع الرأسمالي ما بعد الحديث تجاوز المعضلات الأخلاقية بدون الحاجة إلى ممارسات حقيقية جادة لتغيير النظام برمته أو حتى الدعوة إلى إصلاحه.