23 أكتوبر . 3 دقائق قراءة . 407
التكرار والاجترار سلوكان يؤديان لامحالة،إلى "موت الفن" ونهايته"، كما عبر عنذلك هيغل في " جماليته".ورغم أن هيغل كان يتحدث عن الفن الرومنتيكي المرتبط بالغرب المسيحي في القرون الوسطى، والذي بزغ من جديد خلال الفترة ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في العمارة والتصوير، فهو يرى أن كل مراحل هذا الفن قد تم تجاوزها، عبر استنفاد مواضيعها وأشكالها التي على خلفيتها تتأسس جماليتها. فهيغل يرى أن الفنانين ضربوا "صفحا عن تفكيرهم" وأصبحوا عاجزين عن تجديد أنفسهم وممارساتهم. نتساءل ما إذا كانت تنبؤات هيغل منذ بدايات القرن التاسع عشر، و هو يربط بين التكرار والاجترار ونهاية الفن، وأن كل الموضوعات والأشكال الفنية قد استنزفت طاقاتها، ولم يبق منها شيء يمكن أخذه، لتصدق تلك التنبؤات كذلك على من جاء بعده من فنانين وما ظهر من تيارات واتجاهات طليعية وغيرها. "ولهذا لا يمتنع المنددون بالفن المعاصر عن الإشادة بهذا التوقع – وهذا قبل قرنين من الزمن -بالانحطاط الذي يشهده الابداع الفني اليوم"(جيمنيز). هناك من الباحثين والنقاد من لا يتفق مع الأطروحة الهيغلية بل منهم من يرى أن تلك التنبؤات كانت إعلانا مسبقا عن "ميلاد الفن الحديث والجمالية كعلم للفن"(جيمنيز).
نتساءلإذا كان التكراروالاجترار الذي تعيشهالحركة التشكيلية بالعالمالعربي ليس إلاعرضا مرضيا قد يعلن مستقبلا، عن موتالفن ونهايته؟
يبدو واضحا أن الحركةالتشكيلية العربية وصلت إلى البابالمسدود واختنقت باختناق إبداعها، ودوران مبدعيها، فلم يعدبإمكانها الرجوع إلىالوراء والقيام بنقدذاتي صحيح وتقييم الحصيلة التي راكمتها على مدى عقود من القرنالماضي.
إن فكرة التكرار والاجترار تعني أن الفنان العربي مازال يجتر ما يتبضع من سلعة، يكرر العملية مرات ومرات إلى ما لانهاية. قد يستيقظ من سباته أحيانا، لكن بعد مدة يجد نفسه خلالها رهين التيه والشرود. إنه نعيش على "البعدية" في الزمان والمكان.
لقد فصل في هذه المسألة الدكتور محمد عابد الجابري حينما بين كيف أن أقطارا عربية تعيش "بعديا" العصور التي عاشتها أقطار أخرى. "إن الأقطار العربية قد عاشت بعديا "العصر الجاهلي" (...) وما زالت تعيشه كجزء من تاريخها الثقافي. ومثل ذلك العصر الإسلامي نفسه الذي يجب التمييز فيه كذلك بين أمكنة ثقافية، عاش بعضها ما سبق أن عاشه بعضها الآخر من قبل (...) وقد نتج عن ذلك ما يمكن أن نعبر عنه ب "ظاهرة الاجترار الثقافي" التي ما زالت تحملها معها المؤلفات الكثيرة التي وصلتنا والتي يكرر بعضها بعضا بشكل يجعلها جميعا تحمل ثقافة لا حركة فيها (...) وهذا على الرغم مما يفصل بين مؤلفيها من مسافات على سلم الزمن الطبيعي"(الجابري). تراني أطيل في الكلام المقتبس عن الجابري لأن ما يحمل بين ثناياه من حقائق ينطبق تماما على الحركة الفنية العربية، التي هي جزء من "الفكر العربي" و"الثقافة العربية"، وما يجري على أجناس فكرية عربية أخرى (أدب وشعر وفلسفة وعلوم إنسانية) يجري على الفنون التشكيلية. "ففي الحين الذي كان فيه الفن الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يبتكر حداثته، كان الشرق يدخل، عبر لعبة مرايا دائمة ومدواخة، في التشخيص ويعود باستمرار للتجريد، كان ذلك تجريدا مضطربا بين حضارة الصورة وحضارة العلامة". فلا هو أخذ بالصورة ولا هو نفث الروح من جديد في العلامة.
إن "البعدية" التي يعيشها الفكر العربي زمانيا ومكانيا، داخل ذاته هي نفسها التي يعيشها خارج الذات. ولا أنوي تعميم التحليل والنقد على الفكر العربي كله لأن ذلك يخرج عن نطاق موضوع دراستي من جهة، ومن جهة ثانية لن يكون في مقدوري الإتيان بغير ما تناوله أهل الاختصاص، وإلا سأكون بدوري مكررا ومجترا لأفكارهم* وهذا ما لا أريده.
ستكون محاولتي المتواضعة لتناول الحركة التشكيلية المغربية كنموذج، ممارسا عليها نوعا من النقد بقصد محاولة المساهمة في تبيان ما هو "ميت او متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي"(الجابري)، ومبينا كيفية تداخلها مع زمن ثقافي غير زمانها. فكما أنها تعيش في زمن ينتمي إلى فكر عربي متجاوز، نجدها كذلك تمتح من مياه زمن أوربي هو بدوره متجاوز. وهذا يعود بنا إلى ما أشرنا اليه حينما تحدثنا عن "البعدية" والعيش بها خارج الذات.
إن الحديث عن زمانين ثقافيين تعيشهما حركتنا التشكيلية العربية عموما يجرنا إلى المقارنة بين فكرين وثقافتين، الواحدة عربية والأخرى أوروبية. ولماذا أوروبية وليس غيرها، لأن لها زمان ثقافي "يفرض نفسه علينا في كافة المجالات، فيضايق بل يمزق زماننا الثقافي الخاص بنا، زماننا الراكد الممتد"(الجابري).
لا أحد ينكر أن المقارنة بين الفكرين الأوروبي والعربي لا فائدة من طرحها نظرا للاختلافات الجوهرية بينهما على جميع المستويات، تاريخيا ووجوديا وإيديولوجيا وإيبستيمولوجيا، إضافة إلى كون الأول مهيمن والثاني مهيمن عليه، الأول عقل مكوِّن Raison constituante والثاني مكوَّن Raison constituée. "قد يبدو أننا الآن في وضع يمكننا من الدخول مباشرة في المقارنة (بين العقل العربي والعقل اليوناني-الأوروبي الحديث) ولكن هذا وهم. فنحن وإن كنا الآن على بينة من تطور مفهوم العقل في الثقافة الإغريقية الأوروبية، فإننا لم نستخلص بعد من تاريخ هذا العقل ما يمكن اعتباره بمثابة كيانه الداخلي الثابت، نفصد بذلك هيكله البنيوي الذي ظل ثابتا رغم كل التحولات التي عرفها والذي على أساسه وحده يمكن القيام بالمقارنة"(الجابري).
فالمقارنة المتوازنة الحقة لن تتحقق إلا "بعد أن تكون الخصائص الكبرى لحضارة معينة قد منحت قيمتها الحقة، آنذاك يمكننا مقارنتها بحضارات أخرى، وإبراز القيمة المتبادلة للحضارات الفاعلة في مسألة الفن، وماثلاتها وأصالتها، وحوارها أيضا" (الجابري).
يعيش الإنسان الأوروبي زمنا ثقافيا متصلا عبر التاريخ غير منفصل ولا متقطع في وعيه ممتدا على مدى ثمان وعشرين قرنا، مقسم إلى ثلاثة عصور ثقافية: العصر القديم الإغريقي اللاتيني والعصر الوسيط المسيحي والعصر الحديث. ثلاثة عصور حاضرة في الوعي الفردي والجماعي على السواء، في الشعور واللاشعور، وتلعب دورا كبيرا في تكوين "العقل الأوروبي" وتنميته وتطوره وتقدمه. فهذه الاستمرارية التاريخية والوجودية "تشكل اطارا مرجعيا ثابتا وواضحا وسواء كانت الاستمرارية حقيقية أم موهومة، وسواء نظر إليها أنها تمتد بحركة متصلة أو عبر "قطائع" فإن المهم هو وظيفتها على صعيد الوعي. إنها تنظم التاريخ وتفصل فيه بما قبل وما بعد بصورة تجعل من المستحيل التطلع (...) الى عودة ما قبل ليحل محل ما بعد (...) إن هذه الاستمرارية – الحقيقية أو الموهومة، لا فرق – تمد أصحابها بوعي تاريخي يجعلهم يتجهون إلى المستقبل دون أن يتنكروا إلى الماضي، وأيضا دون أن يجعلوا هذا الماضي أمامهم فيقرؤوا فيه مستقبلهم". (الجابري)
هذا عكس ما يعيشه المثقف العربي، الذي يفتقد تاريخه إلى الاستمرارية وتتخلله "الحلقة المفقودة" التي أشرنا إليها من قبل.
الهوامش:
* للتفصيل في مسألة "البعدية" وما نتج عنها من "اجترار ثقافي" يمكن الرجوع إلى مؤلف الجابري المذكور.