29 ديسمبر . 9 دقائق قراءة . 1243
ليست من اختراع النقاد
انساق القيمون على الفن في البلاد العربية كعادتهم، كل حسب ميوله وتعاطفه ورؤاه وفلسفته، وبدون أي نظرة نقدية موضوعية، فاتحين صدورهم لأي شيء صادفته أعينهم، معتبرين إياه فنا معاصرا، معتقدين أنهم حققوا التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. ويجب التأكيد هنا على أن هذا التحول لم يكن في الغرب اعتباطيا ولا ظرفيا عابرا، بل له ما يبرره تاريخيا وأنطولوجيا. ولم يكن الفصل بين الحداثة والمعاصرة من اختراع "نقاد مأجورين"، كما اعتقد فاروق يوسف صاحب كتاب (الفن في متاهة – الفن العربي بين المتحف والسوق وإملاءات الفنون المعاصرة). فقد صرح بأن "هناك فاصلة اخترعها نقاد مأجورون بين ما هو حديث وما هو معاصر. فالحداثة من وجهة نظرهم (أي النقاد المأجورون)، تنتمي إلى ماضي الفن أما المعاصرة فهي تمثل ما يمكن الاحتفاء به انطلاقا من درجة القطيعة التي ينجزها مع تاريخ ذلك الفن. غير أن ما تتستر عليه تلك النظريات الهشة من أوهام يفضحه وجود فنانين معاصرين يعنيهم أن يمتزجوا بتاريخ الفن من حيث كونه إطارا جامعا لهويتهم. أذكر هنا على سبيل المثال ليس إلا الأميركيتين كيكي سميث(1*) وسيندي شيرمان(2*) والهندي كابور*3)) والبرازيلي أرنستو نيتو (4*). هناك العشرات من الفنانين لا تتعارض معاصرتهم مع مزاج كلاسيكي يحمل في جوهره رسالة الجمال الثابتة على مر العصور. فالجمال باعتباره نبوءة لا يكتسب قيمته من خلال نفاق شعبوي هو في حقيقته مقدمة لدعاية استهلاكية أشبه بالفقاعة. لغة الفن لا تقع في المفردات المطلية بلمعان زائف، بل في الجمل التي تقول الحقيقة. وهذا يعني أنه لن يكون هناك معنى للمعاصرة ما لم يكن الفن وفيا لأصوله الضاربة بجذورها عميقا. المعاصرة كذبة ما لم يكن حملتها والدعاة إليها حرصاء على المحافظة على قوة الفن."(1)
شخصيا لا أتفق مع فاروق يوسف على ما صرح به بخصوص كون الحداثة في نظر النقاد، الذين لم يحدد هويتهم، أهم عرب أم عجم، تنتمي إلى ماضي الفن، وأن المعاصرة تمثل القطيعة مع تاريخ الفن. فليس هناك أي من النقاد الغربيين أو العرب من يربط الحداثة بماضي الفن، إذ الكل يعتقد بداهة أن الحداثة هي قطيعة مع الماضي، مع عصري النهضة والتنوير الأوروبيين. فالحداثة الفنية الأوروبية، منذ بداية القرن التاسع عشر، قد شكلت قطيعة فعلية مع الإرث الفني القديم الوسيط والكلاسيكي النهضوي على الخصوص، اللذين ترتبط جذورهما بالتراث الفني الإغريقي/الروماني/المسيحي، وهذا لا يجادل فيه أحد، ولا يخفى على فاروق يوسف نفسه، والنقاد "المأجورون" كما سماهم، لم يخترعوا الفاصلة التي ذكرها، بين ما هو حديث وما هو معاصر. حقيقة أن الفيلسوف/الناقد الجمالي أرتور دانتو Arthur Danto (1924-2013) أوضح الفرق بين الحداثة والمعاصرة من الناحيتين الأنطولوجية والجمالية، إلا أننا لا نجيز لأنفسنا اعتبار هذا الناقد وأمثاله من "النقاد المأجورين".
يعتبر آرثر دانتو من الضروري أن يحدث الفرق بين الحداثة والمعاصرة. بالنسبة إليه شكلت سبعينيات القرن الماضي الحدود بين الإثنين. ففي الفن الحديث تبدو وجوه الاختلاف في الثورة التصويرية والتقدير الجمالي، والممارسة المستقلة لبعض المعايير الفنية، والأفكار المتعلقة بالأشكال والألوان والفضاء، بينما الفن المعاصر هو مجرد الخروج عن هذا السرد، ومن تاريخ الفن كله. إنها، حسب رأي دانتو، نهاية "تاريخ الفن" أو حتى "نهاية الفن" نفسه، عندما تتغير جذريا الأشياء المتأصلة من الفن. فلم تعد المسألة تتعلق بالجمالية L’esthétique، ولكن بفلسفة الفن من خلال الفن. إنها مسألة لتعيين ما هية الفن، وتحرير ممارسته واستقلاليته.
إن الفاصلة التي عزلت الحداثة عن النهضة، كانت من نتاج التاريخ، بما في ذلك التاريخ السياسي: الثورة الفرنسية وبيانها حول حقوق الإنسان، الثورة الصناعية الإنجليزية، ظهور الدولة الحديثة بمؤسساتها، التطور العلمي والاكتشافات العلمية (تطور الرياضيات والفيزياء واختراع الآلات البخارية وغير ذلك)، الوعي بوجود عالم جديد وإعطاء نظرة مخالفة لما كان في العصور الوسطى وعصر النهضة، مفهوم جديد للذات وظهور الفرد الحديث، ظهور النظريات الفلسفية الحديثة وأثرها على فلسفة الفن والجمال،( ديكارت وكانط و بومغارتن وهيجل وماركس وغيرهم)، سيطرة العقلانية وإيجاد تفسيرات للظواهر الطبيعية، وسيادة الإنسان على الطبيعة (المعرفة العلمية: ديكارت وبرغسون)،التغيرات التي حصلت على مستوى الشعر والأدب والموسيقى...
فالحداثة الفنية هي بدورها لا يمكن فصلها عن الحداثة الشاملة، التي عرفها القرن التاسع عشر على جميع المستويات: الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية. وما كانت لتسمى حداثة وهي مرتبطة بالماضي، "فالحداثة تملك القدرة على أن تتأسس (جمالياً) على نفسها، أي تجد أعمدتها وأسسها في نفسها ولا تحتاج إلى أن تستدعي قيماً خارج زمنها"(2)، أي أن الحداثة الفنية ما كانت لتسمى كذلك وهي مشدودة إلى الماضي الفني الكلاسيكي والأكاديمي، رافعة شعار "الجمال" بمفهومه المثالي، الأفلاطوني والهيغلي. إن الحداثة بنت أسسها على مبدأ الحرية المرتبط بالهوية الإنسانية، وما كانت لتحقق هذا المبدأ وهي تستمر في نسج خيوط الربط مع التراث ذي ال "مزاج الكلاسيكي (الذي) يحمل في جوهره رسالة الجمال الثابتة على مر العصور" كما اعتقد فاروق يوسف.
يسمي فاروق يوسف في مقاله: (في مغزى أن يكون الفن معاصرا، النهار، 3 كانون الثاني 2014)، النظريات التي حددت الفاصلة بين الحداثة والمعاصرة ب "الهشة"، وهذا قول مبالغ فيه نوعا ما. فالحداثة الأوروبية بطبيعة الحال، تستوجب النظر إليها، كما أوضحنا فيما سبق، "على أنها عملية تاريخية شديدة التعقيد"(بغورة). فكما ظهرت الحداثة نتيجة للتحولات التي عرفتها أوروبا على جميع المستويات، منتقدة الماضي التاريخي والحضاري، جاءت المعاصرة أو ما بعد الحداثة بدورها نتيجة التحولات التي عرفها القرن 20 وأنتجتها الحداثة نفسها. ما بعد الحداثة أصلها حركة ثقافية نقدية لقيم الحداثة التي أضحت متأزمة، حيث إن مشاريع هذه الأخيرة كلها باءت بالفشل: ما عرفه تاريخ البشرية خلال العقود الأولى من القرن العشرين من سلبيات، وما آلت إليه الشعوب من استعمار واستبداد وهولكست نتيجة التفوق العسكري والتوسع الاستعماري والتطور التقني، وارتفاع نسبة البطالة، وتقويض النظام الاشتراكي، وعدم تحقيق مشاريع التنمية في بلدان العالم الثالث، والتلوث البيئي والدمار والخراب اللذان سببتهما الحروب والنزاعات الطائفية. إنها "الحداثة المنتصرة أو المظفرة" كما سماها الفيلسوف الفرنسي آلان تورين Alain Touraine في كتابه (نقد الحداثة).
إذا نحن وافقنا فاروق يوسف في زعمه بأن "النظريات التي حددت الفاصلة بين الحداثة والمعاصرة" هي نظريات "هشة"، فيجب أن نعمم وصف الهشاشة هذا على جميع النظريات الفلسفية الجمالية التي من الحداثة والمعاصرة والعلاقة بينهما من إشكالياتها الرئيسية، ومن تم سنضرب عرض الحائط كل الكتابات الفلسفية لمدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية التي كانت من بين النظريات المؤطرة لما بعد الحداثة، والفلسفة التفكيكية لجاك دريدا (Jacques Derrida (1930– 2004 ، وفرانسوا ليوتار François Lyotard (1924-1998) وشكه في السرديات الكبرى les métarécits، وتأويلات الفلسفة التحليلية، وأتمثل خصوصا بكل من نلسون ﯕودمان Nelson Goodman (1906-1998)، وأرتور دانتو Arthur Danto (1924-2013)، وكل نظريات الفلسفة المعاصرة بقاماتها: هيدغر و غادامير وفوكو وألتوسير وبودريار ودولوز وآخرون ممن يشتركون في الموقف المناهض للتقاليد الأيديولوجية الحداثية في الغرب.
بين نيلسون غودمان في كتابه (لغات الفن. مقاربة نظرية الرموز، (Langages de l’art. Une approche de la théorie des symboles) أن "لا فارق أساسي بين التجربة العلمية والتجربة الجمالية". فغودمان استبعد الفن عن التمثيل ليربطه بالمعرفة. و"ما يعبر عنه العمل الفني، ومضمونه، وفكرته، لا يحسب لها أي حساب". فلم تعد تلك المقاييس الجمالية التقليدية المتأسسة على أحكام الذوق والجمال والمتعة مجدية ولا صالحة لتقييم العمل الفني. إن نظرية نلسون غودمان تسعى للفصل بين مفهومين باتا ضحية خلط: الجمالي والفني. ففي رأي غودمان أن الحكم على عمل انطلاقا من الحساسية ليس ضروريا ولا مهما، بل ما يهم هو أن العمل يعتمل جماليا. وهذا يحيلنا إلى تساؤله "متى يكون هناك فن؟" الذي استعاض به عن التساؤل التقليدي: "ما الفن؟". كان جواب الفيلسوف: "هناك فن حين يعمل شيء رمزيا مثل عمل فني". (جيمنيز)، ويدعم نيلسون فكرته بمثال لوحة رامراندت التي تخلت عن وظيفتها الأصلية كعمل فني يعمر المتحف ليسد زجاجا مكسورا.
سئل أرتور دانتو: "هل أنت متفق مع نيلسون غودمان حينما يعتبر فقدان لوحة رامبراندت وظيفتها كعمل فني خروجا عن نطاق الفن؟"، وكان رده: "بالنسبة لي، هذه اللوحة ماتزال فنا رغم أنها لم تعد تؤدي وظيفة فنية. أجد أن أفكار "متى يكون هناك فن؟" لاتقود إلى شيء. إنها تؤدي إلى أنواع من التساؤلات، لكن لا يبدو لي أنها تشكل جزءا من البنية الحقيقية لمسألة الفن".
لم يكن دانتو الفيلسوف الوحيد الذي انتقد "جمالية" غودمان التحليلية، فمارك جيمنيز(1943...) يرى أن الجمالية، رغما عن غودمان، "هي نوع من الحساسية، والانفعالات، والحدس، والشهوانية، والرغبات، أي أنها ميدان يسود فيه نزاع قاهر بين الرموز وبين نسق التدوين المناسب لها. والعمل الفني في المخيال الفردي أو العمومي، يعيش من تعدد التفاسير الممكنة، ومن الأحكام المدققة، المتناقضة أحيانا والمتغيرة التي يستثيرها".
دفعني إلى سرد هذا الكلام كله لأبين للقارئ، عكس ما حدث في الثقافة العربية، أن الانتقال في الغرب من النهضة إلى الحداثة ومن هذه إلى المعاصرة لم يكن من باب الصدفة وأن الفواصل لم تكن من وضع "نقاد مأجورين" ولا من اختراعهم. وحتى إذا رجعنا إلى الثقافة العربية الحديثة نجد أن الانتقال من فترة الحداثة (التنوير والنهضة)، إلى ما بعد الحداثة، لم يكن من وراء رسم حدوده أشخاص بعينهم، ولكن عوامل ظرفية وتاريخية تعيشها الثقافة العربية (مرجعية التراث، محاولات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، الهوية الوطنية، الاستعمار والتبعية، الاستشراق والاستغراب) هي من يتحكم في زمن هذه الثقافة.
فالارتباط بالزمن الماضي والتعلق بالتراث في محاولة الانصهار "مع مزاج كلاسيكي يحمل في جوهره رسالة الجمال الثابتة على مر العصور"(فاروق يوسف)، يعني رفض كل تجديد، والسير في الطريق المعاكس الذي نهجته الحداثة. وهذا ما سلكته الحداثة الفنية العربية التي أخطأت الطريق ونهجت سبيلا أدى بها إلى متاهات لم تستطع أن تنعتق من مسالكها. فسيرها في الاتجاه المقابل تماماً للذي سارت عليه الحداثة الغربية، عبر إعادة الاعتبار للماضي التراثي والثقافي، ومحاولة إعادة الحياة لبعض النماذج التراثية كالخط العربي والزخرفة الإسلامية والفنون الشعبية والرموز أدى بها في آخر الأمر إلى الاجترار والتكرار وإعادة نسخ ما سبق، حيث بات فنانوها يكررون أنفسهم دون توقف إلى درجة الركاكة والتقزز والملل، وكانت منجزاتهم صيغاً تراثية شكلية، انسُلِخت من عوالمها الأصلية، مع فقدان قدسيتها، لتصب في قوالب تشكيلية غربية. شأنهم كمن رسم برتريه لأبيه على لوحة زيته ويدعي أصالة رسمه. لقد كانت الحداثة الفنية العربية، وما زالت، بخلاف قرينتها الغربية، تفتقد إلى خلفية معرفية وفلسفية/جمالية تؤطرها وتجعلها مشروعا مكتملا يعطيها استمرارية في التاريخ والزمن.
يضيف فاروق يوسف: "غير أن ما تتستر عليه تلك النظريات الهشة (التي فصلت بين الحداثة والمعاصرة)، من أوهام يفضحه وجود فنانين معاصرين يعنيهم أن يمتزجوا بتاريخ الفن من حيث كونه إطارا جامعا لهويتهم"، ويسرد أسماء فنانين في نظره، "لا تتعارض معاصرتهم مع مزاج كلاسيكي يحمل في جوهره رسالة الجمال الثابتة على مر العصور". يكفي أن نرجع إلى هؤلاء الفنانين الذين أعطاهم كأمثلة ليتبن لنا أن أعمالهم لا علاقة لها ب «رسالة الجمال الثابتة" ولا بالجمال (المثالي) الذي يعنيه مضمرا بكلامه، ولا بالتوجه المزاجي الكلاسيكي. فرسومات الأمريكية كيكي سميث تفتقد عمدا، إلى المهارة التقنية (الكلاسيكية/الأكاديمية) المعروفة، وسندي شيرمان تعبر عبر عدسة كاميرتها، أما الهندي أنيش كابور والبرازيلي إرنستو نيتو فأعمالهما مفاهيمية تنصيبية (Installation) معاصرة محضة، توظف خامات مختلفة. أتساءل إذا أين يرى فاروق يوسف الجمال والمزاج الكلاسيكي لدى هؤلاء الفنانين المعاصرين الذين سردهم كأمثلة في مقالته؟ لا شك أنه كعدد من النقاد ينظر إلى الفن المعاصر عبر عدسة منظار تقليدية.
كان على فاروق يوسف، ليدعم فكرته عن وجود فنانين معاصرين امتزجوا بتاريخ الفن، و"لا تتعارض معاصرتهم مع مزاج كلاسيكي"، أن يبحث له عن فنانين ما بعد حداثيين أشد ارتباطا بالتوجه الأكاديمي، تصورا وتقنية ومهارة وأسلوبا، كأولئك الذين يشكلون مثلا اتجاه الواقعية المفرطة Hyperréalisme))(*)، فرغم أن هذا الاتجاه الحديث يوظف تقنيات عصرية كالرش بآلة Aérographe والاستعانة بأجهزة عرض الشرائح، واعتماد الصورة الفوتوغرافية، والتقنيات الإلكترونية الحديثة، فهو يسعى إلى إعطاء صورة طبق الأصل للنموذج، وبالتالي يلعب على مفهوم المحاكاة La mimésis، لينتج أعمالا تصويرية تفوق جماليتها تلك التي تعطيها آلة التصوير الفوتوغرافي.
هوامش:
1* كيكي سميث، من مواليد 18 يناير 1954 في نورمبرغ، فنانة أمريكية معاصرة، تصنف عموما كفنانة نصيرة للمرأة، وهي حركة ولدت في القرن ال 20.
2 *سندي شيرمان (1954 نيويورك)، فنانة تشكيلية ومصورة فوتوغرافية أمريكية معاصرة، توظف نفسها كنموذج في أعمالها باستعمالها حيل تقنية مختلفة
3* أنيش كابور، من مواليد 12 مارس 1954 في بومباي، الهند، هو فنان تشكيلي (نحات أساسا) البريطانية.
*4 ارنستو سابويا دي البوكيرك نيتو (ولد في ريو دي جانيرو، البرازيل، 1964) هو فنان معاصر اللدائن.
(*) hyperréalisme حركة فنية معاصرة ظهرت في الربع الأخير من القرن العشرين بأمريكا. وتعتمد استنساخ متطابق للصورة/النموذج لإعطاء لوحة واقعية لدرجة أن المشاهد يبدأ في التساؤل إذا كانت طبيعة العمل الفني هو لوحة أو صورة.
بيبليوغرافيا: