07 فبراير . 4 دقائق قراءة . 1205
ليست هنالك أيّة رمزيّة [في رواية الشّيخ والبحر]، فالبحر يعني بحر ، والشّيخ يعني شيخ، والطّفل يعني طفل، والسمكة تعني سمكة، أما أسماك القرش فكلها تعني أسماك قرش لا أكثر ولا أقل، كلّ الرّمزية الّتي يتفوه بها الجميع هي محض خَرَاء
إيرنست هيمينغوي، من كتاب (إيرنست هيمينغوي - رسائل مختارة ١٩١٧ - ١٩٦١).
طيّب يا سيّداتي ويا سادتي! لحد هنا ما المشكلة؟ الكتاب هو كتاب الرجل، وهو حرّ في تقديم رأيه بخصوص دالّاته الّلا-سيميولوجية.
المشكلة هي عندما يأتي أتباع (بارت) و(فوكو) ويصرّون على ألّا داعي لأن ننصت لرأي (هيمينغوي) لأن المؤلف يموت (معنويًا) بمجرد الانتهاء من الكتابة، لمن لايعرف من هم هؤلاء، هذان فيلسوفان مابعدحداثيان، وهما يريان ألّا قيمة لتفسيرات الكاتب حول معاني ودلالات نصه بعد أن ينتهي من كتابته، بل تقبع كامل السّلطة التأويلية لدى كل من يقرأ هذا النص، وتكون قيمة هذا التحليل والفهم البديل بذات قيمة النص الأصلي، والذي لا بد من تقويض سلطته على القارئ والنص، كما يجب تقويض كل سلطة سياسية وثقافية أخرى على حد رأيهم.
ليس سرأ أنني لست من جمهور (بارت) أو (فوكو) مع احترامي لمسيرتهما العظيمة، وهذا الأمر ليس آخر ما أخالفهما الرأي فيه، لكنني في الوقت ذاته أثمّن النص الرديف (أو التعليق أو النقد) ولا أبخسه قدره أبداً. فأنا أعتقد أنّ كلّ نص تفسير أو تأويل أو تحليل لأي نص آخر هو عمل يحمل قيمة بحد ذاته، وهو يستحق الاطلاع والمناقشة والجدل كونه يحمل قيمته الذاتية، وهي برأيي لاتنتقص من قيمة النص الأصلي. كما أن النص الرديف قد يحمل دلالات سيميولوجية ومعاني واستعارات بنيوية وتناصّ مع نصوص أو نصوص رديفة أخرى، مما يجعله موضعاً لنقد النّقد بحد ذاته.
-----------------------------------------------------------
على فكرة، إن أردت أنت تعرف أكثر عن مابعدالحداثة والفلسفة المعاصرة ننصح بقراءة:
ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية.
عن التحول الباراديمي بين الحداثة وما بعد الحداثة.
الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان
------------------------------------------------------------------
ولكن جوهر الاختلاف بين ما أراهُ وما أصَرَّ عليه (بارت) و(فوكو) هو أن قراءة المؤلف الأصلي للنص تتبوأ مركز الأولوية والأفضلية فوق كل التّفاسير الأخرى، فهي تعلو عليها درجة وتمتاز عنها بأسبقية تحديد معنى كل من الدالات. وأنا هنا أبني هذا الرأي على قناعتي بأن المُبدع إذ يكتب نصاً (أوينحت تحفة أو يرسم لوحة...إلخ) فإنه يساهم في تعزيز (بل وتخليد) وجوده كفرد وُجِدَ فعلاً في الزمان والمكان، وهذا هو المضاد التام لاعتقاد بأن الانتهاء من العمل الإبداعي يعني موت المبدع. إن كنا نموت فورا انتهائنا من العمل الإبداعي فما قيمة وجودنا؟ وهل النّص أكثر قيمة من المؤلف؟ بالطبع لا! فلو مدّدنا فرض أن النصوص لها البقاء والمؤلفون لهم الزوال لالتغى معنى وجود البشر، وإن التغى معنى وجود البشر فما قيمة رأيهم فيما يقرؤون إن كانوا عديمي القيمة أصلاً؟ وبالتالي فلا قيمة للنصوص وهذا يناقض الفرض.
إن ارتقاء تفسير وفهم المؤلف لنصه فوق التفاسير الأخرى لا يلغيها، وإنما يعمل كمرجعية للاطلاع حول المعنى المعياري للعمل في لحظة خروجه للنور، ولا شك في أن هذا المعنى قد يخرج عن السياق مستقبلاً ويصبح بائداً أو غير مقبول سياسياً أو لربما غير أخلاقي، ولكن مالجديد في هذا، أوليست العديد من النصوص القديمة تعاني ذات العلة؟ وهل هذا ينتقص من قيمتها؟ لا أعتقد أبداً.
خلاصة القول، إن التحليل والتفسير للنص خارج إطار فهم مؤلفه عملية حيوية وضرورية لدفع عجلة الفكر البشري والارتقاء بالفكر من خلال الجدل الديناميكي الهدام والبناء وصولاً إلى معارف ومفاهيم أعمق وأكثر صحّة. لكن هذا برأي لا يعني بأن نسمح بإلغاء رؤية المؤلف الأصلي، بل علينا أن نطّلع عليها ونتعاطف معها من منظوره، ونعيش قصده وتجربته قبل أن نشرع باسقاطها على واقعنا وذاتيتنا وتجربتنا لكي نغنيها وتغنينا.
في النهاية ألم يقلها فرويد ولو بشكل غير مباشر حينما قال:
أحيانا… يكون السيجار مجرد سيجار!
14 ديسمبر . 0 دقيقة قراءة