16 أبريل . 4 دقائق قراءة . 773
أعيش حياتاً صاخبة، منذ تخرجي عام 2000، ووتيرة أيامي بسرعة الضوء. العمل... العمل كل انشغالاتي، فأنا أعطي زواري كامل وقتي، حتى أن الكثير منهم لا يرتاح إلا إذا اتصل بي يومياً، وأخبرني عن يومه.
طبيبة نفسية أنا، ولشدة عشقي لمهنتي، فأنا أعتبر زواري- لا أحب أن أسميهم مرضى- هم عائلتي الممتدة، ويعنيني أن أراهم راضينَ ومرتاحي البال دائماً.
لا بد أنكَ عزيزي القارئ قد خمنتَ أنني أعيش وحيدة، وأن لا وقت لديَّ لنفسي... لحياتي... لأنوثتي كامرأة تجاوزت الأربعين منذ نيِّفٍ وأربعة.
أسكن الطبقة الأخيرة من بناءٍ تعداده خمسة أدوار، كانت رياضة شاقة أحياناً بعد تعب النهار، أن أضطر لصعود السلالم بسبب انقطاع الكهرباء... معضلة لبنان الكبرى.
ذات مساءٍ بارد، كنتُ أجمع حاجياتي من السيارة وأنظمها، ليسهل عليَّ حملها حتى الدور الخامس، بينما تقف شاحنة أمام مدخل البناء المقابل يُنزل منها العمال أثاثاً منزلياً.
اقترب مني عبود صاحب الدكان وقال: سكان جدد، استأجروا المنزل الفارغ.
كنتُ أعرف أن المنزل الفارغ في هذا البناء، هو الشقة المقابلة لي في الدور الخامس. ولأنني عادة أتصرف بحرية لخلو الشقة المقابلة، فقد عمدتُ إلى إسدال الستائر.
ونسيتُ موضوع السكان الجدد...
كوني طبيبة فقد كنتُ من أوائل الفئات المستهدفة لتلقي اللقاح تحصناً من الكوفيد 19 وكل متحوراته، ولطالما كنتُ أشدد على زوار العيادة أن يتلقوا اللقاح.
فجأة... ولخللٍ لم أفهمه في وقايتي الشخصية، أحسستُ بعوارض مقلقة... فشُخصت حالتي على أنها إصابة "بمتحور دلتا".
بطبيعة الحال حجرتُ نفسي في المنزل، ومن نِعم الله عليَّ أن العوارض كانت متوسطة الشدة على جسدي المنهك، الذي لم أمنحه إجازة منذ سنين.
تركتُ خبراً لزواري وطمأنتهم عني، وأغلقتُ هاتفي!... لم يسبق لي أن أغلقتُ هاتفي، لكن الطبيب أصرَّ، فأنا بحاجة للراحة، ولا شيء أكثر من الراحة.
خلال يومين من الحجر المنزلي، كنتُ قد استطلعتُ زوايا منزلي التي لم أكن انتبه لوجودها قبلاً. مثلاً الشرفة تحتاج لكثيرٍ من الترتيب والتنظيف!
المنزل بغرفه الثلاث، بحاجة لحملة نظافة شاملة، يبدو أن العاملات اللواتي كنَّ يتولينَّ التنظيف دورياً، كنَّ مستهترات ومتهاونات بسبب غياب رقابتي عليهنَّ.
بدأتُ أعمال التنظيف، بدءً من الشرفة.
أول ما لاحظته في الشقة المقابلة لي، جلوس رجلٍ في الشرفة، أمامه لابتوب، كنتُ أراقبه وهو يجلس ساعاتٍ طويلة، طريقة استخدامه لللابتوب ملفتة للنظر!... لم يكن الرجل ينظر إلى الشاشة، ويضع دائماً سماعاتٍ في أذنيه!... ألا يمل هذا الرجل من سماع الموسيقى!... لا بل ألا يصيبه الصداع من الأصوات!؟
اعتدتُ أن أراقبه خلال الأيام التالية، لفتتني وسامته، والأبيض الفضي الذي يجلل رأسه، بشعرٍ مقصوص ولحية مشذبة بإتقان. كان يبدو كعالِم أو... لا أعرف! كنتُ كل يومٍ أجد له وظيفة، وكل وظيفة كنتُ أجدها تليق به.
انتهيتُ من تنظيف المنزل بعد أربعة أيامٍ، فأصبحت مراقبتي لجاري الأنيق شغلي الشاغل. كنتُ أحاول أن أقرأ كتاباً، فيشتتني التفكير به. ومن غرائب الأمور، أنني عندما حاولتُ أن ألفت انتباهه وأنا أجلس مقابله على الشرفة، لم يعرني اهتماماً!
بعد ما يقارب الأسبوعين، شفيتُ من الكوفيد/دلتا... لكنني أصبتُ بالحب!
لا تحكموا عليَّ وتعتبروني مجنونة، هذا الرجل ملك كياني كله، كأنني أحبه منذ سنين، كأنه توأم الروح الغائب منذ ولادتي... وها هو قد عاد.
كان نهاري الأول في العيادة، بعد الشفاء حافلاً بالزيارات. تهتُ في أروقة مشاكل زواري، ونسيتُ وجع تفكيري برجلٍ... لا يهتم بوجودي!
عدتُ مساءً منهكة، وأنا أحلم بحمامٍ ساخن، ونومٍ طويل. وإذ بشابٍ يقترب مني بينما أقفل باب السيارة.
عرَّفني عن نفسه، بأنه ساكن الشقة في الطابق الخامس المقابل لشقتي!
يا إلهي!... لِمَ لم أره من قبل؟... وما علاقته "بفارس أحلامي"؟
يسكن في المنزل وحده مع والده الكفيف! أربكتني المفاجأة... إذن "رجل أحلامي" لا يراني!
أخبرني الشاب أن والده الأرمل أصيب بحادثة في عمله في مصنعٍ للمواد الكيميائية، مما أفقده بصره. وانه بحاجة لاستشارتي في شأن والده، فالرجل لم يتقبل بعد فكرة فقدانه بصره.
وعرفتُ أن فارسي الجميل يقضي نهاره يستمع لكتبٍ صوتية جهزها له ابنه على اللابتوب، فهو قارئ من الطراز الرفيع، والكتبُ غرامه وعشقه.
كيف عرف أنني طبيبة نفسية؟... انه عبود الفضولي.
"كم أنا ممتنة لفضولك يا عبود".
زرتُ الرجلين، كجارةٍ تود أن تتعرف إلى جيرانها...
بدأت أواصر صداقةٍ تربطني ب "شريف" وهو اسم رجل أحلامي.
وثق بي وأخبرني عن مأساته، فأصررتُ على أنها مشكلة عابرة، وأن معاناته زوبعة في فنجان، ووعدته أن نتجاوز الأزمة معاً.
هل سأتزوجه؟... طبعاً سأتزوجه.
وإن لم يبادر لطلب يدي، فسأصارحه بحبي، وأطلبه للزواج.