كوفيد-19... هل هي نهاية اللعبة؟!

04 يناير  .   11 دقيقة قراءة  .    735

صورة أرفقت بالنسخة المنشورة من المقال على مدونة الكاتب، كعرفان بدور الطواقم الصحية كخط دفاع أول في مواجهة وباء كورونا

جان دومينيك ميشال عالم اجتماع و أنثروبولوجيا صحيّة، وخبير صحّةٍ عامة مقيم في سويسرا، انكبّ منذ أكثر من ثلاثين عاماً على دراسة أنظمة الرّعاية الصحيّة وتطبيقها، وله مؤلفات تعدّ من أفضل المراجع في مجال تكوين السلوك الجمعيّ الصحيّ، ويُدرّس في خمسة عشر برنامجاً جامعياً في كليات ومدارس عليا للصحة. لم يقتصر ميدان عمله على الأوساط الأكاديمية، بل تعداه إلى تطبيق السياسات الصحيّة على أرض الواقع. صمّم العديد من الأجهزة الصحية والاجتماعية المبتكرة، لاسيما في مجال الصحة العقلية، ومازال بعضها يُعد مرجعياً حتى يومنا هذا.

منذ نشْر مقاله هذا على مدونته في 18 آذار/مارس، تُرجِم من الفرنسيّة إلى الإسبانيّة والإنكليزيّة، وبموافقة الكاتب، تم السماح لي بنقله إلى العربية، ونُشرت نسخة مختزلة منه في جريدة الأخبار اللبنانية - عدد الخميس 9 نيسان/أبريل 2020، كما نشره الكاتب بنسخته العربية كاملةً على مدونته الخاصة.


إقرأ أيضا :بحثاً عن لقاح كورونا الأمثل


هاقد قُدر لنا (مجدداً) سماع عبارة: "نحن في حالة حرب!"، عبارةٌ قد تكون مستجدةً لأجيالٍ لم تعِ سوى زمن السلم. القارة العجوز تقبع تحت ما يحاكي حظر التجول، ناهيك عن تقييدٍ هائلٍ للحرياتِ الفردية وتصدعٍ اقتصاديٍ اجتماعي يشي بتبعاتٍ دراماتيكية. خطابات رؤساء الدول مشتعلة، وكذلك منافستهم أيهم يأتي بالتعبير الأبلغ: "إننا نتعرض لهجوم !"، "عدونا غير مرئي !" "ماكر، مخادع، متملص، مروع، لكننا سنتصدى له حتى النهاية !"، وغيرها من العبارات التي تبدو وكأنها مقتبسة من زمانٍ غير زماننا، لكن الواقع قد يكون أكثر ملامسةً للحضيض من كل ذلك: إننا نتعرض لتلوثٍ واسع النطاق بفيروس هو محض تلاقحٍ خالصٍ بين إبداع الحياة والبلاهة البشرية. لقد اجتاز هذا المخلوق ببراعةٍ تحدي قفز الحواجز بين الكائنات الحية، وأطلق لنفسه عنان الانتشار بين البشر بمتعةٍ لا تعرفها سوى الكائنات ما دون المجهرية. لا، إنها ليست حرباً! ليس بوسعنا -بما نملكه اليوم من أدوات- هزيمة هذا المخلوق والقضاء عليه بشكل تام. بوسعنا الآن أن نحتمي من أضراره وحسب، ثم يتعين علينا أن نتعلم كيف نتعايش معه، الأمر الذي يتطلب نوعاً من المقاربات غير تلك المقتصرة على الشعارات المستوحاة من جبهات القتال.

الاحتياطات التمهيدية:

في زمن التعبئة الجماعية، يتعين علينا جميعاً الالتزام بالتدابير المفروضة بدقة، حتى ولو لم نصل إلى قناعةٍ تامةٍ بجدواها. من ناحية أخرى، لا ينبغي أن يودي هذا الالتزام المدني إلى شل التفكير أو سلب الحق في التعبير، فالعالم اليوم يعيش أوقاتاً عصيبة، ومع ذلك فإن إيجاد معنىً لما نعيشه وسعينا لفك شيفراته، مع التحلي بالجرأة على طرح الأسئلة في مكانها المناسب، ليس حقاً فحسب، بل هو حاجةٌ حيويةٌ للبقاء.

يمكن تَفَهُم الكم الهائل من التعليقات الساخرة التي تتوارد عن هذا العدو الطارئ ويتم تناقلها على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن يبقى النصف الملآن من الكأس في أنه كلما ازداد اهتمام المواطنات والمواطنين بموضوعٍ أو حدثٍ ما، كلما سعوا لزيادة معرفتهم عنه، ما يُسهل من عملية التحاور، وهو أمر جوهري في الصحة العقلية الفردية كما في المرونة الجمعية.

هل هو محض وباء كتلك التي عرفها العالم عبر التاريخ؟

منذ ظهور فايروس كورونا وكاتب المقال يتبنى وجهة النظر التي تقول إنه محض وباءٍ عادي. قد تبدو وجهة نظره هذه صادمة، خاصةً بعد تزايد عدد الوفَيَات، ناهيك عن أزمةِ الصحة العامة التي بدأت تظهر مفاعيلها، وما يرافقها من هلوساتٍ جماعيةٍ دراماتيكية، ومع ذلك تبقى البياناتُ جلية: إن أمراض الجهاز التنفسي التي نختبرها كل عام تتسبب في أسوأ الاحوال بـ 2,600,000 وفيةٍ على مستوى العالم. أما في حالة فايروس كورونا، فقد وصلنا في الشهر الرابع من تفشي الوباء إلى 12,000 وفية، علماً أن البلد الذي شكل الحاضنة الأولى للوباء، وهو الصين، قد تمكن من احتوائه. إذاً، نحن بعيدون كل البعد عن أي أثرٍ معتدٍ به إحصائياً لناحية تأثير هذا الوباء على تعداد الوفَيَات المعتاد، حتى في حالات الوفَيَات الموسمية الزائدة.

ولو انسحب أسلوب التعاطي السياسي والإعلامي مع فايروس كورونا على أية جائحةٍ من جوائح الإنفلونزا الموسمية، لما كانت درجة الهلع من الإنفلونزا الموسمية بأقل من تلك التي نشهدها اليوم. ولعل التمثيل الإحصائي لتعداد ضحايا أية مشكلةٍ صحيةٍ جمة، كأمراض القلب والأوعية الدموية أو السرطان أو الأمراض الناجمة عن التلوث البيئي، سيكون مبعثاً لرعب يتخطى ذاك الذي يتسبب به فايروس كورونا بمراحل.

لقد بتنا على يقين اليوم أن فايروس كورونا ليس خبيث العواقب ما لم يُصب مرضى يعانون من تعقيدات صحية و مرضية مسبقة. تُظهر بيانات حديثة أن 99% من الوفَيَات بتأثير الإصابة بفايروس كورونا يعانون من 1-3 أمراض مزمنة، كارتفاع ضغط الدم والداء السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية أو السرطانات أو غيرها، كما أن وسطي عمر ضحايا المرض 79-80 سنة، وأن قلة قليلةً من الوفَيَات كانت بعمرٍ أقل من 65 عاماً.

تتسبب أربعة عوامل أساسية بظهور الأمراض المزمنة: الغذاء غير الصحي، التلوث البيئي، الإجهاد النفسي وكذلك نمط الحياة غير المستقر. يمكن تفادي الأمراض المزمنة، والتي تتسبب بما يقارب 80% من الوفَيَات السنوية بالأمراض، بتوفير وسائل الحماية للمواطنين بدلًا من التضحية بصحتهم لمصلحة الصناعات. لقد مَنحنا منذ عقود تسهيلاتٍ مدانة للصناعات شديدة السُمية على حساب المصلحة العامة وصحة المواطنين، وها نحن اليوم ندفع الثمن مرة أخرى وبشكل مبتكر، فَلِمَ لا نمتلك الشجاعة الكافية للقول: ليس الفايروس هو القاتل، بل هي الأمراض المزمنة التي تجعل من عدوى فايروس كورونا قاتلةً لبعض المرضى الذين يعانون منها، بينما يأتي الفايروس حميداً على صحيحي البنية.

إحصائيات واحتمالات لا تُصدق:

تبرز أيضاً مسالةٌ جدليةٌ أُخرى، وهو خلو معدلات المضاعفات والوفَيَات نتيجة كورونا من أية قيمةٍ يُعتد بها في ظل غياب تحرٍ منتظم للمرض لدى جميع السكان، كما أن الأرقام التي بحوزتنا اليوم ليست سوى تلك المتعلقة بالحالات والوفَيَات المبلغ عنها.

من كلاسيكيات علم الأوبئة أننا إذا لم نقم بالتحري عن المرض سوى عند الوفَيَات، في فسنتوصل إلى معدل وفاة يساوي 100%، أما عند التحري عنه لدى المرضى ذوي الحالات الحرجة، فستنخفض هذه النسبة، لكنها ستكون أكبر بكثير من الواقع، فضلاً عن أن نسبة الحالات المكتشفة يبقى متناسباً مع مقياس التحري، فإذا كان التحري واسع النطاق، كان عدد الحالات المكتشفة كبيراً، والعكس صحيح, وفي حالة كورونا، فإن نمط التحري الحالي لا يعطينا مطلقاً صورةً ذات مصداقية عن الانتشار الحقيقي للفايروس وتفشيه.


إقرأ أيضا :أين أضحت فرنسا في سباق تطوير لقاحات كورونا؟


تشير التقديرات الأكثر مصداقيةً إلى أن عدد الاشخاص الذين ثبتت إصابتهم بفايروس كورونا أقل بكثير من العدد الفعلي للمصابين، وقد لا يدرك نصف هؤلاء أنهم مصابون أصلاً. بالنسبة لقاتلٍ ماكر، يعد هذا سلوكاً ساذجاً.

إذاً، ليس لدينا أدنى فكرة في هذه المرحلة عن المدى الحقيقي لانتشار الفايروس، إلا أن الخبر السار يتجلى في كون البيانات الحقيقية فيما يخص معدلات المرضى ذوي المضاعفات وكذلك الوفَيَات أقل بكثيرٍ مما يتم تداوله، وأن المعدل الحقيقي لقدرة الفايروس على الفتك قد لا يتجاوز 0,3%، أي ما هو أقل من 10% من الأرقام المعلنة من قبل منظمة الصحة العالمية.

تُظهر أحدث التقديرات أنه إلى اليوم، لا يتم الكشف سوى عن حالةٍ واحدة من أصل 8 حالات، وهناك احتمال أن يكون الكشف لا يتخطى الحالة من أصل 47 حالة، ويُعزى هذا التفاوت إلى التقنية المتبعة في الكشف والتي تختلف بين بلد وآخر. فحتى 16 آذار/مارس مثلاً، لم يكن قد تم الإبلاغ سوى عن 167,000 حالة على مستوى العالم، بينما تصل التقديرات إلى مليون حالة.

بنتيجة تقييم أولي أجراه كاتب المقال في 18 آذار/مارس، فإن معدل الوفَيَات لم يتجاوز ثلاثة من بين ألف حالةٍ مصابةٍ بالفايروس، ومن المرجح أن تكون النسبة أقل من ذلك بكثير، وهو ما أساء فهمه بعض القراء ومتحرو الأخبار الكاذبة وقتها، متهمينه بنشر معلومات غير دقيقة.

يُعزى اختلاط المفاهيم هذا إلى سببٍ بسيطٍ جداٌ، وربما تافه، وهو أن معدل تقصي المرض مازال منخفضاً حتى في البلدان التي قطعت أشواطاً في هذا المسار. ورغم تعذر معرفة العدد الفعلي للحالات في الظروف الراهنة، يبقى الأكيد أننا بعيدون كل البعد عن الإحصاءات المتوفرة بالاستناد إلى بيانات غير مكتملة. وقد تأكدت هذه الفكرة بشكل لا يقبل اللبس في مقال نشره في 24 آذار/مارس البروفيسور جون يوانيديس من جامعة ستانفورد الضليعة بتحليل البيانات الطبية.

هل هي نهاية العالم؟

بالمثل، فإن الإسقاطات التي تُجرى لتقدير عدد الوفَيَات التي يمكن أن يتكبد بها هذا الوباء هي تقديراتٌ مشوهة، إذ تستند إلى فرضياتٍ مصطنعة تأخذ بالقيم والمعامِلات القصوى، ويجريها إحصائيون بعيدون كل البعد عن العمل الميداني في الأوساط السريرية، ما يفضي إلى نتائج أشبه بإبداعات الخيال العلمي، وتؤدي لسوء الحظ لأضرار جسيمة.

وهنا تعلو الصرخة في مناشدة الأطباء والأكاديميين المختصين لوقف الإتيان بنماذج زائفة ومثيرةً للهلع والتسويق لها. يتمترس هؤلاء المختصون للأسف خلف مصطلحات وتعابير مطاطة ذات وقع جسيم لإضفاء شيء من المصداقية والطابع الرسمي على ما يقولون، ثم تأتي الصحافة فتنقل وتنشر عنهم، فيصل للقارئ والسامع انطباع دنو نهاية العالم، ثم ما يلبث هذا الانطباع أن يستحيل إلى قناعة في غير محلها، لا بل وذات أثر مؤذٍ للغاية.

الوجه الحسن لهذه الأوهام يتجلى في حثها أصحاب القرار على النظر في أسوأ السيناريوهات الممكنة، حتى تلك التي لن نبلغها ولا قِبَلَ لنا بها أصلاً.  ولكن، وفي هذه الأثناء نكون قد بنينا للأسف هلوساتٍ جمعية انطلاقاً من بياناتٍ لا يعتد بها، أما الحقيقة فتقبع في مكان آخر كلياً، وهو أن هذا الوباء أقل إشكاليةً وخطورةً بكثير مما يظهر.

ولكن ماذا عن كل هذا العدد من الضحايا وهذا الاحتقان الشديد في أوساط الرعاية الطبية؟

لسوء الحظ، هذا هو الجانب القاتم من الموضوع، إذ لولا وجود هذا العدد المرتفع من الوفَيَات والحالات الخطرة، لكان هذا الوباء غير ذي أهمية، ولكن اتضح أنه يتسبب بمضاعفات مروعة رغم ندرتها. وهنا لابد من الاستشهاد بما كتبه دكتور فيليب كوتيه، المحارب على الخطوط الأمامية في هذه المعركة: "لا يجب أن نُغفل أن الالتهابات الرئوية فيروسية المنشأ نادرةٌ للغاية في سويسرا لدرجةٍ لن تمكن معها من تكوين صورةٍ مصقولة، ما يجعلها تتطور أحيانا على نحو يصعب معه قراءة إشاراتها التحذيرية. إنه تحدٍ حقيقي على المستوى السريري، خاصةً إذا أخذنا في الحسبان العدد الضخم للحالات التي تُسجل بشكل متزامن اليوم."

إن تسجيل حالات خطيرة -والتي تُقدر حالياً بـ 15%، لكن الواقع قد يكون أقل من ذلك بعشر مرات- هو ما يبرر ببساطة عدم تسليمنا بمبدأ مناعة المجموعة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن العملية التي يلتقط فيها الفرد العدوى بالفيروس دون أن يتسبب ذلك بوفاته يطلق عليها اسم التمنيع أو التحصين، أما تراكم الحالات الفردية الممنعة أو المحصنة هو ما يفضي لأثر جمعي من الحماية المناعية. بغياب الوقاية والعلاج للأشخاص المعرضين لخطر الإصابة، يغدو خيار إطلاق العنان للفايروس بغاية الوصول للمناعة الجماعية أمراً خطيراً للغاية، بل ومرفوضاً أدبياً واخلاقياً.

أما فيما يتعلق بالاحتقان الشديد في أقسام الطوارئ بسبب كثافة الحالات، وما يتسبب به ذلك من ضغوطٍ كبيرة على طواقم الرعاية الطبية المتروكة -في أغلب الحالات- لمواجهة قدرها في ظل تخفيض النفقات الذي تعيشه هذه الطواقم في العقدين الأخرين من الزمن، فإن حالة الفوضى التي تشهدها اليوم مفهومةٌ ومبررة.

يختلف منظور العاملين في قطاع الصحة العامة عن أولئك العاملين في الأوساط السريرية -من مشافٍ وعيادات- من حيث المقياس، إذ إن كل وفيةٍ مبكرة تعد في الأوساط السريرية مأساةً تتقبلها طواقم الرعاية الطبية بصعوبةٍ بالغة، إذ يتم التعامل مع الحالات على أن لكل ٍ منها تفردُه وخصوصيته، أما في قطاع الصحة العامة فيتم جمع المعطيات لتحديد الخطوط الدقيقة لمسألةٍ جدليةٍ، ما يجعل من معدلات الوفاة للفئة العمرية أقل من 60 عاماً لا يتخطى 1.8% إذا أخذنا البيانات على المستوى العالمي، وهو معدل هامشيٌ لا يبعث على القلق -لحسن الحظ- من وجهه النظر هذه.

لكن يتعين علينا في الوقت ذاته أن نكون صريحين ومباشرين، إذ ليس هناك من علاجٍ معجزة، فلكل مريضٍ طريقته المتفردة في الاستجابة للعلاج. من ناحية أخرى، فإن أحد أكثر العوامل إثارةً للقلق هو أن عدداً لا يمكن اغفاله من الفئات العمرية الشابة ستصاب بالتهابات رئوية ستضطرها لأجهزة مساعده للتنفس لبضعة أيام للبقاء على قيد الحياة. فالمشكلة تكمن هنا في عدد الأَسرة والتي لن تكون كافيةً في حال ازدحام وحدات العناية الفائقة.

مفارقة مصيرية:

نحن عالقون بين فكي كماشة تتجلى في الضرر الكبير الذي يتسبب به الفايروس للسواد الأعظم من الناس وخطورته الشديدة في حالاتٍ معينة. ما تم اعتماده على أرض الواقع من تدابير، بعيدٌ كل البعد عن الممارسة المثالية: إذ أن عدم التقصي عن المرض لدى المرضى المحتملين، والإبقاء على السكان في حالة حجر لوقف انتشار الفايروس هي تدابير إشكالية تعود لمرحلة العصور الوسطى، إذ ليس لها القدرة إلا على إبطاء الوباء وحسب، وبالتالي الإبطاء من آثاره الارتدادية المحتملة، كما أننا نقوم بتطبيق الحجر على الجميع في الوقت الذي لا يهدد الوباء سوى قلةً قليلة. كما تأتي توصيات خبراء الصحة العامة على عكس ما يُطبَق، إذ يُوصى بتقصي المرض لدى أكبر عدد ممكن من الحالات والاكتفاء بحجر الحالات التي تأتي نتيجتها إيجابيةً فقط ريثما يزول خطر نقلها للعدوى، فالحجر العام يعد الاستراتيجية الأكثر هشاشةً في مواجهة أي وباء، والاحتمال الأخير -وربما الأضعف- عندما تعجز كل الوسائل الأخرى في السيطرة الفعالة على الوباء.

لماذا وصلنا إلى هنا؟

الجواب ببساطة هو أننا فشلنا في إيجاد الإجابات الصحيحة في الوقت المناسب. ويتجلى مدى غرقنا في هذه الأزمة من خلال افتقارنا إلى العدد اللازم من اختبارات التقصي عن الإصابة بفايروس كورونا، ففي الوقت الذي جعلت فيه بلدان ككوريا وهونغ كونغ وتايوان وسنغافورة والصين من اختبارات تقصي المرض أولويةً قصوى، تجد غالبية البلدان واقفةً موقف المتفرج، عاجزة بسلبيتها عن ترتيب أبسط الأولويات التقنية.

استفادت الدول الآسيوية المذكورة آنفاً من الذكاء الاصطناعي على وجه الخصوص لرسم مسارات الانتقال الممكنة لدى كل حالة تثبت إيجابياتها، فبالاستعانة بالهواتف الذكية على سبيل المثال يمكن إجراء جرد لتنقلات هذه الحالات وكذلك الأشخاص الذين تواصلوا معهم في الـ 48 ساعة التي سبقت ظهور الاعراض.

أخيراً تجدر الإشارة إلى التناقص الكبير في قدرة المشافي خلال العقد الماضي لدرجةٍ وجدنا أنفسنا فيها بحالة نقص في عدد أسرة العناية المركزة ومعدات الإنعاش، وتشير الإحصاءات إلى أن البلدان الأكثر تضرراً هي تلك التي خفضت بشكل كبير من خدماتها في وحدات العناية المركزة في السنوات الأخيرة.

لم يجرِ التفكير بأيٍ من هذا في حينه، إلى أن داهمنا هذا التحدي الصحي الكبير، وكان حرياً بنا التحضر بشكل أكبر لمواجهته، أقله بامتلاك إجابات صحيحة ومقنعة يوم كان لدينا ترف الوقت. أما اليوم فلا نملك أدوات التعامل الفعال مع الوباء، ليس فقط لناحية اختبارات التحري وإنما أيضاً بما يختص المعدات الطبية الأساسية كالمعقمات الكحولية والكمامات الواقية لطاقم الرعاية الطبية، ولا يسعنا هنا إلا أن نستشهد بما قاله البروفيسور فيليب جوفان، رئيس قسم الطوارئ في مشفى بومبيدو في باريس: "القطاع الصحي متأخرٌ في فرنسا اليوم. إن لم يكن هذا هو التوصيف الدقيق، فماذا تطلقون على بلد غير قادر على توفير الكمامات للمواطنين؟ الحقيقة أننا لم نعد أبداً في المقدمة!"

يكفي الاطلاع على البيانات المثبتة في البلدان الآسيوية المذكورة آنفاً للاعتراف أن الخسائر التي مُنينا بها ما هي سوى نتيجةٍ حتميةٍ لقطاع صحي مأزوم. كانت سنغافورة في منتصف شهر شباط /فبراير ثاني أكثر البلدان تضرراً في العالم بعد الصين، مسجلةً عدد حالات أولي يعادل ذاك الذي سُجل لاحقاً في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وسويسرا، لتسجل بعد شهر، أي في 22 آذار/مارس وفيتين اثنتين مقابل 5476 وفية في إيطاليا.

لا يختلف الفايروس بين بلد وآخر، ما يختلف ببساطة هو خصائص الاستجابة الصحية له، وهو ما يصنع كل الفرق بين آلاف الوفَيَات في بعض البلدان، وحالات معدودة في بعضها الآخر. لاشك أن لاستعمال الاستعارات العسكرية والحربية في توصيف ما نتعرض له اليوم بريقاً خاصاً، لكن لابد من الاعتراف بالنقص المأساوي في استعدادنا لمواجهة هذا العدو.

هل هي نهاية اللعبة؟

ديديه راؤول هو خبير رائد على مستوى العالم في مجال الأمراض المعدية، فرنسي الجنسية، يبدو أكثر شبهاً بإحدى شخصيات قصص آستريكس المصورة، أو ببوهيمي يعزف الجيتار على قارعة الطريق، مما يشبه عالماً مرموقاً. يرأس المشفى الجامعي المتوسطي للأمراض المعدية في مدينة مرسيليا، ويعمل تحت إدارته أكثر من 800 باحث وموظف. بحوزة هذه المؤسسة البحثية المجموعة الأكثر رعباً من البكتيريا والفيروسات المميتة التي عرفها العالم، وتُعد أفضل المراكز التخصصية في مجال الأمراض المعدية والأحياء الدقيقة على مستوى العالم. يُصنَف البروفيسور راؤول من بين افضل 10 باحثين فرنسيين بحسب مجلة نايتشر، سواء أكان ذلك بالنظر لعدد منشوراته والتي تتخطى الألفين أو لمرجعية ما ينشره لدى أقرانه من الباحثين. توثقت منذ بداية الألفية الثالثة علاقة البروفيسور راؤول مع أقرانه في الصين في ظل الأوبئة الفيروسية المختلفة التي ضربت العالم، لكن تبقى أفضل إنجازاته اكتشاف علاجاتٍ مرجعيةٍ وفق أهم مراجع الأمراض المعدية في العالم.

نشر راؤول في 26 شباط /فبراير مقطع فيديو على موقع يوتيوب كان له وقع مدوٍ، إذ أكد أن فايروس كورونا قد وصل إلى نهاية اللعبة! كيف يمكن له أن يجزم بهذا؟

لقد استند راؤول على نتائج تجربةٍ سريريةٍ صينيةٍ انتشرت مؤخراً تظهر تأثير الكلوروكين في تثبيط الفايروس خلال أيام معدودة لدى المرضى المصابين به. سبقت هذه الدراسات أخرى أثبتت فعالية هذا المركب الدوائي على الفايروس في المختبر قبل أن يتقرر نقل التجربة إلى الإنسان. بنتيجة هذه الدراسة، تم اعتماد الكلوروكين في التوصيات العلاجية ضد فايروس كورونا في الصين وكوريا، ودعونا لا ننسى أن هذين البلدين كانا الوحيدين اللذين نجحا حتى الآن، ولو بتدخل عوامل مختلفة، في السيطرة على الوباء.

الكلوروكين مركب دوائي طُرح في الأسواق لأول مرة عام 1949، ويستخدم على نطاقٍ واسعٍ كمضادٍ للملاريا، والجدير بالذكر أن جميع المسافرين الذين يقصدون البلدان الاستوائية توصف لهم أقراص نيفاكين -وهو احد الاسماء التجارية للكلوروكين- للوقاية من الملاريا، ثم جرى استبدال هذا العلاج بغيره في بعض المناطق بينما ظل قيد الاستخدام في بعضها الاخر. أما هيدروكسي كلوروكين -المعروف بالاسم التجاري بلاكينيل- فقد تم تطويره عام 1955 بإجراء تعديلٍ بسيطٍ على بنيته الكيميائية.

ماذا بعد؟

لِمَ إثارة النِقاش عن هذا الدواء بالتحديد الآن؟

الموضوع يكمن في كون البروفيسور راؤول وفريقه أعرَف المختصين في يومنا هذا وعلى مستوى العالم بما يتعلق باستخدام الكلوروكين، كيف لا وهو صاحب فكرة استخدامه ضد الجراثيم داخل الخلوية، والتي تحاكي بخاصيتها هذه الفيروسات. لذا يمكن القول إن لمشفى مرسيليا خبرة سريرية وعلاجية لا تعدلها أُخرى فيما يخص استخدام هذا المركب الدوائي.

أظهرَ الكلوروكين فعاليةً علاجيةً قويةً ضد معظم الفيروسات التاجية، بما في ذلك السارز، لذا وجد راؤول في الدراسة السريرية الصينية تثبيتاً لجدوى استخدام الكلوروكين لعلاج الإصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19).

ومع ذلك فقد تلقف بعض المختصين هذا الطرح كما يتلقف الشعرةَ في الحساء، فسارع زملاؤه للطعن بأفكاره، كما لم يسلم من الإعلام، إذ وضعت صحيفة لوموند طرحه في خانة الأخبار الزائفة، وتبنت هذا الاتهام وزارة الصحة الفرنسية بنشرها خبر لوموند على موقعها الإلكتروني لعدة ساعاتٍ قبل أن تتراجع وتقوم بحذفه.

رغم هذه الضجة الإعلامية، حصل البروفيسور راؤول على تصريح لإجراء دراسةٍ سريريةٍ على 24 مريضاً في قسمه، كما تمت دعوته ليكون أحد أعضاء اللجنة متعددة الاختصاصات والمكونة من 11 خبيراً شكلتها الحكومة الفرنسية في آذار/مارس للإفادة من خبراتهم في عملية صنع القرار المتعلق بإدارة الوضع الصحي المستجد في ظل انتشار فايروس كورونا.

بترقبٍ وحذرٍ شديدين تم التعامل مع نتائج هذه الدراسة، وهذا أمرٌ بديهيٌ بل ومطلوب عندما يتعلق الأمر بمواد دوائية يعتقد أنها واعدة، فيغدو أمراً جوهرياً عدم استعجال الأمور قبل أن يتم تأكيد الفرضية أو نفيها، فالعلم ليس سحراً أو عرافة، بل ملاحظةٌ واختبار ومن ثم تحقق.

جاءت النتائج المنتظرة في 16 آذار/مارس لتكشف نتائج علاجيةٍ مذهلة. كان البحث ذو منهجيةٍ متينةٍ، أو هذا ما وصفه البروفيسور بليبترو من مستشفى في سالبتريار في باريس، إذ تمكن مركز البروفيسور راؤول من مقارنة القدرة على إبطال نقل الفايروس لدى المرضى الذين تلقوا الكلوروكين بالمقارنة مع مرضى لم يتلقوا هذا العلاج في مدن فرنسية أخرى كنيس وآفينيون. أظهرت النتائج أن المرضى الذين لم يتلقوا هيدروكسي كلوروكين ظلوا حاملين للفايروس بنسبة 90% لمدةٍ وصلت إلى ستة أيام، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 25% لدى إعطاء الكلوروكين.

إضافة لذلك، فقد أتت توصيات الدراسة بأن يضم العلاج، إضافة إلى الكلوروكين، مضاداً حيوياً يوصف في حالة التهابات الجهاز التنفسي فيروسية المنشأ، إذ إن خطورتها تكمن في احتمال تطورها إلى اعتلالات رئوية، وأظهر الجمع بين هذين الدواءين انخفاضاً مذهلاً في النسب المئوية للحالات الإيجابية. بناءً على ذلك يوصى بإعطاء المضاد الحيوي الأزيثرومايسين لجميع المرضى الذين تظهر لديهم علاماتٌ سريريةٌ يخشى أن تتطور إلى اعتلالاتٍ رئوية بنتيجة مضاعفات بكتيرية. وبالرغم من أن الأزيثرومايسين ليس مضاداً فيروسياً بحد ذاته، إلا أنه بات مثبتاً أنه يقلل من خطر الإصابة بالعدوى الفيروسية ناهيك عن فعاليته على عدد كبير من الفيروسات.

ماذا عن حَمل الفيروس ونقله؟

في غضون ذلك، كشفت دراسةٌ نشرتها مجلة لانسيت المُحَكمة في 11 آذار/مارس بياناتٍ جديدةً هامة: تتراوح المدة بين بداية العدوى ونهايتها عشرين يوماً وسطياً، تنخفض هذا الفترة إلى 4-6 أيام عند اعطاء هيدروكسي كلوروكين مصحوباً بالأزيثرومايسين.

هذا الانخفاض الشديد لا يعطي أملاً بعلاج الحالات الحرجة فحسب، بل يُقصر المدة الزمنية التي يكون فيها المصاب معدياً، ما يفتح آفاقاً واسعةً للحد من انتشار الفايروس. قد يخال المرء أن هذا أفضل خبر سمعناه منذ مدة وأن العلماء كما السلطات الرسمية سيرحبون به أشد ترحيب.

لكن مهلاً.. لم يكن هذا تماماً ما حصل، إذ أن ردود الأفعال التي علت مؤخراً كانت تنحو باتجاه شيطنة هذه الاكتشافات الأخيرة.

ما لا يمكن إنكاره أن أياً من الدراسات السريرية، سواءٌ تلك التي أُجريت في الصين أو في مرسيليا، لا يحقق معايير البحث العلمي. إن إعادة التجارب من قبل فرق بحثية أخرى أمرٌ مطلوبٌ وضروري، ناهيك عن الحاجة الملحة لإجراء دراسة عشوائية غَفِلة لا يعرف خلالها الفريق الطبي ولا المريض أي علاج يتلقى، وهو ما يعد من أمتن منهجيات التثبت في البحوث العلمية.

لكننا اليوم في حالة طوارئ. الكلوروكين أحد أكثر الأدوية التي أُجريَت عليها دراساتٌ سابقاً، كما يُجيد الطاقم الطبي استخدامها خاصةً في مركز الدكتور راؤول، ما يمَكننا من الاستناد إلى خبرتهم المتينة في هذا الشأن، إذ يغدو التلطي وراء حجة عدم اتباع منهجية البحث العلمي أصولاً عندما يتعلق الأمر بدواءٍ يحفظُه المختصون عن ظهر قلب، حُجةً واهية أخلاقياً، فما بالك إن كان هذا الدواء قد أظهر فعاليةً لا يمكن غض الطرف عنها على بقية أفراد عائلة الفيروسات التاجية، فضلاً عن دراستين جديدتين أكدتا فعاليته على هذا النسخة المستجدة من الفايروس، في وقتٍ باتت فيه أرواح البشر على المحك !

وكصفعةٍ في وجه من كانوا يرَون في أزمة كورونا فرصةً لاستكمال أمجادهم العلمية، وحصولهم على جائزة نوبل لتطويرهم علاجاً أو لقاحاً جديدَين، أثبت البروفيسور راؤول إمكانية استخدام عقارٍ متوفرٍ في متناول أيدي الجميع منذ زمن طويل لعلاج مرضٍ مستجد، ناهيك عن أنه وفر عشرات المليارات من الدولارات التي كانت ستصرف على تطوير علاجاتٍ جديدة في وقتٍ تكاد لا تتجاوز فيه كلفة الكلوروكين شيئاً يُذكر.

تحيةُ تقديرٍ لطواقم الرعاية الصحية:

منذ تفاقم الأزمة، دأب المواطنون يومياً على تقديم تحيةٍ رمزية لطواقم الرعاية الصحية وإظهار الدعم والتقدير لجهودهم في هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشونها. هو تعبيرٌ جميلٌ عن التضامن يستحقونه بالفعل لمهنيتهم البارزة وكل ما أظهروه من إيثار والتزام بجوهر دورهم في مقدمة جبهة التصدي لهذه المعاناة الشديدة وهذا الخطر المستجد تحت ظروفٍ في غاية الصعوبة.

لكن مع الأسف، يخبو بريق الأجرام السماوية متى اقتربنا منها أكثر.. إذ إن البحوث الطبية كما السلطات المسؤولة عنها ليست بمنأى عن التلاعب والاحتيال، أو خيانة الأمانة وإساءة الاستخدام، ناهيك عن معارك طاحنة واشتباكات عنيفة تحكمها الأنا.

فهاهو الدكتور آلان دوركادونيه يطعن على إحدى القنوات الفرنسية نتائج دراسات الدكتور راؤول، لافتاً إلى أن الاستنتاجات العلمية تُنشَر عادةً في مجلاتٍ مُحَكمة وليس عبر فيديوهات يوتيوب، فلم يشفع للبروفيسور راؤول أنه صاحب العدد الأعلى من المنشورات العلمية في مجاله، أو تأكيده أن ما صرح عنه من اكتشاف في الفيديو قد تم إرساله على شكل مقال إلى مجلة مُحَكمة من قبل مجلس من الاختصاصيين، ما يؤكد السوية العالية للمادة التي قدمها.

في الأول من آذار/مارس، وبعد وقتٍ طويلٍ من نشر نتائج أول تجربةٍ سريريةٍ صينية، صرح المدير العام لمجموعة مشافي باريس الحكومية، مارتن هيرش، أن تأثير الكلوروكين جيد جداً في أنابيب الاختبار، لكن هذا لا ينسحب بالضرورة على الخلايا الحية، وهو تصريحٌ عارٍ تماماً عن الصحة.

يلاحظ في رسائل الصحافة الفرنسية التركيز بشكل خاص على خطر الجرعات الزائدة من الكلوروكين، والذي يغدو ساماً إذا تجاوزت جرعته 2 غرام يومياً في حال عدم وجود اعتلالٍ جسديٍ مرافق. لقد نحى الصينيون خلال تجاربهم باتجاه إعطاء جرعتين يومياً تبلغ كلٌ منهما 500 مليغرام، أما الدكتور راؤول وفريقه فقد رأوا في هذا الجرعة إفراطاً يمكن تجنبه، مكتفين في تجاربهم بجرعةٍ يوميةٍ تعادل 600 مليغرام، ما يجعل الحُجة التي تستخدمها الصحافة المحلية في ما يخص خطورة الجرعة الزائدة حجةً فارغة المضمون، ودعونا لا ننسى أن ما من فريقٍ بحثي على مستوى العالم أَعرف بمفاتيح هذا المُركب الكيميائي وخصائصه أكثر من فريق البروفيسور راؤول، والحُجة هذه كمن يقول لفريقٍ من أطباء الأعصاب إن الباراسيتامول دواءٌ سام إن استُخدِم بشكلٍ خاطئ، فحريٌ بكم أن تنصرفوا عن وصفه في حالات الصداع !

حتى أن أحد الصحفيين الفرنسيين ذهب أبعد من الحديث عن خطورة الجرعات الزائدة من الكلوروكين إلى الحديث عن سميته، في وقتٍ رُفِعَ فيهِ أيُ إبهامٍ عن مخاطر هذا العلاج، ما دفع البروفيسور راؤول إلى الرد عليه في 21 آذار/مارس قائلاً: إن ما نسمعه بخصوص سُمية الكلوروكين-الأزيثرومايسين ما هو إلا حالةٌ من الانهيار العصبي لدى الفرنسيين !" مستشهداً بدراسةٍ تعود لعام 2011، تم فيها وصف هيدروكسي كلوروكين لـ 755 امرأة حاملاً.

ثم ما الغاية من إثارة موضوع المخاطر المرتبطة بالاستخدام المطول للكلوروكين -أي ما يتجاوز عاماً كاملاً من الاستخدام اليومي- في وقتٍ لا يتطلب فيه العلاج المقترح أكثر من سبعة أيامٍ وسطياً، ناهيك عن أن مركز البروفيسور راؤول في مرسيليا لا تنقصه الخبرة في ما يخص الوصفات الطبية طويلة المدى والتي قد تصل استثنائياً إلى عامين في إطار العلاج من بعض أنواع البكتيريا داخل الخلوية. بغض النظر عن جدوى الوقوف جنباً إلى جنب في الاوقات العصيبة، إلا أن الادعاءات الباطلة القائمة على حججٍ واهية لا تزيد الأمور إلا تعقيداً.

يُصر آخرون على أن التجارب السريرية وحدها لا تُمكِننا من التوصل إلى استنتاجات قطعيةٍ ونهائية، وهو أمرٌ لا يمكن إنكاره بالمطلق، لكنه لا ينطبق تماماً على حالتنا هذه كوننا نمتلك معرفةً وثيقة بهذا المُركب الدوائي. ولا أبلغَ مما قاله راؤول في حسم هذا الموقف: "هناك حالةٌ صحيةُ طارئة، ونحن نمتلك مفاتيح علاج هذا المرض: إنه دواءٌ نعرفه عن ظهر قلب، فدعونا لا نَغفل عن ترتيب أولوياتنا !" ولمواجهة هذا الوباء، يوصي راؤول بالابتعاد عن الذعر، والتقصي عن الإصابات دون انتظار ازدياد حالتهم سوءاً، فحينها فقط يكون العلاج مُجدياً.

لكنّ المشكلة لا تتوقف هنا..

يذكر البروفيسور راؤول كيف جاءه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بعد إعلانه الأول عن العلاج في 26 شباط/فبراير، وما تلى ذلك من ضجةٍ في دائرة مستشاري الرئيس. يسأل صحفي في جريدة ماريان راؤول إن كان صوته مسموعاً لدى الرئيس، فيجيبه راؤول: "إني أقول ما أفكر به، ولكني للأسف لا أرى تطبيقاً لأي منه من قبلهم.. يسميهم ماكرون بالمستشارين العلميين، لكنهم لا يختلفون عن المستشارين السياسيين في شيء، أجدني بينهم كمخلوق فضائي !"

يبدو راؤول متيقناً مما يقول، فلا يتكبد عناء إخفاء عدم ارتياحه للسلطة والتدابير التي اتخذَتها حتى الآن ضده الوباء. فعلى عكس الصين وكوريا، تخلت بعض البلدان عن فكرة التقصي الممنهج عن المرضى لصالح الحجر الجماعي، الأمرُ الذي لم يرَ فيه البروفيسور راؤول يوماً استراتيجيةً فعالةً للتصدي للأوبئة، بل ردّة فعلٍ اقتبسناها عن أسلافنا أيام انتشر وباء الكوليرا. إن حجر أشخاصٍ لا يحملون الفايروس في منازلهم أمرٌ سخيفٌ من وجهة نظر علم الأمراض المُعدية، وجُلُ ما يمكن جَنيُه من إجراءٍ كهذا هو تدمير الاقتصاد والحياة الاجتماعية. الأمر هنا أشبه بقصفِ مدينةٍ ما بغاية إبعادِ البعوض الحامل للملاريا عنها.

يسري اليوم قرار حجر المواطنين في منازلهم في فرنسا كما في سويسرا وسواها من الدول التي اعتمدت هذه الاستراتيجية، سواء أكان هؤلاء المواطنون مرضى أم لا، فإذا ثبت مرض هؤلاء فعلاً، انتظرنا حتى يصحّوا، ثم رفعنا عنهم الحجر الصحيّ في الوقت الذي لا يزالون فيه ناقلين للعدوى.

تتطور أحياناً مضاعفاتٌ عند المرضى ممن لديهم عوامل خطورة، فيصابون بضيق التنفس الحاد الذي يُفضي بهم في الطوارئ، وتتراكم حالاتٌ كهذه في قسم العناية المركزة في المستشفيات، ويَلقى بعضهم -مع الأسف- حتفه هناك، في حين يؤكد البروفيسور راؤول أنه كان بالإمكان علاج هذه الحالات قبل أن تتطور إلى هذه المراحل المتقدمة، ودون الحاجة لتطبيق الحجر على جميع المواطنين كما كان يتم التعامل مع الأوبئة في القرون الماضية.

الاستراتيجية الوحيدة المنطقية هنا تتجلى في التقصي واسع النطاق عن الحالات المرضية، ومن ثم حجر الحالات الإيجابية وعلاجها، سواء امتلكت هذه الحالات عوامل خطورة أم لا، وقد أثبتت الصين وكوريا إمكانية تطبيق ذلك، مُدرِجةً استراتيجية التقصي واسع النطاق إضافةً إلى العلاج بالكلوروكين ضمن توصياتهم العلاجية. فلا هونغ كونغ ولا تايوان أو كوريا أو سنغافورة -ذات معدلات الوفَيَات الأدنى جراء فايروس كوفيد-19- قد فرضت الحجر على مواطنيها الأصحاء، بل ارتأت تنظيم أسلوب عملها بطريقةٍ مغايرة.

 تراجُع الغرب

 الحقيقة فجة، لكنها تبقى حقيقة.. في أوروبا دواءٌ ذو فعالية جيدة، إلا أن سياسة الصحة العامة في أغلب بلدانها تعود لمرحلة العصور الوسطى ! يجب أن نعترف أن الريادة في المجالات التكنولوجية والعلمية قد انتقلت إلى الشرق الأقصى منذ مدةٍ طويلة، لذا نرانا نميل للرجوع إلى الممارسات التي أنارت لنا دروب الماضي الحالكة وتطبيقها كما هي بدلاً من تطويرها بما ينسجم  مع يومنا الحالي.

ليس من الصعب إجراء تقصٍ منهجي عن الإصابات إذا وُضعت كأولويةٍ صحيةٍ وتم تنظيم العملية بشكل جيد، وهو ما تمكن الكوريون من فعله في وقت قياسي، كما ما من صعوبة في تصنيع لوازم اختبار التقصي، فهو تفاعلٌ بسيطٌ ومتوفر للجميع يُعرف باسم PCR. العقدة إذاً لا تكمن في التقنية المستخدمة وقدرتها التشخيصية بقدر ما أنها في خطة تنظيم هذه العملية، وسنلمس وقتها حتماً امتثالاً اجتماعياً أكبر لأن الأمر متعلق بحياة شعوب بحالها.

هل حان وقت التغيير؟

لحسن الحظ، بإمكاننا أن نُعوِل على تغييرٍ سريعٍ في الرياح يصُب في صالحنا، فها هي وزارة الصحة الفرنسية تُكلف مشفى مدينة ليل الجامعي بإجراء تجارب سريرية للتثبت من نتائج البروفيسور راؤول، ومع أن التجارب التي أجرتها الصين وكوريا قد أتت لثبتت نتائج التجارب الفرنسية، إلا أن الفرنسيين بطبيعتهم أَميَلُ للتشكيك بصحة أي شيء يأتيهم من مصدر خارجي، والاعتقاد بأنه لا يرقى لمستوى عبقريتهم وإبداعهم. لن ننكر طبعاً أن بعض كبار الأطباء قد امتلك شجاعة الاعتراف بتسرعه بإطلاق الأحكام، كالبروفيسور ألكساندر بليبترو من مستشفى سالبتريار، إذ غرد على حسابه الرسمي على تويتر مازحاً: "أعزائي، سأكون شفافاً معكم.. أعترفُ أنني صرحتُ منذ أسبوعين أن المعطيات المتوفرة عن الكلوروكين هي محض هراء، ولم أكن مخطئاً وقتها، إلا أن المعطيات الجديدة التي ترِدُ من مرسيليا تُظهر عكس ذلك. سنبدأ في مستشفى سالبتريار باعتماد البلاكينيل في علاج حالات كوفيد-19. أجدُ متعةً في الانتقاد، وسأطبق ذلك على نفسي قبل غيري: أعتقد أنني أخطأت بهذا الخصوص، ويمكنكم من اليوم اعتباري أحد أكبر داعمي الكلوروكين ولا بل وأحد أتباع مدرسة البروفيسور راؤول."


إقرأ أيضا :عامٌ في عُمرِ الوباء... هل في المنظور ما قد يُعدّل كفّةَ الإخفاقات؟


بات الكلوروكين محط الأنظار على المستوى العالمي، بل وغدا الشغلَ الشاغل للفِرَق البحثية في أصقاع الأرض، فإذا أتت الرياح لصالح تأكيد الفعالية المحتملة لهذا المُرَكب الدوائي، فسنشهد تغييراً جذرياً في مسار اللعبة. متى تم العلاج الفوري للمرضى المعرضين لخطر المضاعفات، فإن العدوى الحميدة بفايروس كورونا، والتي سيعاني منها حتماً عددٌ لا يُحصى من الحالات، إلا أن ذلك سيكون كفيلاً بتكوين مناعةٍ جمعية كفيلةٍ باحتواء هذا الوباء العالمي. بات التقصي عن المرض على مستوى واسع أولويةً صحيةً اليوم، وليست سوى مسألة وقت وحسب حتى يتم تنظيم القدرة على القيام بالتحاليل اللازمة للجميع، فهاقد أعلنت مختبرات سانوفي الدوائية الفرنسية عن قُدرتها على إنتاج مليون جرعةٍ من الكلوروكين مجاناً.

وأخيراً، وفي 22 آذار/مارس، أصدر البروفيسور راؤول وستةٌ من زملائه البيان المشترك التالي:

"في ظل الظروف الحالية لانتشار وباء فايروس كورونا على الأراضي الفرنسية كما في بقية أنحاء العالم، وتماشياً مع قَسَم أبقراط الذي أخذناه عهداً على أنفسنا: أن نقوم بواجباتنا كأطباء على أتم وجه، أن نحترم قواعد مهنتنا ونقدم لمرضانا الرعاية الصحية التشخيصية والعلاجية المثلى بناءً على أحدث بيانات العلوم الطبية، قررنا ما يلي:

سنقوم بإجراء اختبارات تقصي فايروس كورونا تلقائياً لجميع المرضى الذين يأتون لطلب استشارتنا.

سنقترح فوراً على المرضى المصابين بالعدوى والذين تُظهر الصور الشعاعية وجود آفات رئوية لديهم، حتى ولو لم تظهر لديهم أعراضٌ شديدة، الخضوع للبروتوكول العلاجي التالي، رغم عدم حيازته على إذن تسويقي لهذه الغاية العلاجية بعد:

مزيجٌ من هيدروكسي الكلوروكين 200 مليغرام ثلاث مرات يومياً لمدة عشرة أيام مع الأزيثرومايسين 500 مليغرام في اليوم الأول، يليه 250 مليغرام منه يومياً لمدة خمسة أيام. ومن أجل مراقبةٍ دقيقةٍ لوضعهم، ودرءاً للآثار الجانبية، يُجرى تخطيط قلبٍ كهربائي في اليومين الأول والثالث من العلاج. يضاف إلى البروتوكول السابق مضادٌ حيويٌ واسع الطيف في حالات الالتهابات الرئوية الحادة.

حسب اعتقادنا، فإنه من غير الأخلاقي ألا يتم اعتماد هذا البرنامج العلاجي بشكل منهجي في تجارب علاج عدوى كوفيد-19 في فرنسا."

وذُيل هذا البيان بإمضاء البروفيسور راؤول وزملائه الستة.

ماذا لو لم يكن هذا العلاج على قدر كل هذه الآمال المعلقة عليه؟

تبقى هذه الفرضية واردةً بالطبع، حتى ولو كانت غير مرجحةٍ في هذه المرحلة. ومع ذلك، فإن هناك أدويةً أُخرى قيد الاختبار حالياً ضمن بحث دولي واسع النطاق يتم فيه اختبار مشاركة مضادات الفيروسات مع انترفيرون بيتا أو بدونه. يشمل البحث بالطبع هيدروكسي كلوروكين وفق البروتوكول الذي أوصى به البروفيسور راؤول والذي بات معتمداً في العديد من مراكز علاج الأمراض المُعدية ذات الكفاءة، كجامعتي أوكسفورد ومينيسوتا.

ما يلفت النظر فيما يخص الكلوروكين هو الطابع العقائدي الذي يأخذه الجدل حوله، إلا أن هذا يُعَد من كلاسيكيات الجدل في المجال العلمي. يُوصَف البروفيسور راؤول بأنه "شيخ كار" في مجاله نظراً لإنجازاته العلمية المهمة، إلا أن "الإيمان" بهذا الدواء بوصفه "العلاج المعجزة" من شأنه أن يتسبب بتضليل الكثيرين ممن يتعلقون بآمال مستحيلة. لكن لحسن الحظ، لم نفقد بوصلة النهج العلمي بعد، وهو ما يكفل انتقالنا من حالة فوضى الآراء الفردية إلى تكوين المعرفة عن طريق الملاحظة والتجربة والتحقق بشكلٍ مستقل وموضوعي.

إذا ثبت خطأ النتائج التي تم التوصل إليها في الصين و مرسيليا، فسنغرق في دوامةٍ من الهلوسات الجماعية التي سيكون لها عواقب وخيمةٌ للغاية على مجتمعنا واقتصادنا وطريقة حياتنا. أما إن تم التثبت من صحة هذه النتائج، فسنكون قد قطعنا شوطاً لا يُستهان به على طريق الخروج من هذا الحالة المتوذمة، وعندها فقط نستطيع أن ننعم بإعلان نهاية اللعبة، لعبة كوفيد-19، ويحق لنا وقتها فقط أن نفخر بما تعلمناه في طريقنا للوصول إلى هذه اللحظة !

كلمة أخيرة..

  4
  2
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال