06 فبراير . 14 دقيقة قراءة . 1798
أخذ مارتن هايدغر فلسفة هيغل وأضفى عليها مسحة عاطفية
وفينومينولوجية. اشتهر هايدغر بغموض لغته، وموقفه أو لاــــ موقفه من الاشتراكية
الوطنية في الثلاثينيات. ولكنه، أيضا، قائد الفلاسفة إلى ما بعد الحداثة بلا
منازع. يعترف فوكو ودريدا بأنهما من اتباع هايدغر، كما يشير إليه رورتي بوصفه أحد
أهم ملهميه مع ديوي وفتجنشتاين.
استوعب هايدغر وحوّر الفلسفة الالمانية التقليدية. يعتقد هايدغر، مثل كانط، أن العقل ظاهرة سطحية، ويتبنى أيضا وجهة نظر كانط أن الكلمات والمفاهيم عائق في وجه معرفتنا للواقع، أو الوجود. ولكنه مثل هيغل، يعتقد أن بإمكاننا أن نقترب من الوجود أكثر مما يسمح لنا كانط، إلا أنه لا يتبني حجة العقل المطلق المجرد الهيغلي.
نحى هايدغر العقل والعقل المطلق قليلا، واتفق مع كيركيغارد وشوبنهاور أن كشف العواطف ـ سيما تلك المظلمة والبائسة ومشاعر التفجع والهلع والشعور بالذنب ــ يُمكن المرء من الاقتراب من الوجود. واتفق هايدغر أيضا مع الفلسفة الألمانية التي ترى أننا إن لامسنا قعر الوجود فسنجد التناقضات والاختلافات والصراعات في قلب الأشياء.
ما الجديد عند هايدغر إذا؟ الجديد هو توظيف هايدغر للفينومينولوجيا ليأخذنا إلى هناك. تصبح الفينومينولوجيا مهمة فلسفيا وذات مغزى حين نتقبل استنتاج كانط أنه لا يمكننا أن نبدأ مثلما يفعل الواقعيون والعلماء بافتراض أننا نعني واقعا خارجيا مستقلا يتكون من كائنات نحاول فهمها. ولكن، من وجهة نظر الفينومينولوجيا، لا بد أن ندرك أن كانط قد أخذ نصف خطوة خجولة. ففي حين أنه كان مستعدا لنبذ الكائن في ذاته (النومينون)، تمسك بوجود نفس نومينونية لها طبيعة خاصة متاحة لفحصنا واكتشافنا. ولكن فكرة النفس النومينونية التي تؤسس لتدفق الظواهر (الفينومينن) اشكالية تماما كفكرة الكائنات النومينونية التي تؤسس للتدفق. أراد هايدغر أن يبدأ دون افتراض وجود كائن أو ذات.
في طرح هايدغر، ما يجده المرء عندما يبدأ بهذه الطريقة هو الشعور بأنه مقذوف أو مرمي في مجال الخبرة والتغيير. لا تفكر في الكائنات، يقول هايدغر، بل فكر في المجالات ولا تفكر في ذات وإنما في خبرة. نحن نبدأ صغارا ومحليين, مع الدازاين مرمي ومقذوف قرب العالم.
الدازاين، الوجود هناك في العالم، هو مصطلح هايدغر البديل عن النفس أو الذات أو الإنسان، لأنها جميعا مثقلة بمعان من الفلسفات السابقة. يعرف هايدغر الدازاين بوصفه "الموجود المقذوف إلى العدم". لنتجاهل الآن العدم، اللاشيء، ونقول أن الدازاين هو الموجود المقذوف، والتركيز هنا هو على الفعل، لذلك لا بد أن نتجب افتراض أن هناك شيئين، ذات وكائن ، يدخلان في علاقة. هناك فقط فعل، فعل كونك خارجا هناك، كونك مدفوعا إلى السقوط، مقذوفا بك إلى العالم.
يكشف ويستر الموجود المقذوف بشكل تتابعي، وعبر الزمن، مجالات أو موجودات شبه ثابته متنوعة، تلك التي نطلق عليها الكائنات، هذا إذا لم نكن قد هجرنا حتى الآن واقعيتنا الساذجة.
إقرأ أيضا: ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية.
إلا أن العملية الطويلة في وصف ظواهر الموجودات، قادت هايدغر الى سؤال لا مفر منه: ما هو وجود هذه الموجودات المتنوعة؟ تختلف الموجودات وتتغيير، تأتي وتذهب، إلا أنها مع كل قابليتها للإختلاف والتغيير، لا تزال تبرهن عن واحدية، عن مشترك ما: كلها كائنة وموجودة. ما هو ذلك الوجود المتضمن في، أو خلف، أو المشترك بين كل تلك الموجودات؟ يقودنا ذلك إلى سؤال الأسئلة الهايدغرية وهو: لماذا هناك وجود الموجودات بدلاً من العدم ؟
هذا ليس سؤالا عاديا. يرى هايدغر أن هذا السؤال هو ما يضع العقل في مشكلة ــ وهي المشكلة التي واجهتها التناقضات الأربعة التي طرحها كانط. والنتيجة أن العقل يصل دائما إلى تناقضات كلما حاول معالجة القضايا الميتافيزيقية الأوغل. سؤال مثل : لماذا هناك وجود وليس عدم ؟ سؤال يكرهه العقل. ولذلك يقول هايدغر، إذا أردنا أن نجيب على هذا السؤال، فإن العقل ـــ الخصم العنيد للفكر ــ سيكون دون شك العقبة التي لا بد من إزاحتها.
السؤال اذا بغيض بالنسبة للعقل، كما كتب هايدغر في (مدخل إلى الميتافيزيقا)، لأننا نصل إلى استحالة من الناحية المنطقية أيا كانت الطريق الذي سنسلكه للإجابة على سؤال لماذا هناك وجودـــ فاذا كان الوجود لغير سبب ـ فإن هذا الوجود مستحيل: الشيء الذي لا يمكن أن نشرحه يمثل استحالة على العقل. وإذا قلنا من ناحية اخرى، أن العقل أيا كان، هو خارج الوجود. ولكن خارج الوجود هو اللاشيء، العدم. وهكذا فسيصبح علينا أن نشرح الوجود من اللاوجود من اللاشيء أو من العدم، وهذه أيضا استحالة. وهكذا فإن أي إجابة على السؤال تمثل بحد ذاتها استحالة لا يقبلها العقل الذي نعرفه. يريد المنطق عند هذه النقطه أن يُحرم هذا السؤال. يريد المنطق أن يقول إن استحالة الإجابة تُظهر أن السؤال خطأ وبالتالي علينا أن ننحيه جانبا: يريد المنطق أن يجعل وجود الواقع بديهيا وأن ينطلق من هذه البداهة ليستكشف هويات الموجودات المختلفة.
وبالعودة الى المنظور الهايدغري، فإن الأسئلة التي تتوالد من السؤال العظيم تضرب مشاعر الموجود الإنساني الأوغل. ماذا عن العدم الذي جاء منه الوجود؟ هل من الممكن ألا يكون هناك وجود أصلا، هل يمكن أن يعود الوجود إلى العدم مرة أخرى؟ تملأ هذه الأسئلة الموجود الإنساني، الدازاين، بالقلق. فالدازاين هنا في صراع: العقل والمنطق يقول بأن السؤال تناقضي ولا بد من تنحيته، ولكن مشاعر الدازاين تحثه على تقصي السؤال بطريقة عاطفية. والسؤال هنا: ماذا سيختار الموجود الإنساني: التناقض والمشاعر، أم المنطق والعقل؟
لحسن الحظ، أننا تعلمنا من هيغل وشوبنهور وكيركيغارد ونيتشه أن هذا التناقض ليس إلا علامة على عقم العقل والمنطق. يجب أن نتوقع وجود تناقضات في قلب كل الاشياء، التناقض دليل على جلال القضية وأهميتها لذلك فان المنطق الخالص ـــ اختراع معلمي المدارس وليس الفلاسفةــ كما يقول هايدغر، لا يجب أن يعطل تحقيقنا في ذلك الغموض الكبير المسمى الوجود. لا بد أن نرفض كليا فرضية أن المنطق هو محكمة الاستئناف العليا، وأن العقل هو وسيلة ادراك الحقيقة والواقع، وأن نفكر في طريقة لفهم أصيل للعدم وتجلياته. فالإحساس العميق بالعدم يزعج المنطق والعقل كل لحظة.
وبعد أن فككنا العقل والمنطق ووضعنا ركامهما جانبا بوصفهما طريقة سطحية خالصة للتفكيرـــــ طريقة أسسها الإغريق، وأسست بدورها، بشكل كارثي، لكل الفكر الغربي بعدهم، نحتاج الآن إلى درب آخر للوجود والعدم. يمكننا أن نفكر باللغة مثلا، دون افتراضات العقل والمنطق المسبقة، ولكن عناصر اللغة؛ الكلمات، تطورت عبر الزمن وأصبحت ملتوية جدا تعلوها طبقات من المعاني تكاد تخفي الوجود عنا. فقدت الكلمات قوتها الأصلية وفقدت اتصاله بالحقيقة.
يمكننا اذا أن نحاول كشط طبقات المعاني عن الكلمات لنصل الى الكلمة البدئية التي تمتلك قوة بدئية وأصيلة تربطها بالوجود. ولكن ذلك يستلزم جهدا خاصا. هذا الجهد بالنسبة لهايدغر شعوري، عاطفي، كأن يترك المرء نفسه لمشاعر خاصة وعميقة من قبيل: الضجر، والخوف والشعور بالذنب والهلع. الضجر مزاج جيد ومناسب كبداية. عندما نكون في حالة ضجر ضجر حقيقي "لا نكون منشغلين، على وجه الخصوص، بالأشياء ولا بأنفسنا،.... وهذا الضجر ما يزال بعيدا عنا عندما يتعلق الأمر فقط بهذا الكتاب أو بهذا المشهد، بهذا العمل، أو بهذه التسلية أو تلك التي تسبب لنا الضجر، ولكنه الضجر الذي ينبثق عندما "نصاب مثلا بالضجر". إن الضجر العميق الذي يجثم علينا كسحابة صامتة تنتشر في غياهب النفس الإنسانية، يقرب بين الناس والأشياء، وبينك وبين الناس جميعا في حالة لا تمايز وسوية مدهشة"، هذا الضجر، يتابع هايدغر في (ما هي الميتافيزيقا) يكشف الكائن في مجموعه". يأخذ الضجر الحقيقي المرء بعيدا عن بؤرة اهتمامه العادية، عن الموجودات. ويركز وعيه بدلا من ذلك على الوجود ككل الذي ينكشف أمامه.
ولكن هذا الكشف يجلب معه القلق والذعر. لأن جزءا من عملية انحلال موجود معين إلى حالة عدم التمايز يحمل أيضا معه انحلال احساس المرء بكونه كينونة متفردة ومميزة. يشعر المرء بالموجودات وهي تنحل إلى وجود غير متمايز ــ ولكن في الوقت ذاته يشعر المرء بهويته الذاتية تنزلق الى حالة كونها لاشيء على وجه الخصوص ــــ أي أنه يتحول إلى لاشيء/عدم.
هذا الإحساس بالفزع الذي يأتي من الإحساس بانحلال كل الموجودات مع انحلال المرء نفسه بالنسبة لهايدغر حالة فعالة ميتافيزيقيا، لأن ما يحصل عليه المرء هو نذر الموت، مشاعر الهلاك والفناء، الشعور بأنه يسير إلى اللاشيء/ العدم ــ وبالتالي شعور أنه يقترب من مركز الوجود الميتافيزيقي. ولكن علينا أن نعترف أنه شعور مزعج يحاول المرء أن يعود منه سريعا. إلا أن هايدغر ينصحنا أن لا نفعل، وأن نستسلم للفزع والهلع ونحتفي به، لأن الفزع الذي يشعر به الجسور المقدام هو الحالة العاطفية التي تهيء المرء للكشف العظيم. الكشف العظيم للحقيقة اللاهوتية المسيحية اليهودية والميتافيزيقيات الهيغلية.
في الفزع، سنشعر أن الوجود والعدم متطابقان. وهذا ما ضيعته الفلسفة المرتكزة على النموذج الإغريقي من وجهة نظر هايدغر، وهو أيضا كل ما تجهد الفلسفات الأخرى التي لا تستقي من النموذج اليوناني للوصول إليه.
اللاشيء ليس نقيض (ما يكون) ولكنه الجزء الأصيل من الماهية. ويثمن هايدغر لهيغل اعادة هذا الإبن الضال إلى التقاليد الغربية. "الوجود الخالص والعدم الخالص هما الشيء نفسه". هذا الافتراض الهيغيلي صحيح بالنسبة لهايدغر ايضا. ونحن نعلم أن هيغل جاء به في محاولته لانعاش التناول اللاهوتي للخلق، الذي يقول أن الله خلق العالم من العدم.
وهكذا، بعد نبذ المنطق والعقل، وبعد خبرة الضجر الحقيقي والفزع المهول، كشفنا سر الاسرار، العدم، اللاشيء، اللاوجود. في النهاية، كل شيء عدم، ومن العدم يوجد الكل. وصلنا بعد كل هذه المشاق مع هايدغر إلى العدمية الميتافيزيقية.
تعد فلسفه هايدغر توفيقية من نوع ما بين خطي الفلسفة الألمانية الرئيسيين: الابستمولوجيا اللاعقلانية، والميتافيزيقا التأملية. بعد كانط، نبذت التقاليد القارية العقل، ووضعت التأمل، والرغبات المتصارعة، والمشاعر المضطربة في واجهة الفلسفة. وفي توفيقية هايدغر يمكننا أن نرى عناصر ما بعد حداثية مهمة. وفر هايدغر لأتباعه الاستخلاصات التالية، التي اعتمدها ما بعد الحداثيين بعد ادخال تعديلات طفيفة:
1. التناقض والصراع هي الحقائق الأوغل للواقع.
2. العقل ذاتي، وعقيم، وعاجز عن الوصول إلى الحقيقية عن الواقع.
3. عناصر العقل: الكلمات والمفاهيم، عوائق لا بد من صنفرتها وازاحة صدأ المعاني المتراكم عليها باخضاعها للتقويض DESTRUKTION(وفي بعض الترجمات للتفكيك، ومنه جاءت تفكيكية دريدا.
4. التناقض المنطقي ليس دليلا على الفشل أو أن هناك شيئا مهما على نحو خاص ولكننا نعجز عن ادراكه بأدواتنا. هناك اللاشيء وحسب.
5. العواطف، خصوصا تلك المرضية مثل القلق والفزع أوغل ارشادا من العقل.
6. التقاليد الفلسفية الغربية بمجملها ــ سواء كانت افلاطونية أو أرسطية أو لوكية(لوك) أو ديكارتيةــ ترتكز على قانون اللاتناقض وعلى التمييز بين الذات والموضوع ــ عدو لا بد من قهره.
إقرأ أيضا: فلسفة التحليل وما بعد الحداثة
لم يقف تأثير هايدغر هنا، فالفيلسوف أيضا يدعم بقوة الجماعية السياسية والاجتماعية(مقابل الفردية)، كما أن له موقفا لاذعا من العلم والتكنولوجيا. فضلا عن نزعاته اللا_انسانوية مع دعواته المتواصلة لنا أن نصغي إلى الوجود، وأن نسترشد بهديه، وأن نشعر بالذنب بين يديه، وأن نقدم له فروض الولاء والإجلال، بل وحتى أن" نضحي بالإنسان لأجل حقيقة الوجود"ــ الذي يعني، إذا أردنا أن نترجم ما يقوله هايدغر دون محسنات وفذلكات، أن نضحي بالإنسان بين يدي العدم.
أما ما سيفعله الجيل التالي من الفلاسفة ـ ما بعد الحداثين، فهو تخليص فلسفة هايدغر من بقايا الميتافيزيقا التي لا تزال تمسك بأطرافها، وقص شرائط الغموض من لغته وأفكاره.
لا زال هايدغر ميتافيزيقيا. فهو يتحدث عن وجود حقيقة هناك عن العالم وأنه لا بد أن نسعى اليها أو أن تسعى الينا. إلا أن ما بعد الحداثيين يقول باللاحقيقة. لا حقيقة من حيث المبدأ لنسعى إليها أو تسعى إلينا، وبالتالي فلا معنى للحديث عن حقيقة ولا لغة يمكنها التقاطها. وهكذا فسنتوقع أنهم سيرفضون البند الأول من الافتراضات اعلاه وسيعيدون صياغته مؤكدين على واقع التناقض والصراع بطريقة وصفية خالصة لتدفق الظواهر الامبيرية. وفي حين أنهم سيقبلون البند الثالث، إلا أن قبولهم له مشروط بتحطيم آخر أمل لهايدغر، أمله في أن المفاهيم البدئية التي تربطنا بالواقع قد تتكشف بعد عمليات التفكيك والكشط المجهدة.
وأخيرا، قامت ما بعد الحداثة بنوع من التسوية بين هايدغر ونيتشه. فالمشترك بين الرجلين من الناحية الابستمولوجية هو نبذ العقل التنويري. وهو ما تبنته ما بعد الحداثة جملة وتفصيلا. أما من الناحية الميتافيزيقية، فعلى الرغم من أن ما بعد الحداثة قد تخلصت من بقايا وآثار السعي الهايدغري خلف الوجود، ووضعت نضالات القوة(السلطة) النيتشوية في قلب وجودنا، وخصوصا في حالة فوكو ودريدا، إلا أن معظم ما بعد الحداثيين هجروا الفكرة النيتشوية عن القدرة الخارقة للإنسان واحتفوا بالمقابل باللا-إنسانوية الهايدغرية.
إقرأ أيضا: نيتشه ما بعد الحداثي