12 فبراير . 5 دقائق قراءة . 662
الكاتب السوري أسامة هنيدي
تحتل العلوم الإنسانية اليوم مكان الصدارة في الكثير من الدول المتقدمة نظرا لأهميتها في التأسيس لمجتمع معافى من المشكلات بل والارتقاء بأفراده على سلم الحياة السوية اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا سيما في دول ومجتمعات أنجزت عموما استحقاقاتها التاريخية على صعيد الاستقرار والقفز بعدها لمجالات التميز والابداع.
وإذا اتفقنا أن التعليم هو الركيزة التي تستند اليها هذه الدول لتحقيق رخاءها وازدهارها فلا بد لنا من اجراء مراجعة نقدية لما هو قائم لدينا أملا في رؤية هذه الأخطاء بهدف إصلاحها ومنها تلك الصورة النمطية التي ترسخت في مجتمعاتنا حول العلوم الإنسانية على أنها مواد حفظية تكاد تكون غير لازمة في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون اليها خاصة في هذه الفترة العصيبة.
أقول إننا بحاجة الى تربية مبنية على الفهم والنقد والمحاكمة والسؤال والتي تصنع أفرادا قادرين على الخلق والابداع وليس روبوتات أو ببغاوات في أحسن الأحوال.
صادفني في لحظة تصفح عابرة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي نموذج امتحان الفلسفة لطلاب الثالث الثانوي في المغرب فجعلني أتوقف عنده قارئا لمحتويات ما يجب أن يمتحن فيه طلاب المملكة المغربية الأمر الذي حرضني من جهة للاطلاع على المنهاج المغربي لتدريس الفلسفة والذي أثار بي جملة من الأسئلة وربما الشجون حول الوضعية التعليمية والتربوية التي وصلنا إليها نحن السوريون ضمن جماع المشكلات التي تحاصرنا وربما التي ابتلينا بها بفعل عوامل عدة لا مجال الآن لبحثها لأنها تحتاج الى كثير من البحث والتقصي.
وأقتبس من الأطر المرجعية الخاصة بالامتحان الموحد ذاك وعبر تحديد المضامين الفلسفية في العناصر التالية:
إشكالات فلسفية/ مفاهيم فلسفية / أطروحات الفلاسفة / أقوال ونصوص فلسفية / أقوال أو مضامين أدبية أو فنية ذات أبعاد فلسفية / أمثلة من المعيش اليومي أو مستقاة من تاريخ الفلسفة أو من تجارب إنسانية مشتركة.
ما يلفت الانتباه الى هذه العناوين جملة من النقاط الحاسمة والتي يجب الانتباه اليها عند أي خطوة تطمح الى تطوير قطاعنا التربوي وعبر أم العلوم تحديدا وأقصد الفلسفة.
أولا: النظر الى الفلسفة بوصفها جملة من المشكلات لكن الهام هنا والذي يقع على عاتق المشتغلين بتدريس الفلسفة هو عدم تصوير هذه المشكلات باعتبارها فقط مشكلات نظرية بل ربطها كما هو واضح أعلاه في عنوان أمثلة من المعيش اليومي لسبب بسيط وهو أن الفلسفة بالدرجة الأولى هي سؤال عن الوجود ولا يخفى على أحد أن موضوعة الإنسان ومشكلاته هي في صميم السؤال الوجودي وعلى ذلك يمكن الخروج من الصورة النمطية للفلسفة بوصفها بحث في مشكلات الناس الواقعية وللفيلسوف بوصفه من يسأل حول تلك المشكلات ويحاول مقاربة إجابات ما حولها بحثا وفحصا وتدقيقا وإحاطة.
ثانيا: المفاهيم الفلسفية وهذا بحث خطير جدا إذ أن فيلسوفا كبيرا أنجز عديد الكتب في القرن العشرين مثل جيل دولوز أنهى حياته بكتاب تحت عنوان " ما هي الفلسفة " وبالنظر الى الإجابة التي قدمها الفيلسوف الفرنسي والتي تمثلت بعبارة " الفلسفة هي إبداع المفاهيم " يمكن القول أن حضور المفهوم حضور مركزي في التفكير الفلسفي إذ لا فلسفة دون مفاهيم.
والمسألة التي نحسها خطيرة جدا على هذا المستوى وخاصة في قطاعنا التربوي هو عدم العناية بالمفاهيم بشكل تمييزي سيما أن معظم المفاهيم أتتنا مستوردة من ثقافة أخرى وبالتالي سنقع في مطب آخر وهو مطب الترجمة وكيفية تطويع اللغة العربية لاستيعاب هذا المفهوم.
وكيلا يكون كلامي عاما سأحاول ضرب مثال بسيط حول مفهوم الثقافة فالكلمة الفرنسية
Culture
ومثلها الإنجليزية مع اختلاف اللفظ والتي ربما وهذا وارد جدا تنحدران من الجذر اللاتيني للكلمة والتي تعني الحراثة والزراعة لا تمت بصلة للأصل العربي القديم للكلمة CUTURA والمشتقة من الفعل الثلاثي ثقف والتي تعني التقويم من الاعوجاج وعلى ذلك كان المثقف واحدا من أسماء السيف في العربية بمعنى المقوم جيدا وقد امتد المعنى في المعاجم الحديثة ليقال ثقف أي هذب وعلم وعلى ذلك أصبح المثقف بدءا من قضية درايفوس في فرنسا والتي هب فيها مجموعة من الكتاب والمفكرين الفرنسيين دفاعا عن الرجل الذي اتهم بالخيانة لتصبح بعدها قضية رأي عام في فرنسا وليوصف هؤلاء المدافعين عن درايفوس بالمثقفين أي في حينها مجموعة الأشخاص ذوي الاختصاصات المختلفة لكن المهتمين بالشؤون العامة ومنها بدء الاستخدام المعاصر لمفهوم المثقف.
ثالثا: المضامين الأدبية والفنية ذات الطابع الفلسفي وهنا لا بد من التوقف مطولا عند هذه النقطة وتأتينا الأمثلة تباعا من الحقلين الأدبي والفني شديدي الغنى بالمضامين الفلسفية
وإلا ماذا نسمي عناية الكاتب الكبير تشيخوف بمشكلات الهامشيين والبسطاء في قصصه الأخاذة حولهم إلا عناية أدبية بمشكلات الناس ولماذا أعدم غارسيا لوركا رميا بالرصاص وهو ينشد موضوعة الحرية في وجه فوهات بنادق الديكتاتور فرانكو عشية الحرب الأهلية في اسبانيا
وعمن كتب غابرييل ماركيز مائة عام من العزلة وخريف البطريق وغيرها ولمن وجه جورج أورويل رائعته الروائية 1984 وهل اختفت قضية فلسطين من ذهن محمود درويش في أواخر حياته حين أنشد: خذوا أرض أمي بالسيف
لكني لن أوقع باسمي على بيع شبر من الشوك حول حقول الذرة
إن شئت أن أعد الأسماء سأغرق فيها لأسمي رسامين ومغنين وموسيقيين كان الانسان وكيفية ارتقائه هاجسهم المركزي عينا وأذنا وعقلا وجمالا وهذا ما يجب الالتفات اليه بعناية عند المشتغلين مرة أخرى بحقل تدريس الفلسفة وخاصة في بلادنا التي ينقصها الكثير في هذا المجال والتي آمل أن ننتبه لتوسيع دائرة الوعي فيها وذلك يستلزم مزيدا من الجهود لضخ دماء وعي جديد عبر العلوم الإنسانية التي تحتل الفلسفة صدارتها.
أسامة هنيدي / كاتب سوري