27 سبتمبر . 3 دقائق قراءة . 333
أترصَّده منذ أسابيع، وهو في عزلته متقوقع على نفسه، ولا يعيرني انتباهاً.
لجأتُ إلى هذه القرية الوادعة منذ حوالي شهرين، بعد نصيحة صديقي الناشر بأن أسافر أو أبتعد عن المدينة، لعلني أجد حلاً لما أسميه ب "حبسة" الكاتب. فمنذ مدةٍ وقلمي عقيم، توقفتُ في منتصف الرواية التي أؤلفها... نضبت أفكاري!
وإلهامي... أصبح حبيبة صعبة المنال!
لجأتُ إلى قريةٍ نائية في أقاصي الوطن، بالكاد يبلغ تعداد سكانها المائة شخص، قرية عجائز لا شباب، لعل أصغرهم في الستين أو السبعين من عمره.
بدأتُ ألاحظ مروره وهو يحادث نفسه!
سألتُ عنه، فأخبروني أنه "مجنون" ظهر في القرية منذ عقودٍ طويلة، يعيش في عزلة، لا يقترب من أحد، ولا يؤذي أحد.
قررتُ أن أعرف سره.
لا... ليس تطفلاً، لكنه فضول الكاتب الذي يعشق الحكاياتِ وفك أزرار أسرارها.
تبنيتُ عادة الجلوس فوق صخرة ملساء في أٌقرب نقطة من كوخه، حيث لا بد أن يراني. كنتُ أفتح اللابتوب لأوهمه أنني أكتب... أتكلم بصوتٍ عالٍ وأتناقش مع نفسي وأبتكر قصصاً عجيبة بهدف لفت انتباهه.
مضى الشهر وأنا على هذه الحال. إلى أن...
قررتُ أن أتصرف بجنون... لعل وعسى.
فتحتُ اللابتوب على صورة امرأة وبدأتُ أبكي وأنشج:
لماذا؟... لماذا خنتني مع أقرب أصدقائي؟... يا لكِ من عاهرة أيتها الحبيبة...
وأنا على هذه الحال أبكي وأندب حظي، فإذا به يحضر! نظر إليَّ كما لو أنه ينظر إلى جرو جريح.
مسحتُ "دموع التماسيح" عن وجنتي، وأنا أحاول إخفاء فرحتي بحضوره.
جلس إلى جانبي بصمت.
فقلتُ له وأنا أشير إلى الصورة: الخائنة لقد هجرتني بعد أن أخذت أموالي... خانتني مع أقرب صديقٍ لي.
نظر إليَّ وفي عينيه جلمود صخر وقال: اهدأ... هل ستولول من أجل سراب!!
فتشجعتُ وسألته: هل عرفتَ الحب يوماً؟...
أجاب: مصيبتكم أنتم الشباب أنكم تعتقدون أن علاقاتكم الغرامية هي محور الحياة... ومحور المصائب...
فقلتُ: أليست كذلك؟
نفخ ضجراً وقال: ما هي مهنتك؟
قلتُ: كاتب... أحاول أن أكتب روايتي الثالثة.
تأملني باهتمام، ثم قال: هل تريد أن تسمع قصتي؟
أجبتُ بحماس: طبعاً... طبعاً...
لكنني استدركتُ الموقف بسبب النظرة التي رمقني بها، وقلت: أقصد إن كنت لا تمانع أن ترويها لي.
فقال: أعرف انكَ فضولي، وأنكَ تريد لفت انتباهي... الآن عرفتُ هدفك، وسوف أمنحك ما تريده... شرط أن تغادر دون عودة عندما أنهي حكايتي.
أجبتُ كولدٍ مطيع: أجل... أجل... كما تريد.
قال بحدة: أَقسِم على أن تختفي بعد سماع قصتي.
رفعتُ يدي وقلت: أقسم أن أختفي بعد أن تنهي قصتك.
فقال موضحاً: أخبركَ بقصتي كي تكتب عن الحرب، يجب أن تقول أن لا منتصر في الحرب، الجميع قتلى... الجميع ضحايا... الجميع متوحش... والجميع قاتل.
نحن لا نبني وطناً بشن حرب، فالحرب تدمير للبشر قبل الحجر. الحرب تخلفنا مشوهين نفسياً، معطوبي الآمال والأحلام... تميتُ فينا العزيمة والإصرار، وتختزل طموحاتنا، فنصبح مجرد كائناتٍ تبحث عن هويتها وجدوى وجودها!
لم أفه بكلمة! خوفٌ ما ورهبة تسربت إلى روحي بعد كلامه.
زفر بعمق وأدار لي ظهره، ثم قال وهو ينظر إلى البعيد: أثناء ما أسموه "الحرب الأهلية" في لبنان، كنتُ حدثاً ما كاد شاربه يخط في وجهه، حقنونا نحن الشباب اليافع بسُم اسمه الآخر، الآخر يكرهك... الآخر يحقد عليك... الآخر يريد أن يقتلك... الآخر يعمل من أصل مصلحته لا مصلحة الوطن... الوطن لنا... الآخر يرهن الوطن لمصلحة الغرباء... الآخر... الآخر...
ثار الشيطان في دمِ حماسنا، فحملنا السلاح في وجه آخر، لم نكن نعرف عنه أي شيء! بل لم نكن نعلم من هو هذا الآخر!
ذات معركةٍ حامية الوطيس بيننا وبين "الآخر"، جاء مَن يخبرني بأن الآخر قد قصف منطقة سكني... وأن جميع أفراد عائلتي قد قتلوا!
كل ما أعيه بعدها أنني لحظة وصلتُ إلى منزلي طالعني وجه شقيقتي الصغيرة ميتةٌ وفي عينيها كل الرعب.
قررتُ أن أنتقم!...
اقتحمنا منطقةٍ يسكنها الآخر. كنا جحافل متوحشة، متعطشة للدماء انتقاماً.
ركلتُ باب منزلٍ وأنا أرفع سلاحي، طالعني أول ما طالعني صبيةٍ تحمل رضيعاً، تصرخ وتقول "بترجاك ما تقتلنا... بترجاك ما تقتلنا".
صفعتها فطرحتها أرضاً، فتدحرج الطفل أمامها ولم ينبث ببنت شفة، لعله مات أو أغمي عليه من قوة السقطة...
كنتُ أريد انتقاماً يليق بقتل شقيقتي المدللة، مزقتُ ملابسها وحاولت اغتصابها قبل أن أقتلها. كانت تصرخ وتتلوى... تشتمني... تلعنني... وتلعن الحرب وأربابها...
فجأة... تمثل شبح شقيقتي الميتة فوق رأس الضحية، تنضح دماً من جميع أنحاء جسدها، تنظر إليَّ برعب وتصرخ... لا... لا...
وقفتُ مذهولاً ومصعوقاً من هول المشهد، ماذا تريد أن تقول شقيقتي!؟
وبلمح البصر، دخل رفيق لي وأطلق النار على الصبية فأرداها قتيلة!
عندما نظرتُ إلى وجهها، كانت ملامحها ملامح شقيقتي، عيناها تنظر برعب ودمها يفور من رأسها... أقسم بالله أنني سمعتُ صوت شقيقتي يصرخ "عليك اللعنة... عليك اللعنة".
فررتُ من المكان راكضاً... ركضتُ مدة يومٍ كامل أو لعله عامٌ، لا أدري. كل ما أدريه هو أنني وجدتُ نفسي ممدداً تحت شجرةٍ وأكاد أموت من شدة الحمى.
نجوت... للأسف نجوت لا أدري كيف حصل ذلك؟ ربما يريد الله أن يعاقبني بأن أبقاني حياً. ومنذ أن استعدتُ وعيي وأنا أحاول أن أكفر عن ذنبي بأن أرجو شقيقتي وأقسم عليها بما تعبد أن تصفح عني، لعل الله يقبل توبتي وندمي على ما أقدمتُ عليه.
لكنها ما زالت ممتنعة عن زيارتي... وما زال صوت لعناتها يلاحقني في كل مكان.
أعتقد أن ما سمعته كان نشيج بكائه، لكنه سرعان ما اختفى في الظلام قبل أن أقول شيئاً.
كل ما خطر في ذهني هو مقولة بول فاليري "الحرب مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض".
نفذتُ ما طلبه مني، غادرتُ المكان ثم غادرتُ القرية، وقد صممتُ أن أكتب رواية عن مجنونٍ يروي مآسي الحرب وبشاعاتها، بكل ما في العقل من منطق.