26 أكتوبر . 3 دقائق قراءة . 429
ـ 3 ـ
يعد جوستوس شتويلينج Justus Stuijling (1595 ـ 1624)، حسب ما توصل إليه بحثنا، ثاني رسام أجنبي زار المغرب، وكان ذلك عام 1620، ليشتغل في بلاط السلطان السعدي مولاي زيدان، يصمم ويسهر على إنجاز جداريات فنية بقصر البديع بمراكش. قضى، قسرا بمحلة الشريف، أربع سنوات يتنقل بين جنبات المدينة الحمراء، ثم انقطع أثره فجأة في العام 1624.
تجليات ظهور اللوحة التصويرية بالمغرب
كان السلطان زيدان شاعرا وعاشقا للفنون، فطلب من الولايات العامة أن ترسل له رساما يتخذه فنانا لبلاطه، فيُقترح لهذه المهمة يوستوس كورنيلسز شتولينج. وبما أن الرسام يوستوس مكث أربع سنوات بمحلة السلطان، فمن المحتمل أن يكون قد أنجز صورا وجهية للملك وبعض حاشيته من رجالات الدولة، اقتداء بما جرت به عادة الملوك والسلاطين. فمن المعروف، أن سلاطين الدولة العثمانية وملوك أوروبا كانوا يتباهون بصورهم الوجهية. ف "هي عادة قديمة، على ما يمكن التحقق، في التقاليد الدبلوماسية، (...) تقوم على لزوم توافر صورة للحاكم يتم اعتمادها، وتبادلها، لتأكيد التعارف في العلاقات الدبلوماسية بين حُكْمَين، وقد تكون هذه الحاجة الدبلوماسية هي السبب الأول الذي دعا سلاطين بني عثمان الأوائل إلى اعتماد الصورة الشخصية للسلطان، وخاصة أنه كان لهم أن يتعاملوا مع حكام أوروبيين متبعين لهذا التقليد" (داغر ص. 46).
وليس من المستبعد أن ملوك المغرب اتبعوا نفس النهج. فقد كان سلاطين المغرب في ذلك الوقت، على تواصل مع الباب العالي وولاياته بالجزائر! وأن أحمد المنصور، لما تولى أخوه الغالب أمرَ المغرب، رحَل بصحبة أخيه عبد الملك إلى الجزائر ثم إلى تركيا، حيث قضيا سبعة عشر عاما في المنفى، وأكسبهما مقامهما بالأستانة تكوينا عثمانيا واطلاعًا على شؤون أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسط. ومن المؤرخين من يقول عشرين عما، ف"حياة المنصور قبل توليه العرش كانت مرتبطة بحياة أخيه عبد الملك، الذي تقاسم معه ما يقرب من عشرين عاما في المنفى... فعند ما ارتقى أخوه عبد الله إلى العرش في عام 1557، هرب [عبد الملك] أولاً إلى تلمسان ثم إلى الجزائر وإسطنبول مع إخوته عبد المؤمن وأحمد. (GARCÍA-ARENAL ص.22)
للمزيد يرجع إلى كتاب محمّد نبيل مُلين*
وتثبت الوثائق الإسبانية أن أحمد المنصور استقبل في قصره بفاس الرسام بلاس دو برادو Blas de Prado (1545 ـ 1599)، (سماه خليل لمرابط في كتابه Peinture et Identité، الصفحة 27، Blas del Pardo والصحيح ماورد في المصادر الإسبانية هو Blas de Prado)، مرسولا من طرف ملك إسبانيا فيليب الثاني ليكون رسام بلاطه، يرسم صورا للسلطان وبعض حاشيته، بعض المؤرخين ذكروا ابنته! "كتب ملك فاس إلى السيد فيليبي الثاني ليرسل إليه رسامًا وأجاب أنه في إسبانيا هناك الكثير من الرسامين؛ بعضهم من المبتذلة العاديين، والبعض الآخر ممتاز ولامع (...)، والبعض الآخر معقول، والبعض الآخر سيء، وأي منهم تطلب؟ أجاب المغربي أن الملوك يجب أن يبذلوا قصارى جهدهم دائمًا". وهكذا ذهب إلى المغرب بلاس دي برادو الرسام التوليدي (من مدينة توليد)، وهو من أفضل ما لدينا في الوقت الحاضر، واستقبله ملك المغرب بأعلى التشرفات". ( Lope de Vega, p. 239)
ومنذ ذلك الوقت أصبح إلحاق رسامين أوروبيين بسرايا السلاطين السعديين والعلويين من البروتوكول الدبلوماسي، لكن للأسف أن ما أُنْجِزَ من صور وجهية للملوك والأمراء اندثر نتيجة الأوضاع السياسية المتردية، غير المستقرة، والقلاقل والحروب والفتن التي عاشها المغرب منذ وفاة أحمد المنصور عام 1603. فما جرت به العادة، أن الأسرة الحاكمة غالبا ما تعمل على إتلاف ما ورثته عن التي كانت قبلها. وبذلك يكون المغرب قد فقد تراثا تشكيليا تصويريا Figuratif هائلا سيشهد على ظهور اللوحة الزيتية في وقت متقدم جدا، مما قد يؤدي إلى تغيير مجرى تاريخ الحركة التشكيلية المغربية كما نعرفه حاليا. ورغم هذا كله فقد سلمت من التلف والضياع بعض صور الملوك والسفراء، التي ما زالت محفوظة بمتاحف فرنسا وإسبانيا وإنجلترا وهولندا...
لم يبق أي أثر مما أنجزه الرسام يوستوس من جداريات ورسوم خلال مقامه بمراكش. فما نميل إليه من رأي راجح، أن ما بقي من النفائس والتحف، من بينها ما أنجزه شتولينج وغيره من الفنانين الأوروبيين الذين زاروا مراكش بعده، ضاع إثر الخراب والنهب والسرقات التي تعرض لها قصر البديع بعد سقوط الدولة السعدية (قتل آخر السلاطين السعديين في مراكش سنة 1659). والأرجح كذلك أن هذا الفنان لم يستطع، خلال مقامه القسري بمراكش، أن يوثق يومياته ومشاهداته بالخط واللون، كما فعل من جاء بعده. فبعد انتهاء عمله بقصر البديع، تخلى عنه السلطان بعدما نكث ما وعده به، فبات الرسام يتسكع، يطوف بين الدروب والأزقة، لا يجد ما يسد به رمقه.
ما لا نستبعده أن شتولينج يكون قد دون رحلته بالحرف والرسم، كما هي عادة الرسامين الرحل، فضاعت الكنانيش بعدما هُدِم البديع أيام السلطان المولى إسماعيل (1645 ـ 1727).
ذكر محمد الصغير اليفرني في " روضة التعريف"، الصفحة 56:
" كان مصداق ذلك [يقصد هدم قصر البديع]، على يد سيدنا نصره الله [يقصد المولى إسماعيل]، فإنه أمر بهدمها عام 1119(ه)، فغُيِّرت مصانعُها المنمَّقة، ونُثِر نظامُ محاسنها المجموعة، ورُدَّ سماءُها أرضا، وطولُها عرضا، حتى صارت مرعى الكلاب والمواشي، ووكرا للبوم، وحُقَّ على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه، والذي حمله نصره الله على هدمها أنه رآها قليلة المنفعة، كثيرة المفاسد، ما سكنها أحد من أولاده إلا هاجت عليه الحمى، واعترته الأمراض، حتى كان نصره الله لا يسميها إلا بدار أم ملدم، لكونها الغالب على من يحلها ويسكنها أن يبتلى بالحمى".
وجاء في الصفحة 380 من "المنزع اللطيف":
"وفي عام تسعة عشر ومائة وألف أمر مولانا إسماعيل بهدمه فهُدمت معالمُه وبٌددت مراسمُه وغٌيرت محاسنٌه وفُرِّق جمْعُ حٌسنِه وعاد حصيدا كأن لم يغن بالأمس".
اندثر قصر البديع بفعل الهدم وضاعت معه نفائس غالية من التراث الفني المغربي بفعل النهب والسرقة، ذلك أن "أنقاضه صارت بعد هدمه كالمراجعة لأصولها إذ ما من نقطة مغربية إلا وصار إليها في الأغلب بعض أنقاضه ...فكان تفريق أجزائه بعد الهدم وفق ما جمعت عليه حين البناء". (ابن زيدان، المنزع الطيف ص. 381)
خاتمة:
إنه من غير المؤكد أن يتمكن أحد من العثور على بعض مما أنتجه الرسام جوستوس شتويلينج من أعمال خلال مقامه بالمغرب، نظرا لاعتبارات عدة، منها:
هوامش:
وبعد مقتل والده ونشوب الصراع بين إخوته سنة 1557 توارى الأمير الصغير عن الأنظار بمعية أمّه في واحات سجلماسة لعدة سنوات قبل أن يلتجأ إلى الدولة العثمانية سنة 1574. وقد كان لمقامه هناك أثر واضح على سيرته إذ تعلّم بعض فنون السياسة العثمانية والإيبيرية واكتسب خبرة في السياسة الدولية والشؤون العسكرية دون أن ينسلخأبدا عن التقاليد المحلية. (نبيل ملين ص ص. 55ـ56)
مراجع:
ترجمة عادل بنعبد الله et عبد الحق الزموري
Éditeur : Centre Jacques-Berque, Faculté des lettres et des sciences humaines et sociales, Rabat 2013