17 نوفمبر . 7 دقائق قراءة . 898
محمد خصيف
في النص الموجز الذي كتبته طوني ماريني عن الفنان محمد بن إدريس اليعقوبي[1]، الفنان الذي همشته أدبيات الفكر التشكيلي تهميشا تاما وساهمت فيه الإدارة الوصية على الفنون، رغم الاعتراف الذي حققه خارج حدود الوطن، (وسنعود إلى هذا الحديث فيما بعد)، أشارت، اعتبارا للمرحلة التي تميز وضعية الفنون التشكيلية في المغرب، (لا حظ أن الكاتبة نشرت مقالتها عام 1986)، إلى أن الوقت قد حان بالفعل، للبدء في مشروع "عمل كامل من التحليل بأثر رجعي من خلال التشكيك في التاريخ والوثائق السابقة (...)لأننا الآن بحاجة إلى أبحاث ودراسات محددة ومفصلة، قادمة لتوضيح هذه الفترة المحورية الواقعة بين بداية القرن (العشرين) والسنوات الأولى للاستقلال. بهذه الطريقة فقط يمكننا كتابة تاريخ الرسم المغربي لهذا القرن وفهم نشأته ومساره. يجب أن يصاحب العمل النقدي العمل العكسي لمؤرخ الفن."
اعتبرت هذا النص من المحفزات.
سبق لي أن طرحت السؤال التالي على جداري الفيس بوكي: لماذا تفوق فنانو الجيلين الثاني والثالث في فرض فنهم وفي هيمنتهم على الساحة الثقافية المغربية والعربية، ولم تفلح في ذلك الأجيال التالية؟! وتهاطلت الأجوبة والتعقيبات شخصيا أعتبرها كلها بدون استثناء جد مهمة وتكشف للمتتبع عن الهم الذي يحمله الشباب المثقف، سواء كان ممارسا للفنون البصرية أم مكتفيا بالمصاحبة والتتبع. هذا مع الإشارة إلى البعض رماني بجهل حقيقة أنطولوجيا الحركة التشكيلية المغربية وأننا أنظر إليها من منظار ضيق بل متجاوز، إذ ألخص كل التجربة في الرسم الصباغي فقط ولا أعير أي اهتمام بالأساليب والتقنيات الأخرى خصوصا تلك التي تتبناها منجزات الفنون الراهنة أو المعاصرة. لا ألوم صاحب أو صاحبة القولة لأنه (ا) لو أزاح (ت) عن بصره (ها) غشاوة الذاتية ونظر إلى المسألة بواقعية أكثر لانكشفت له (ها) الحقيقة.
إن التساؤل الذي ألح علينا نجد له قرينا عند الناقد المغربي خليل لمرابط: "كيف توصل أصلا، فنانون لهم مفاهيم تشكيلية مختلفة إلى مثل هذا التجانس في التجريد الهندسي؟" نقول إن التجانس لم يتحقق فقط شكليا ولكنه أيضا حصل على مستوى السلوك في التعامل مع قمتي المثلث الأخريين: المتلقي والمنجز. مع العلم أن "ما يراهن عليه الفن هو جدة وإبداع الأشكال لا ثورية المضامين، رهانه الأساسي تجديد عوالمه الرمزية، وقواته وطاقاته التقنية والأسلوبية والمجازية والاستعارية بما يفجر البنيات والقواعد القائمة.[2]"
قبل مناقشة ما جاء في التساؤل يجب أن نحدد من هو الجيل الثاني المقصود من كلامي.
إذا رجعنا إلى تاريخ الحركة التشكيلية بالمغرب فسنكتشف أن التصورات الفنية تتغير من عقد لآخر وأن أهل العقد السابق يجادلون أهل العقد اللاحق، لكن جدالهم تغلب عليه في كثير من الأحيان، المجانية والسطحية، ولم يكن أبدا محاجاة عقلانية نقدية. لذلك نجد أن شعلة المحاججين ما فتئت أن خمد بريقها وانكمشت منافذها على نفسها. بينما بقت أطياف شعلة بعينها تغمر الفضاء التشكيلي ومنه الثقافي عامة بعبق أريجها، وامتدت زمنا طويلا حتى زاحمت براعم يمكن وسمها بما بعد حداثية!
ما أقصده بالجيل الثاني هم الفنانون المعنيون بكلام خليل لمرابط، رواد الحداثة الفنية بالمغرب وبتعبير آخر، متداول في المتون التأريخية والنقدية، "مجموعة الـ 65" كما عرفت في الصحافة العربية[3]. أحيانا يأتي الاسم عن طريق الحدس أو الخطأ كما صرح شبعة[4]. أو حركة 65 التي تشكلت بین 1964و 1969 داخل مدرسة الفنون الجمیلة في الدار البیضاء. فمنذ العام 1965، حددت مجموعة الدار البيضاء "محمد المليحي (1936-2020)، فريد بلكاهية (1934-2014)، محمد شبعة (1935-2013)" معالم طليعة مغربية، بتنظيمها أول معرض ثلاثي جماعي في العام 1966 بمسرح محمد الخامس بالرباط، مدعما بقلم طوني مرايني ونص بيان موقع من طرف محمد شبعة، نُشر في جريدة العلم[5]. "معرض مسرح محمد الخامس بالرباط، ھو في الواقع تاریخ أو حدث تاريخي سابق لتواجدنا داخل المدرسة" كما صرح محمد شبعة نفسه [6] ، هو فعلا كذلك بحيث كان لبنة أولى للانفتاح على مكونات الثقافة الوطنية الحرة، متجسدا في تعاون المجموعة - خصوصا الثنائي المليحي/شبعة - المستقبلي مع الشاعرين مصطفى النيسابوري وعبد اللطيف اللعبي داخل صرح مجلة أنفاس من عام [7]1966.
بعد ذلك الحدث وتحديدا في العام 1969 ستتوسع الجماعة لتضم إليها مواهب أخرى: محمد الحميدي (1941-...) ومصطفى حفيظ (1942-...) ومحمد أطاع الله المعروف أيضًا باسم رومان أتالا (1939-2014).
نرفض النماذج الغربیة في الثقافة التشكیلیة
اقتبست العنوان من كلام أحد رواد الحداثة الفنية بالمغرب وأحد منظري جماعة 65 الشهيرة، محمد شبعة، الذي طالما رمى بسهامه حركة ما يسمى بالفن الساذج ورواده. أسمي هذا النوع بحركة مادام يكسب مؤيدين بل مقلدين للفضاءات الغرائبية والعجائبية التي وضع تصوراتها الأولى بن علال والورديغي والشعيبية وغيرهم. لم يكن الفن الساذج الهدف الوحيد لسهام شبعة، بل قصدت الرَّمِية أيضا رائدا الحركة التجريدية أحمد الشرقاوي (1934-1967) (بحدة خافتة نسبيا) والجيلالي الغرباوي (1930-1971) بجروح عميقة، لا لشيء إلا لكون الرسامَين المغربيين تأثرا بمدرسة باريس L’Ecole de Paris، بل تلقيا تكوينهما الفني بمدرسة الفنون الجميلة بباريس، الفرصة التي لم تتح لمنتقدهما! التحق أحمد الشرقاوي بمدرسة الفنون الجميلة، قسم فنون الجرافيك بباريس في العام 1956، وبعد الحصول على منحة دراسية، قضى الغرباوي فترة دراسية من 1952 إلى 1956 في المدرسة العليا للفنون الجميلة. نشر المقال الذي شمل الانتقادات بمناسبة المعرض الثلاثي المشار إليه أعلاه.
مما يؤخذ على الثنائي الشرقاوي والغرباوي "والذين يمثلون الآن الاتجاه التجريدي عموما، واللاشكلى "أنفورميل" خصوصا"، غياب أي "أثرا للأصالة المغربية وعلى الأقل الإفريقية"، في أعمالهم. لا أريد أن أخوض في غياب أو حضور كذا أصالة لدى الرسامَيْن المقصودين من كلام شبعة. إن منجز الشرقاوي الذي "منح للتشكيل العربي إشراقا فريدا عبر حركة فنية خاصة به"[8]، وعمل فريد بلكاهية (النحاس والجلد خاصة) المهووس بإيجاد عالم متحرر من الرؤية التصويرية الأكاديمية، يبقيان في نظرنا خير مثال يستشهد بهما حين الحديث عن المَتْح من التراث والارتباط الوثيق بالجذور، بينما أعمال غيرهما ممن عاصرهما تقتضي استحضار تحليل محايث ينتزعها عن الهالة الفضية التي غلفها بها نقدُ الهوى، حتى تبرز حقائق اللون والشكل والتكوين في علاقتها بالمتلازمة الأورو/أمريكية. فمنجزات التراث الأمازيغي/العربي/الإسلامي ذي الشحنة الماتحةِ أجيجَها من "الفكر الميتافيزيقي والرمزي والصوفي"، تبدو عصية الربط والتقاطع مع اللوحات ذات الأسلوب التجريدي الهندسي الواسِمِ لحركة الحداثة الفنية في المغرب، إذا استثنينا أعمال أحمد الشرقاوي طبعا. إن أوجه الشبه التي تم تحديدها على عجل بين السمتين الأسلوبيتين مضللة، كما استنتج خليل لمرابط[9]. ونفس الحكم يطلق على ذات المنجز بحيث لا توجد أية علاقة تشاركية بينه وبين التجريد الهندسي الحديث في الغرب، عدا تجارب بعض الفنانين المعروفين الذين اقتبسوا أسس فنهم وركائز جماليتهم من الفنون الإسلامية وبعض آثار التراث الأمازيغي المغاربي. بوضع المنجزَيْن التقليدي والحداثي جنبا إلى جنب تبرز مصادفة شكلية بين عنصرين متباينين، لا شك أنها تضفي على الأسلوب المستورد هالة جمالية ذات طابع أكاديمي متخشب تم تجاوزه.
شخصيا لم أتوصل إلى تحديد هوية الرسامين الممثلين لاتجاه تجريد ال"أنفورميل" المقصودين من كلام شبعة، والمعاصرين له آنئذٍ! ربما، قد ينطبق نقده على فرد واحد من مجموعة 65 نفسها وهو الوحيد الذي كانت أعماله وما زالت "غنائية"، بها نفحة أتلانية (نسبة إلى الرسام الفرنسي جان ميشيل أتلان) عكس باقي أفراد المجموعة الأربعة الحاملين شعار التجريد الهندسي المحايث للتقليلية أو الحد الأدنى minimalisme، أو الناسخ لشكلانية الهارد إيدج Hard-edge painting، مما أولجهم في متاهة لم يستطيعوا تجاوز حدودها طيلة حياتهم الفنية، وهذا ما يعلله قول شبعة نفسه: " كنا قد بقینا حبیسي نوع من الاكادیمیة الخاصة بنا، حبیسي نوع منالدوران في عملنا الخاص، الذى لا یتقدم بالسرعة المطلوبة"[10]. والقول هذا يؤكد ما قلناه آنفا!
يمكن تقسيم الرسامين الذين عاصروا جماعة 65، منذ أواخر خمسينات القرن الماضي وبداية ستيناته إلى مجموعتين: تلاميذ الأساتذة الذين ما فتئوا يستظلون بستارة مدرسة الدارالبيضاء، يرددون نفس حكاية اللون والشكل ينشطون إما فرادى، يبحثون عن ذواتهم مقلدين هذا وناسخين ذاك من الأساليب الطافية، أغلبهم خسر الرهان فبادت شمسه. فهم لم ينتصروا على أساتذتهم لذلك لم يتجاوزا زمنهم، وبقيت علامات السيد حاضرة في أعمالهم وزمنه يتماهى مع زمنهم.
وفئة ثانية تعتبر نفسها مستقلة عن حكاية الأصالة والمعاصرة، نظريا، لأن أغلب عناصرها لم يتوفر لديهم نفس الرؤيا الاستشرافية التي تسلح بها ثلاثي جماعة 65، مما جعل كل مشاريعهم الفنية تسقط من علٍ مباشرة بعد الكشف عنها. و لا أخفي على القارئ أن هذه حال مشاريع الجمعيات والاتحادات والنقابات التي تسترت بقماش الفن والجمال في بلادنا.
العديد من الفنانين حاولوا جمع شملهم تحت غطاء جمعيات إقليمية أو وطنية، فظهرت نسخة جديدة لجمعية الرسامين والنحاتين بالمغرب L’association des peintres et sculpteurs du Maroc التي سجلت أنشطتها خلال الفترة 1922 – 1933، تحت اسم جمعية الرسامين المغاربة المستقلين بالدار البيضاء. وظهرت الجمعية الوطنية للفنون التشكيلية A.N.B.A عام 1963، - ترأسها بلكاهية وبعده محمد شبعة 1964-1965، (يلاحظ أن بلكاهية وشبعة حذفا بالمرة، من سيرتيهما ذكر انتماءهما ورئاستهما لA.N.B.A وكأنها وصمة عار!) . وفي نفس العقد ظهرت جمعية الرسامين الشباب بمراكش التي نظمت عام 1969 معرضا في الهواء الطلق بشارع محمد الخامس (جيليز) وأصدرت مجلة "ابتكار". وفي عام 1970، نظمت معرض متحف في الشارع بساحة جامع الفنا. كانت هذه الجمعية لقمة علقم في فم الجمعية المغربية للفنون التشكيلية AMAP، وإليها يلمح محمد شبعة في أجوبته على تساؤلات محمد بنيس[11]. جاءت التظاهرتان كرد فعل على المعرض/البيان الذي نظمته جماعة 65 بنفس الساحة عام 1969، إلا أن النشاطَيْن لم يتوصلا إلى تحويل "الحلقة الفنیة إلى حقل معركة جمالیة وإیدیولوجیة"، فمنذ الانطلاقات الأولى، لمت التجمعات الفنية شتات عناصر غير متجانسة ولا تتقاسم نفس الأفكار والرؤى، ولا تحمل نفس الهموم التي بنت عليها جماعة 65 تجربتها. فالحوار كان مستحيلا بين العناصر إن لم يكن عديم الفائدة.
المراجع:
[1] T.Maraini- Yacoubi qui était-tu ?, Lamalif n° 178,Casablanca 1986
[2] عبد العلي معزوز، فلسفة الجمال ونظريات الفن نحو إستتيقا معاصرة، بيروت ، منتدى المعارف، ط. 1 2023 ص. 112
[3] محمد بينيس، "جماعة 65بين الاطمئنان والقلق. حوار مع محمد المليحي، محمد شبعة، فريد بلكاهية"، مجلة الثقافة الجديدة، السنة الثانية، العدد 7، ربيع 77، ص. 40-67.
[4] جماعة 65 بالمغرب: الفن..أم البيداغوجيا؟ الاتحاد الاشتراكي 18 - 08 – 2009
https://www.maghress.com/alittihad/94852
[5] محمد شبعة، عن مفهوم اللوحة وعن اللغة التشكيلية، مقال نشر بمناسبة معرض محمد شبعة، محمد الملیحي، وفرید لكاھیة بمسرح محمد الخامس بالرباط، ینایر 9661 – جريدة العلم بتاريخ 11 ینایر 1966.
[6] محمد شبعة، "مرحلتان من التشكيل المغربي"، مجلة أقواس الكرمل فلسطين، العدد ،12 ابريل 1984، ص218.
[7] Toni Maraini: Écrits sur l’art, « 19 peintres du Maroc. Aperçu historique », Le Fennec, Casablanca 2014, p. 105.
[8] عبد الكبير الخطيبي، الفن العربي المعاصر: مقدمات، ترجمة فريد الزاهي، منشورات عكاظ، 2003. ص. 13
[9] Khalil M’rabet. Peinture et identité l’expérience marocaine, L’Harmatan, Paris, 1987, p. 23
بنيس/ نفس المرجع ص. 42[10]
بنيس/ نفس المرجع. [11]
29 يناير . 0 دقيقة قراءة