17 فبراير . 7 دقائق قراءة . 1658
سلوى صالح
أثبتت المرأة السورية حضورها في المجالات الثقافية كافة ، وتميزت بإبداعها واهتمامها بالفنون والآداب إضافة لدورها التقليدي في الأسرة وتربية الأجيال ، وليس هذا غريبا عليها فهي حفيدة عشتار وجوليا دومنا وزنوبيا والخنساء ،وهذا مايدفعني كصحفية أعمل في الشأن الثقافي الى إلقاء الضوء على نماذج لسيدات سوريات مبدعات كانت لهن بصمة مؤثرة في المجتمع السوري، وبالتالي ارتأيت تعريف قراء "مرداد" بهن والاطلاع على تجاربهن تباعا :
نتحدث اليوم عن "اقبال قارصلي" التي استطاعت أن تكون احدى رائدات الفن التشكيلي السوري في زمن كان امتهان الفنون صعبا على الرجال ، فكيف بالنسبة لامرأة تعيش في بيئة شعبية منتصف القرن الماضي ، حتى أنها فتحت الطريق أمام المرأة السورية للدخول الى عالم الفن التشكيلي.
"امرأة من كريستال" ..تسمية أطلقها النقاد والمهتمون بالفن التشكيلي على اقبال ناجي قارصلي المولودة في دمشق 1925 ، كما أطلقت عليها الكاتبة السورية "اعتدال رافع" تسمية امرأة الورد الجوري ،ووصفتها قائلة : مبدعة ، أصيلة ، شفافة وجميلة تشبه الزهور التي كانت مغرمة برسمها وتجسيدها ، عندما تنظر الى زهورها تجبرك ألوانها الذبيحة أن تشم زخم روائحها ، كأنها هي امرأة الربيع والعطر والمحبة .
ومما كتبته الفنانة اقبال في مذكراتها : ان مايربط الانسان بالفن هو تلك الحاجة للتعبير الابداعي والتي يتفرد بها الانسان عن كل الكائنات الحية ، فالفن أداة للتعبير عن العواطف والمشاعر الانسانية ، والفنان الحقيقي يرى أن كل واقع معاش له ارتباط بالفن وكل مافي الفن له ارتباط وثيق بالحياة .
في طفولتها تنقلت اقبال بين دُمّر والزبداني وغوطة دمشق فاختزنت ذاكرتها الفنية صور الطبيعة والجمال . تزوجت في الخامسة عشرة من عمرها من رجل يكبرها بثلاثين عاما وعاشا في مدينة تدمر وسط سورية حيث التاريخ والتراث ، وشاءت الأقدار أن يقيما في بيت كان يسكنه فنان تشكيلي فرنسي ترك قبل رحيله رسوماته على الجدران ، إضافة الى عدد كبير من اللوحات له ولعدد من الفنانين الأوروبيين مما أغنى ذائقتها الفنية.
لم يمنعها عمرها القصير(44 عاما) من رسم حوالي 750 لوحة موزعة داخل سورية كمقتنيات شخصية ولوحات تزين المتحف الوطني بدمشق وجدران وزارة الثقافة .. وموزعة كذلك خارج سورية من لبنان الى مصر وروسيا وألمانيا وأميركا وكندا واستراليا وغيرها من دول العالم ، كما شاركت في المعارض الجماعية المحلية والدولية والعالمية ونالت العديد من الجوائز.
في عام 1964 أقامت معرضها الفردي الأول في صالة الفن الحديث بدمشق لتكون بذلك أول تشكيلية سورية تقيم معرضا فرديا . بعد ذلك صارت تعرض لوحاتها خلال السنوات الست الأخيرة من حياتها في غاليري "ون" ببيروت الذي سوّق أعمالها وأوصلها الى العالمية.
لم تتوقف معارضها بعد رحيلها بل أقيمت عدة معارض لأعمالها في دمشق إحياء لذكرى فنانة مبدعة أضيف اسمها بجدارة إلى قائمة رواد الفن التشكيلي العربي فكانت علما من أعلامه.
الناقد التشكيلي الفنان "طارق الشريف" يرى أن اقبال أعطت الكثير في ظروف كانت صعبة للغاية ، فالحركة الفنية في سورية كانت في بداياتها وبالتالي علينا أن ندرك صعوبة الانتساب الى معهد أو مدرسة فنية ، وكذلك صعوبة دراسة الفن دراسة أكاديمية في ذلك الوقت . تستحق اقبال كل التقدير لجرأتها في تحدي المصاعب والعقبات .
يقول ابنها المخرج وكاتب السيناريو "محمد قارصلي" الذي توفي أواخر 2019 ان أمه كانت (تعمل باستمرار على تطوير أدواتها الفنية والتقنية في محاولة لامتلاك كل مفردات فنها .. كانت تقرأ كثيرا وتشاهد كل مايعرض من أفلام ومسرحيات ، كان الكتاب لايفارقها والصحيفة طقسها اليومي ، وكانت ترسم بإحساس بالمسؤولية الوطنية والسياسية والاجتماعية ..أذكرها عائدة من حملة التبرع للمقاومة الشعبية ، أذكرها متطوعة لعلاج جرحى الحرب ، أذكرها تجمع المساعدات للنازحين .. وعائدة من دروس محو الأمية ، أذكرها وقد تجمعت الفتيات حولها لتعلمهن الخياطة والتفصيل والتطريز والفنون التطبيقية ، علمتني أمي إقبال أن أحب كل مايبدعه الانسان وعلمتني أن أرى ماوراء هذا الابداع وبهذا علمتني حب وطن قادر عل إنجاب امرأة كإقبال).
التشكيلي السوري "غازي الخالدي" يقول في كتاب صدر عنها بعد وفاتها أن اللوحة عندها هي محاولات لتطريز الطبيعة ، وأهم ماكانت تمتاز به من الناحية التشكيلية هو وحدة الاسلوب في جميع أعمالها إذ حافظت بإصرار على المفهوم الواقعي الطبيعي ، فحبها للطبيعة جعلها تهتم بجميع التفاصيل التي تمنحها هذه الطبيعة للأرض والشجر والسماء والماء والانسان ، وهذه التفاصيل أعطت لأعمالها صفة التقريرية الفوتوغرافية، وإن كانت تحاول في رسمها للأشخاص أن تتحرر من هذه التقريرية.
ويقول التشكيلي "فاتح المدرس" في الكتاب ذاته أن قيمة هذه السيدة السورية العظيمة تكمن في الطاقة الهامة التي تتمتع بها المرأة السورية المثقفة في مجتمع حصل على استقلاله في أواسط الخمسينات بعد ركود دام قرونا ، الفنانة إقبال قارصلي كانت إحدى النساء القلائل في سورية المستقلة حديثا آنذاك التي ترسم كواجب ثقافي لبناء غد أفضل ، كانت تشعر بهذه المسؤولية الحضارية .
تحت عنوان فنانة من دمشق كتبت مجلة "الجيل" عام 1958 : الفن شيء هام في حياة الفنانة اقبال قارصلي أشعرها بوجودها وإنسانيتها .. يدها الناعمة التي تمسك بفرشاة الرسم بعد منتصف الليل هي اليد ذاتها التي تنظف البيت صباحا وتمسك ابرة التطريز أو تجلس خلف ماكينة الخياطة مساء.
وفي عام 1962 كتبت صحيفة "صوت العرب" بعنوان كبير : " اقبال قارصلي .. الفنانة التي جعلت من بيتها متحفا صغيرا وجعلت أولادها نماذجها" ، من مشاهدة لوحاتها يمكن للناقد أن يحكم منذ النظرة الأولى على الروح الشاعرية التي تتمتع بها الفنانة وعلى مدى أصالتها.
ابنها الثاني "وليد قارصلي" كانت الموسيقا تغريه في طفولته، فكان يعزف على آلة الأكورديون والساكسفون، بينما كانت والدته الفنانة إقبال ترسم لوحاتها وهي تستمع إليه، ولم يكن يدري في يوم من الأيام أنه سيفعل ما كانت تفعله والدته بعد تعرضه لحادث أليم أصيب جراءه بشلل نصفي أقعده عن الحركة مدى الحياة، جعله يتجه إلى الرسم بيده الوحيدة التي ترجمت حبَّه لدمشق في معظم لوحاته، فرسمها كما لم يرسمها أحد قبله.
في الليلة الأخيرة من حياتها نظرت إقبال الى عدة لوحات أمامها نظرة عميقة متفحصة وقالت : في الغد عليّ أن أعمل كثيرا ، ولكن القدر لم يمهلها ، ففي فجر 12 أيار 1969 توقف قلبها ولكن ألوانها بقيت تنبض ، تلك الألوان التي كانت سببا في مرضها الناتج عن التسمم المزمن بالرصاص المتواجد في الألوان الزيتية التي تسمم الأعصاب وصولا الى الدماغ .
21 فبراير . 7 دقائق قراءة
25 أغسطس . 2 دقيقة قراءة