06 مارس . 7 دقائق قراءة . 812
كًشف فريق بحث جزائري -أجنبي مؤخرًا عن عثوره على آثار مهمة في موقع عين بوشريط، وتتمثل في العثور على أقدم أدوات حجرية وبقايا عظام حيوانية تحمل آثار القطع والجزارة يعود تاريخها إلى 2.4 مليون سنة، وهو أقدم ما عثر عليه حتى الآن من آثار لحياة الانسان في شمال إفريقيا. وقد نشرت هذه الدراسة في المجلة الأمريكية المشهورة "علوم".
تقع عين بوشريط في بلدية القلتة الزرقاء دائرة العلمة ولاية سطيف شرق الجزائر، وتعتبر هذه المنطقة ككل منطقة أثرية بامتياز، فغير بعيد عن عين بوشريط يوجد موقع عين لحنش الذي عُثر فيه سابقًا على أقدم آثار للإنسان في شمال إفريقيا (تعود إلى 1.8 م. س) وكذا موقع الخربة وهو الآخر يضم آثارًا تعود لفترة ما قبل التاريخ.
وقد أصبح موقع عين بوشريط بفضل هذا الاكتشاف يصنف كواحد من أقدم المواقع الأثرية في العالم، والتي تؤرخ للبدايات الأولى لحياة الإنسان. ويأتي في المرتبة الثانية زمنيا بعد موقع غونا بإثيوبيا الذي تعود آثاره إلى 2.6 مليون سنة، متجاوزًا بذلك عدة مواقع جزائرية وإفريقية، كما أنه يعدّ من المواقع النادرة التي عثر فيها على آثار الجزارة سواء في إفريقيا أو في غيرها من بقاع العالم.
جاءت هذه الاكتشافات في إطار مشروع بحث جزائري – أجنبي بالاشتراك مع العديد من المؤسسات البحثية تحت إشراف البروفيسور محمد سحنوني وذلك بعد ما يزيد عن 25 سنة من البحث والتنقيب في موقع عين بوشريط والمواقع القريبة منه، وتم العثور على مجموعة من الأدوات الحجرية وبقايا عظمية لحيوانات تعتبر منقرضة حاليا. وباستخدام تقنية الرنين المغناطيسي وغيرها من التقنيات الحديثة تمكن المختصون من التوصل لمعرفة عمر هذه المستحثات والذي قدر بـ 2.4 مليون سنة في حين قدر بعضها بـ 1.9 مليون سنة.
ويوضح المختصون أن هذه الأدوات ذات رؤوس حادة على شكل سكاكين يبدو أنها كانت تستخدم في تقطيع اللّحوم، ويؤكد هؤلاء أن هذه الأدوات تشبه في شكلها وطريقة صنعها تلك التي عثر عليها في شرق إفريقيا مما جعلهم يجزمون بأن الإنسان القديم تنقل في أنحاء إفريقيا من شرقها نحو شمالها منذ زمن مبكر جدًا. وجاب مختلف المناطق من بينها موقع عين بوشريط بالجزائر.
أما البقايا العظمية فتعود إلى عدة أنواع من الحيوانات عاشت بالمنطقة في ذلك الزمن البعيد وانقرضت مثل: الفيلة المنقرضة، والأحصنة، وفرس النهر، ووحيد القرن، والضبع، والضب، والتمساح، والزرافة، والغزال، وتعيش مثل هذه الحيوانات في بيئة السافانا ذات المناخ المداري حيث الأمطار ودرجة الحرارة مرتفعة نسبيا طوال السنة وهذا ما يعطينا صورة عن المناخ السائد في تلك المناطق آنذاك، بالإضافة إلى أن تواجد التماسيح وفرس النهر يشير إلى توفر نقاط مائية دائمة هناك.
لكن أهمية هذه البقايا لا تكمن فقط في عمرها الضارب في القدم وإنما فيما وجده الباحثون من آثار تقطيع وجزارة على بعض العظام خاصة الأحصنة والأضب، مما يعني أن الإنسان الذي عاش هناك كان يعمد إلى تقطيع لحوم الحيوانات قبل تناولها باستخدام أدوات قطع صنعها خصيصًا لذلك.
والأكثر من هذا وذاك هو عثور المنقبون في تحليلهم لبعض البقايا العظمية على آثار للدق والطرق فيما يعني أن الانسان قام بطرق العظام لاستخراج النخاع الشوكي الذي بداخلها بغية تناوله.
هذا في حين أنه لم يتم العثور على أية بقايا أو آثار بشرية ولهذا لم يتمكن الباحثون من التعرف على سلالة الإنسان الذي عاش هناك.
إقرأ أيضا: ضريح ميخائيل نعيمه في الشخروب
إن هذا الاكتشاف غيّر من فهمنا لتاريخ الإنسان القديم وأماكن استقراره الأولى ومن اعتقاد العلماء المبني على دراسات سابقة بأن منطقة شرق إفريقيا الغنية بالمواقع الأثرية التي تعود إلى أزمنة سحيقة تعتبر مهدًا للإنسانية، فقد أثبتت اكتشافات موقع عين بوشريط أن الإنسان استقر منذ ما يزيد عن مليوني سنة في شمال إفريقيا، وهو لا يبتعد كثيرًا في الفترة الزمنية عن موقع غونا، كما أن التشابه الكبير بين الأدوات الحجرية التي عثر عليها في كلا الموقعين قد يدعو لبناء الكثير من الافتراضات والطروحات حول هجرة الانسان القديم التي يبدو أنها بدأت منذ فترات مبكرة.
وهكذا أثبت هذا الاكتشاف أن أرض الجزائر تعتبر مهدًا آخر للبشرية وأن استيطان أسلافنا منذ فجر الإنسانية لم يكن في شرق إفريقيا وحسب كما كان مشاعًا وإنما إفريقيا كلها تعتبر مهدًا للبشرية على حد تعبير البروفيسور محمد سحنوني.
إن هذا الاكتشاف يمدنا بمعلومات تمكننا من بناء صورة واضحة لحياة الإنسان آنذاك، حيث يظهر من خلال الأدوات الحجرية التي عثر عليها أن الإنسان قد بلغ تطورًا ملحوظًا في نمط عيشه منذ وقت مبكر جدًا، إذ تمكن من صنع أدوات حجرية متنوعة ومن أنواع مختلفة من الحجارة (الصوان، والصخور الجيرية)كان يستخدمها في حياته اليومية للحصول على الغذاء أو الدفاع عن النفس وقد تكون استخدمت كذلك لأغراض أخرى لم تكشف عنها الأبحاث بعد.
فكان يقطع اللّحوم باستخدام هذه الأدوات ودق العظام لاستخراج النخاع الشوكي واستهلاكه وهذا عكس ما كان متصورًا من أنه ظل يعتمد على جمع الثمار ومخلفات الحيوانات التي ربما كان يعجز عن مواجهتها، بل أنه كان ينافسها في الحصول على الغذاء.
كما أنه ومن جهة أخرى تبين هذه الاكتشافات الحديثة مدى تأقلم الانسان مع بيته وقدرته على مواجهة أهوال الطبيعة.
وهكذا قدم لنا هذا الاكتشاف معلومات ثرية ومهمة مكنتنا من التعرف أكثر على تاريخ المنطقة وكشف مكنوناتها الأثرية التي تضاف إلى الرصيد التراثي الجزائري. أما على المستوى العالمي فقد أثبت أن التواجد البشري في شمال إفريقيا أقدم بكثير مما كان معتقدًا ويعتبر إضافة مهمة لتاريخ الإنسان ككل إذ أن هذا الاكتشاف يصب في تاريخ البشرية جمعاء وبدايات استقرار الإنسان وطرق عيشه البدائية الأولى، وينتظر أن يكشف هذا الموقع عن خبايا أخرى تغير من نظرتنا للإنسان القديم وتطورات حياته وأماكن استقراره.
عبر مرداد تحقيق وتحرير خليصة داوود
12 فبراير . 7 دقائق قراءة