ضريح ميخائيل نعيمه في الشخروب، رحلة إلى الذّات الأوسع

01 يناير  .   5 دقائق قراءة  .    2480

ميخائيل نعيمه، ولد سنة 1889 وتوفي سنة 1988

هذا ما تشير إليه هذه الصّخرة الترحيبية إلى ضريح ميخائيل نعيمه في أرضه الشّخروب في سفح جبل صنّين.

هذا الطريق يقود الزائر إلى الضّريح الذي هو بوّابة نحو عالم ميخائيل نعيمه الفكري والرّوحي، وربّما بوّابة قد تقود الزّائر إلى ذاته، أو إلى ذاته العليا المنقوشة في ذاكرة الحياة.

يؤدّي الطّريق إلى التمثال الّذي يجسّد رأس ميخائيل نعيمه وأكتافه، وهو تمثال بارتفاع 3.4 أمتار، وبعمق مترين ونصف، وبعرض ثلاثة أمتار ضمن العرض العام الّذي يبلغ 7 أمتار. وبجانب التمثال باب يرقد خلفه جسد المفكر. نُحت عمل الضّريح عام 1999 ونفذه النحّاتون الأخوة عسّاف الثلاث: عسّاف عسّاف، ومنصور عسّاف، وعارف عسّاف.

صمّم مشروع ضريح ميخائيل نعيمه، وموّله بالكامل د. نديم نعيمه. فقد ابتدأ تنفيذ المشروع في الأوّل من أيّار عام 1999. في ذلك اليوم، انتقل الإخوة عسّاف إلى منزل الأجداد في الشّخروب، والّذي كان قد رممه ميخائيل نعيمه في عام 1940، وظلّوا هناك حتى تاريخ السّابع من أيلول 1999، يوم اكتمال تنفيذ وبناء الضريح.

وفي تاريخ التّاسع من أيلول 1999، تم الافتتاح الرّسمي للضريح بحضور وزير الثّقافة آنذاك، الأستاذ ميشيل سماحة، بالإضافة إلى حشد من الشّخصيات العامّة والثّقافية، والفنّية، والاجتماعية، وبتغطية إعلاميّة شاملة.

استقى الأخوة عسّاف صورة تمثال ميخائيل نعيمه من صورة غلاف كتاب الدكتور نديم نعيمه طريق الذات الأكبر (طريق الذات إلى الذات الأعظم)، وهو كتابٌ يوثّق حياة ميخائيل نعيمه، من ساعة ولادته حتّى العام 1978. فكأن نديم نعيمه يحفظ فلسفة عمّه في سجلات شخروب الطبيعية، مخلّداً الأرض التي أنبتت نعيمه وأغوار فكره وأبعاده. نديم نجيب نعيمه، إبن أخ ميخائيل نعيمه وأستاذ في الفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، قد عبرَ عن فلسفته الخاصة بالمحبّة، وبالرابط الإنسانيّ مع عمه ميخائيل من خلال هذا العمل الفنّي الضخم، المتمثل بتحويل صخرة شخروب المهيبة إلى رأس ميخائيل نعيمه المائل قليلاً، تسنده يده اليسرى، وهو يتأمل بسكون وسكينة في الحياة، داخل وخارج حدودها المرئيّة.

تقوم فلسفة ميخائيل نعيمه على مبدأ السموّ الروحي، وعلى أن الإنسان أوسع في مكنونه وأبعد في مقدرته من محدوديات الأعباء الدنيويّة التي تثقل كاهله. فمهّمات الإنسان هي أن ينصهر في النّور الأحد، والذي هو مصدر كلّ أشكال النّور والحياة.

لقد مهّدَ ميخائيل نعيمه الطريق لابن أخيه نديم نجيب نعيمه لـ"ذات أوسع"، ذاتٌ تجاوزت المنظور الزمنيّ دائم التغيير.

لذلك، حان الوقت لنديم نعيمه ليمهّد الطريق لزوّار ضريح ميخائيل نعيمه للسعي وراء "ذات أوسع".

يمشي الزوار في الطريق الذي يفضي إلى البهو الأرحب، حيث يوجد التمثال المنحوت والباب الذي تُحفظ خلفه رفات ميخائيل نعيمه. وفي ذلك الفضاء الأوسع، هنالك علاقة تكاملية وثيقة مميّزة بين مفاهيم ميخائيل عن الله والخلق والجمال، وبين الطبيعة والكمال المحيطين به. فتنضح هذه العلاقة أثيراً مميزاً من السّلام والانسجام.

ونظراً لطبيعة علاقة التفاعل الروحيّ اللصيق بين ميخائيل نعيمه والخلق والخالق، اختار نديم نعيمه هذه السطور التأبينية لتُنقش على باب اللحد، وهي مقتبسة من كتاب عمه ميخائيل "نجوى الغروب" الذي نُشر عام 1973 وقد شارفت شمس الأديب على المغيب وهو في الثمانينات من عمره، فيسبّح ربه ويناجيه:

"طفلك أنا يا ربي

وهذه الأرض

البديعة الكريمة الحنون

التي وضعتني في حضنها

ليست سوى المهد

أدرج منه إليك"

تُرك الباب موارباً لأنه حان الوقت لميخائيل نعيمه ليغادر هذه الدنيا إلى المقطع الآخر من الوجود. فقد سبقه كثيرون، وكثيرون أُخُر سيتبعونه. فهنالك حركة مستمرة من الدخول والخروج من وإلى هذه الحياة، والعكس صحيح، فازدحام المارّين أدى إلى تآكل عتبة الباب.

آمن ميخائيل نعيمه بفكرة تناسخ الأرواح، التي تملك التفسير لوجود مستويات مختلفة من الوعي. حيث أنّ أرواح البعض تميل لأن تكون بمجملها حيوانيّة، بينما تميل أرواح أخرى نحو الإنسانيّة الصرفة. فقد ربط نعيمه هذه الحقيقة بعدد الحيوات التي كانت قد اختبرتها الروح. فكلما ازداد عدد الحيوات المعاشة، كلما تنقّت الروح وتطهّرت، وكلما تعمّقت درجات الوعي، واتسعت لذات.

بعبارة أخرى، ووفقاً لفكر ميخائيل نعيمه، يمكن محاكاة حقائق الحياة بهرم; في القاعدة حيث يقبع غالب البشر، أولئك الذين تحركهم غرائزهم، ومخاوفهم الزمنيّة. وكلما ارتقى البشر صعوداً على الهرم كلما ازدادت صعوبة وتحدّيات عملية الارتقاء، وكلما انخفض عدد مرافقيهم، حتى تبلغ نخبة قليلة للقمة حيث يوجد الإله الأحد في ذروة الهرم. وفيما يرتقي البشر درجات الهرم يكتسبون رؤية أشمل، كونهم ينظرون من منظور أسمى وأعلى، فيصبحون قادرين على كشف مايعجز من هم في القاعدة عن رؤيته. وكلما ارتفع المستوى، اتضحت الرؤية واتسعت النفس أكثر.

وعلى عتبة الباب المتآكل، أودع ميخائيل نعيمه كتابه وقلمه وغصن من شجر البلوط. فلن يحتاج هذه الأشياء بعد عبوره للحياة التالية. فيرقد غصن البلّوط ذاك الذي اقتُبس من شخروب أرض البلوط، يتمدد هامدأ في سكون كما ينام دور القلم والكتاب.

وقد خُطّت هذه السطور على الكتاب:

"تلك الوليمة يا قلمي

تنتهي عند أعتابها مهمتك"

لقد انتهت الآن مهمّة القلم مع انقضاء وليمة الحياة...

لقد حوّل نديم نعيمه زيارة ضريح ميخائيل نعيمة في الشخروب في سفوح صنّين إلى تجربة فريدة من نوعها، حيث يتحوّل الزائر إلى قلم يكتب تفاعلاته الخاصّة في عالم ميخائيل نعيمه، العالم الذي هو اندماج بين العالم الماديّ والروحيّ، الرحلة الحقيقية إلى الذات الأوسع.

كما كتب ميخائيل نعيمة ذات مرة: "إن كنت مرة، كنت أزلاً"


ترجمة زينة معلوف عبر منصةمرداد

  2
  12
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال