أنا كاللوح المحفوظ من أرض السواد

05 مارس  .   5 دقائق قراءة  .    907

Photo de Alan Cabello provenant de Pexels

 محمد الكامل بن زيد*

بائع الدقيق ظل ينظر إلى رجال الأمن الواقفين على عتبة دكانه يغلظ الأيمان للحشود أمامه أنَّ من لا يحترم دوره لن يأخذ شيئًا!

  • هذا يوم أشبه بيوم الحشر !

قالها شيخ بعد أن أنهى لعبة الكلمات المتقاطعة، ثمَّ أخفى الجريدة في جيب معطفه الرمادي، رائحة جسده كرائحة الإسفلت المترهّل من أثر وهج الشمس الحارقة..

يقال - والعهدة على الراوي- إنَّه جاس أرجاء الكون بحثًا عن طيف مجهول الهوية، وحين عاد كان الطيف قد سكن الأجداث وأبى أن يلتقيه.

رجل قصير القامة، أعرج القدمين، أخذ كيسًا واحدًا من الدقيق، ثمَّ عاد متنكّرًا في ثياب أخرى، عساه يأخذ كيسًا آخر، فتفطنت إليه الحشود فكان يومه أشبه بيوم الحشر..

سمعت أحدهم وهو يزيل عن ثيابه بعض حصيّات من أثر السجود يقول: إنَّ هذا العام هو عام السواد! وأنَّ هاته الأرض هي أرض السواد، وإنَّنا من تبقَّى من أهل أرض السواد..

لم أستسغ ما قاله..

جعل آهات ملتهبة تتقد في أعماقي، وتصيبني بغثيان، ودوار عظيم:

  • هو يقول الحقيقة.

ولم أكن وحدي، بل إنَّ الكثير من أهل الحيّ استغشوا ثيابهم مما قاله.. منهم من تأفَّف من دون أن يرفع بصره، ومنهم من سحب من سيجارته أنفاسًا في توتر جليّ، ومنهم من آثر الغياب بين دفتي ألبوم صوره القديمة.

أنا لا أعرف الرجل، هي طبلة أذني تحسَّست كلماته بتوجسّ:

  • هل ألقى علينا شعرًا أم ادَّعى النبوَّة؟!

شاب ثلاثيني لم يحلق لحيته.. يرتدي قبعة تحمل شعار "نايك" كان يعبث بهاتفه النقال؛ أومأ لنا:

  • ليس لنا إلا هذا.. فهو الملاذ.

قال صاحبه بالجنب وهو يلفظ من الجزء الأسفل من شفاهه المدوّرة والمنخفضة إلى حدّ ما، ما تبقى من "السعوط ":

  • لكنه كل يوم يخبرنا بفجيعة.

نعم هي الفجيعة.. الكثير من الذين أعرفهم رحلوا عنا من دون إشعار.. حتى هواتفهم حين ترنّ لا أسمع في أذني سوى صدى وجع  إلى البؤس: 

  • (إنّ خط مراسلكم لم يعد في الخدمة..)

أخذت دراجتي الهوائيَّة عابرًا شوارع المدينة الضيّقة.. نعم بعد عشرين عامًا عادت لتضيق بنا، فلم يعد مسموحًا لنا أن نركب السيًّارات الجماعيَّة ولا الحافلات.. وفرضت علينا مسافات التباعد فرضًا كاملًا غير منقوص، وأصبحت أحاديثنا تحتاج إلى قواميس ترجمة الإشارات..

أصبح كلّ منا يخشى على صاحبته وبنيه.. لا أجزم فهناك أيضًا من يخشى على نفسه منهم.

صبيَّة أرادت المرور أمامي عنوة من دون أن تحترم خط سيرها قالت وهي تعربد:

  • هل ضاع منك شيء؟

لم أشأ أن أردّ عليها واكتفيت بحكّ شعر لحيتي بارتعاش، أوشكت أن أفقد توازني فأقع فوقها..

صرخت في وجهي:

  • لا تلمسني فقد أكون سببًا آخر في ضياعك.

 لم ألمسها بل غلبتني ضحكة عابرة، ردَّدت بعدها بصوت بائس:

  • ضاعت مني أشياء وأشياء.

سيّدة فتحت نافذتها الحديديَّة بقوَّة بعد أن استعصت عليها، ولأنَّني كنت أحمل أكياس أوراق الكاليتوس ظنّت أنّي أنا من أحرقها مسبّبا ضبابًا كثيفًا في الشارع.. وليس جار جارها بالجنب: 

  • أيَّها المعتوه كدت تقتلنا ببخارك..

ولأنَّها كانت سليطة اللسان معي، صرخت فيها:

  • هي أرض السواد وأنا ما تبقَّى منكم..

وقبل أن ألج إلى ناصية حارتنا رأيت سيَّارة الإسعاف تسابق الريح حتى لا تلحقها الأجساد المنهكة ومن خلفها آلة الحفر..

منذ صغري وأنا أخاف آلة الحفر هذه،  فهي أشبه بالعقرب..

  • لا حول ولا قوَّة إلا بالله ..إنّا لله وإنّا إليه راجعون..

صبيّ كان يرتدي قميص "كريستيانو رونالدو" ينطط الكرة بقدمه اليمنى.. سألته بصوت مرهق: 

  • من مات؟

أجابني دون أن يرفع رأسه عن الكرة:

  • لا أدري..

صبي آخر كان ينتظر دوره بشغف:

  • سمعتهم يتحدثون عن ثلاثة أشخاص.. لا.. أربعة.. لا .. لا.. ربَّما خمسة

الصبيّ الأوَّل حين خسر رهانه استشاط غضبًا، ثمَّ توسَّد الإسفلت ونام..

عظم عندي ما رأيت وما سمعت.. أردت أن أبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء.. لا أحد من أهل الحارة بقي في مكانه.. كل أسرع إلى التواري خلف بابه محكمًا إغلاقه.. أسرعت أنا أيضًا إلى بيتي أحكم إغلاق بابي.. بعد أن أوصيت زوجتي أن تحرق أوراق الكاليتوس.

وحين رفعت ولدي الصغير الذي جاءني فرحًا بخطواته الأولى بين يدي، جلست بهدوء وانكسار فوق الأريكة ولم أنتبه كيف انهمرت من أحداقي سيول جارفة..

انتظرتُ طويلًا أن تقول زوجتي شيئًا.. لكنها لم تفعل.

 

* بسكرة/ الجزائر.

  1
  3
 0
مواضيع مشابهة

12 نوفمبر  .  2 دقيقة قراءة

  2
  6
 0

27 فبراير  .  1 دقيقة قراءة

  2
  3
 1
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال