درّاجة الفيلسوف

Nabil Mamlouk

15 مارس  .   7 دقائق قراءة  .    381

Image by Anja#helpinghands #solidarity#stays healthy from Pixabay

تدفعنا ساعات الحجر الطويلة إلى ترك علبنا الاسمنتية...سكان المدينة باتوا يفضلون ممارسة حقهم كجثث طازجة عوضًا على الموت بأنفاس كسولة...لا أذكر اليوم الذي قررتُ الخروج والهروب من البيت متجاهلاً نصائح أمي وتنبيهاتها الروتينية حول ارتداء الكمامة ...منذ اليوم الأول أتعامل مع كورونا بحياد تام معتقدًا أن الله لن يصطفيني للخضوع لامتحانه.
كان لا بدّ لي- بعد تمشيط شارع الميناء ومراقبة البحر وتفاصيله وأحواله...ومشافهة الموج لطيور ل أعرف نوعها...وانتشار الغيوم كأورام على خد السماء - أن أختار ارتشاف فنجان القهوة التي تفاهمت معه على ألّا أدمنه وألّا يلاحقني...أمنحه ذائقتي وقتما أشاء ويقدم نفسه لي كيفما يشاء طيّبًا كأيام لن تعود، أو مرّا كحاضر لا نتحرر منه بسلاسة أو بارد كمستقبلٍ لا نحسن نحته، نظمه، رسمه أو عزفه… اخترتُ "البلد" المقهى الذي يشبهني ، بالرغم من أن أغلب مرتاديه من الشباب  يحملون بدل الكتاب  علبة سيدرز ... وبدل الجلوس للمطالعة على انفراد تحت أشجار أنسى دائما أن أسأل رئيس البلدية لم يتم إزالتها رغم أنها تجعلنا نتنفس الحزن بنقاء أكثر...أختار طاولتي بنفسي على رصيف تحت شجرة أدير ظهري للبحر وصوته...وأقرأ بكتابي الحالي...عادة باتت أسبوعيًا تتكرر ...
سألت نفسي كلما مررتُ أمام المقهى لمَ لم يزر كتاباتي؟ هل تحيات أحد أصحاب المقهى لي بصوته العفوي الصاخب " يا هلا بالجار تفضل تفضل على راسي والله" ؟الا تعد وضعية المقهى الشبيهة بكبد الحيّ فريدة من نوعها؟ وتشتت الطاولات بين الخارج المجبول بصوت السيارات العابرة وحفيف الشجيرات وقهقهات وذبذبات المتحدثين الجالسين في مختلف الزوايا؟ 
والداخل الذي قلد جدار بصورة زعيم سياسي ... وماكينة القهوة العابقة بتفاصيل وأسرار الفناجين البلاستيكية التي تختفي أسرارها لمجرد تعتقها ببخار الماكينة...لا أدري ما ينبغي أن يضاف إلى هذا كله لأكتب...حتى سمعت قهقهات عالية النبرة...تكاد تثير غضبي لا لأني أعدت قراءة الصفحة ثلاث مرات بل لأن السكون الذي اتسم به المقهى يستباح...ثلة من الشباب أظن ثلاثة أو أربعة أشخاص يتناوبون بثمالة تامة "شوووو يا محمدددد...اعملنا شي محاضرة عن جمال باشا هاهاهاهاهاهاها"/ "محمد بدمتك مش كانط فعل ماضي ناقص يا ناقص انت هاهاهاهاهاها" " محمد هلق كل لي بسوريا طوال هيك او شتلتك هربانة من شي متحف حمصي هاهاهاهاها"

اهانة تلو الاهانة، تنمر يلي التنمر ومحمد الطويل النحيل الشاحب يحمل بيدين تنضحان اصرارا "صينية" عليها الفناجين الزجاجية ...محاولا الهرب بخياله ونظراته من معزوفة الذل...كرامة ٥٠٠٠ ل.ل. يوميا وربما أقل...كعادتي لم أتدخل لكني حاولت السيطرة على موجة الغليان في صدري لستُ مؤسس رابطة "طويلي الله" لكن أن تهان على أتفه سبب وتبيع حقك كرامة ٥٠٠٠ ل.ل. هذا ما لم أتوقعه من هذه الحياة...

بعد أسبوع، اخترت الطاولة نفسها كون المكان أكثر صفاء، 
لكن ما عكر مزاجي هذه المرة كان صراخ وعويل وانفعال،

تضارب وحشود اجتمعت على مدخل المقهى وتلاسن، اخترت سريعا مساحتي لمشاهدة ما يحصل تلاسن بين محمد، وتضارب وتبادل شتائم وتهديد "فوق ما انك سوري عم بتضرب يا كلب/ انا بفرجيك السوري شو بيطلع منو يا تنبل/ ليأتي بشكل سريع  وبعد استخدام السكاكين وتشطيب الوجه المتبادل عناصر من قوى الأمن وألقت القبض على الطرفين، انفضت الحشود... وقبل ان أغادر كان لا بد لي من إطلاق تنهيدتين كوني لم اعرف تفاصيل إشكال عرض عائلة كبيرة ربما أو فرد أقلها إلى النزول خط الجوع في بلد باتت الوظيفة فيه من سابع المستحيلات...لفتتني دراجة محطمة يحاول صاحب المقهى المتذمر لملمة حطامها اقتربت منه مستوضحا محاولات إبقاء  الحطام قدر الامكان " جار الله يوفقك تركني بهمي تركني خلص لي صار صار..." قالها بغضب 
قبل أن يعبر سميح ...مستفسرًا بعد سلامه عن شحوب وجهي 
فاجأني ضحكه بعد كل ما قصصته عليه من مأساة 
وقبل ان اقابله بغضب وأغادر قال لي "يعني استخسرو ع الفيلسوف درّاجة "
تعجبتُ وزاد غضبي كون سميح يأخذ الامور في كثير من الاحيان على محمل المزاح او الاستخفاف" خلص سميح بدي فل مش ناقصني سخافة بكفي القرف لي نحنا فيه"

-يا اخي طولي بالك شوي...

-خير

- ما بتعرف انو محمد فيلسوف!!

- ما هو ما رجعنا لورا إلا هيدي المسخرات ع الناس...زلمي فقير ما معو ياكل عم بتتمسخر عليه بعد ما ضاعت حياته هلق
وابصر اذا ما كان مجوز وعندو ولاد كمان
رد سميح بهدوء ممزوج بالحدية " انت لي عم بتتمسخرو لأنك قلت عنو فقير...هيدا اغنى واحد فينا اذا ما معك خبر'

-بيقبض خمس الاف بالنهار وغني...بيل غايتس قلي بعد شوي
زلمي ماكلو التعتير

- لك انت المعتر انت انت بتفكيرك ...

-سميح اشرحلي الله يوفقك وما تعللي قلبي

-شايف هيدا الصندوق المسكر لي حد دواليب الدراجة

-اي

-روح افتحو

فتحته واذ تفاجأت لا بل صعقت "كتب لـكانط، أفلاطون ، الوجودية لسارتر ، حكمة الغرب لـرسل"

-شفت مين لـهان التاني ...حبيبي هيدا محمد صح نازح سوري والحرب والدهر عليه وابنو بطل عندو مين يعيلو حكم حبستو طويلة...

-وضحلي اكتر لمين هالكتب

وتنهد سميح قائلا " اعتقدت أن الصورة صارت أوضح لديك..كل ما في الامر ان من تعارك مع محمد كان قد اختار السبب المليون لاستفزازه ونجح خاصة وان المعتدي لم ينجح ابدا في البكالوريا حتى سنه الواحد والعشرين اي سنه الحالي...

- وما دخل محمد

-المفارقة أن محمد ذات ليلة قصدني بعدما استقطبه نقاشنا حول الماديين ونظريتهم وشارك فيه كونه استاذ فلسفة هارب من الحرب لاجئا في احدى صفوف الحياة...قائلا لي ان فلان "اي الشخص المعتدي اخيرًا" واترابه مذ عرضت مساعدته لاجتياز البكالوريا واصلا معه لمرحلة تدريسه في المقهى دون مقابل ...قد استشاط واترابه سخرية وغضبا وازد حقدهم...وتهديدهم بتكسير الدراجة التي تحمل صندوق عدوهم الوحيد المخيف"الكتب"

وكون نطقي لم يسعفني على التعبير تابع سميح قائلا

"هددوه كثيرا بتكسيرها وكان يقول لي "بيطلع شي من امرن"لم يتوقع ان تنهار دراجته ويبقى الصندوق هكذا مستقلا بحد ذاته ضحية أقدام  عابرة...

وفجأة سمعنا صوتا يشبه تدفق المياه...واذ بكلب صاحب المقهى  يتبول على هذه الكتب...حاولت أن أوظف غضبي في صاحب الكلب لكن سميح ردعني قائلا :" يا صاحبي امشي نصلي بالمسجد... شعب مستخصر على الفيلسوف دراجة"...

 

*صور في ١٠ آذار ٢٠٢١

  3
  7
 1
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
عادل خالد الديري
15 مارس
شكرا نبيل، هل هذه القصة حقيقية؟
  0
  0