03 فبراير . 5 دقائق قراءة . 723
كلنا سمع أو قرأ بشكل أو بآخر أن المصريين وسكان بلاد الشام والرافدين ومعهم عموم شبه الجزيرة العربية كانوا وثنيين لمراحل مديدة من تاريخنا المغرق في القدم. ولعلّ البعض منا تساءل عمّا كان يفكر به ذاك العابد الوثني وهو يقدم فروض الطاعة لمنحوتة إله مصنوعة بيد بشرية، أو على أي أساس كان قادة عسكريون من هذه المنطقة يتخذون قرارات استراتيجية وفقاً لنصيحة العرّافات. وإن مرَّ هذا أو ذاك من دون تفحص فلا بد وأن نتوقف عند معنى تقديمهم للعطايا والقرابين والذبائح إلى المعبد تقرباً من الآلهة وخوفاً من غضبها. هل فعلاً كان ممارسو هذه الطقوس يعتقدون أن الحياة ستدبُّ في هذه الأصنامفتهرع لتنفيذ طلباتهم الدنيوية؟ أو الهمس لهم بهمسات سريّة بشكل انحناءة في غمامة أو رجفة في جناح طير ينبئان بما سيحدث في المستقبل؟
ثم من هم أولئك المدعوون بالجن؟ من أين جاؤواإلى المخزون التراثي العربي وما طبيعتهم، وما دورهم، وما علاقتهم بحياة الوثنيين اليومية؟ هل كانوا يعتقدون بأنهم أشرار، أم أخيار؟ وماذا عن الجن القرين وعلاقته بتاريخ الميلاد والأبراج الفلكية؟
للأسف، كل ما نعرفه عن ديانة أجدادنا هو الظاهر الركيك وكأنهم كانوا ساذجي الفكر سطحيي المعتقد، تقوم علاقتهم مع آلهتهم على أساس منفعة شخصية متبادلة ذات طبيعة بشرية.
هذا الكتاب الذي حظي بقدسية في زمن كتابته من تأليف الفيلسوف الحموي السوري الأفلاطوني والفيثاغورثي المحدث (يمبليخوس الخلقيسي)،سيبدد لديك كل ما هو خاطئ في هذه المفاهيم المجحفة، وسيأخذ بيدك في جولة معمّقة تتفحص خلالها معاني هذه المفاهيم واحدة تلو الأخرى، ليس من منظور عصرنا هذا، بل ستراها بعيونالفيلسوف (يمبليخوس) أهم منظّريها.
عندما ستنتهي من قراءة ترجمة هذا الحوار بين الفيلسوفين المتحاورين في هذا الكتاب، ستتكون لديك فكرة واضحة ومعمقة عما كان يؤمن به الوثنيون المصريون والسوريون والكلدان من القرن الثالث للميلاد() حتى تلاشيهم تحت وطأة انتشار المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية. فسيتبدى لك هذا الإيمان بدءاً من عملية خلق الكون من إله واحد أحد، ومروراً بمراحل الخلق التالية، ثم تسلسل رتب الكيانات من آلهة وملائكة وجن وأبطال أسطوريين وأجرام فلكية وانتهاءًبالبشر والحيوانات والعناصر الطبيعية الأربعة.
كما ستتعرف إلى طقوس استحضار هذه الكيانات من الآلهة ووصولاً إلى الجن، وكيفية مخاطبتها، وظواهر تنزلها ثم سيشرح لنا المؤلف الطرق المعروفة للتنبؤ بالمستقبل وما موقف المعبد من كل منها، ثم ستطّلع على المعنى الحقيقي للقرابين عند كهنتنا القدماء، وأي ذبيحة تُقبل وأيها تُرفض. ولن يبخل عليك المؤلف بتفسير معنى الوجود في الحياة لدى أتباع هذه الديانة القديمة، وما هي الغاية من العيش فيها، وكيف تبلغ ذروة السعادة وفقها.
ولتعلم عزيزي أن هذا الكتاب شديد التبجيل في عصره لم يكن يُتداول بين العوام، بل كان من أعمق الأسرار الكهنوتية، وكان قرُّاؤه من الخواص فقط، أولئك الذين أثبتوا جدارتهم وفق طقوس عبور تتبع الأسلوب الفيثاغورثي، وكاتبنا من أهم رواد الفيثاغورثية المحدثة وله عدة مؤلفات فيها، لكن يبقى هذا العمل بإجماع الباحثين درّة أعماله.
قبل المباشرة بالقراءة:
من واجبي أن ألفت انتباه القارئ إلى أن قراءة هذه الوثيقة التاريخية لن تكون بمثابة نزهة سلسة في عالم الفلسفة والكهنوت، بل هي رحلة جادة للأكاديمي، وتجربة محفوفة بالمفاجآت للقارئ الهاوي، ذلك لأن هذا الكتاب يغص بالرموز والدلالات السيميائية() ذات المعاني متعددة الطبقات. وقد تتشابه النصوص في مقاطع مختلفة فتبدو و كأنها تكرار للمعنى، ولكن العين الخبيرة ستميز تباين التفاصيل فيما بينها وتدرك المعطيات الجديدة في كل مقطع. ولنتذكر معاً بأن الكاتب جهد ليقدم لنا صورة عالية الدقة لمعارفه الكهنوتية وموقفه ممن يتعدون على صحتها، فتوغل في وصف كل بعد من أبعادها بكل أمانة وإخلاص يشوبهما الإسهاب في بضعة مواضع والشخصنة في مواضع أخرى.
وإن هذا الكتاب ليس مما تتناوله من رف مكتبتك لتقرأه من دفة لدفة، بل هو مرجع أزلي لكل ما يحتاجه الأكاديمي أو الهاوي المهتم بهذا الجانب من التاريخ الفلسفي والديني للمنطقة. فاطّلع عليه لتتعرف إلى تراثك القديم، واحتفظ به لتدافع عن إرث أجدادك من سكان بلاد الشام والعراق ومصر وشبه الجزيرة العربية أمام من يهمّش دور هذه المنطقة في تطور الفكر الفلسفي الإنساني، وابتكار العديد من المفاهيم الأساسية للطقوس الكهنوتية.
أهمية الكتاب والكاتب:
يأتي هذا الكتاب إضافة جديدة لسلسة (سورياالهلنستية) والتي كرّسْتُها لتسليط الضوء على عظماء الفكر والأدب السوريين ممن تأثروا بالثقافة الهلنستية الغنية وأثّروا فيها. وقد وقع اختياري على هذه الوثيقة التاريخية بالذات بعد أن اقترح عليَّ ترجمتها الصديق الباحث تيسير خلف، وتبعذلك الكثير من التقصي أدركت بعده ضرورة نقلها إلى العربية، بل وعجبت لغياب أي ترجمة عربية لأي جزء منها بعد انقضاء حوالي 18 قرناً، وذلك رغم أنها غاية في المحورية لجهة فهم الفلسفة الأفلاطونية المحدثة وأثرها في نشوء العقيدة الهرمسية في تلك المرحلة وكل ما تلاها من عقائد وجماعات وأخويات إيزوتيرية()، وتفسير ملابسات طقوسها، ومعاني رموزها، وممارساتها السحرية.
كما تمتلك هذه الوثيقة أهمية إضافية نظراً لأهمية كاتبها (يمبليخوس الخلقيسي) 250م ـحوالي 325م، والذي يعتقد المؤرخ (فوتيوس) بأنه ينتمي إلى سلالة (جرم شمس) الحمصية()، وهي أسرة عريقة تنتمي إليها الإمبراطورة جوليا دومناومنهم كهنة إله الشمس في روما.
ومن المدهش أن هذا الكتاب هو جدل افتراضي ما بين التلميذ (يمبليخوس الخلقيسي) وأحد معلميه() (بورفيريوس الصوري)()، حيث يفنّد التلميذ آراء الأستاذ وليس العكس. ومردّ ذلك إلى الاختلاف في المنهج بين الاثنين ولو اتفقا في المبدأ على منطلقات الفلسفة الأفلاطونية المحدثة().
وفي حين يتفق (أفلوطين)() و(بورفيريوس الصوري) مع تلميذهما (يمبليخوس الخلقيسي) على أن العقل له مستويان:
- العقل المتجزئ وهو المدرك للمحسوسات الدنيوية.
- والعقل الكلي والذي يتجاوب بشكل فطري مع العقل الخالق الكوني.
وأن الكون له مستويان للكيانات:
- الكيانات الكلية السامية الخالدة،
- والكيانات المتجزئة الدنيوية الفانية.
كما يشتركون بتسلسل الخلق الذي يبدأ بالمسبب الأول الواحد، والذي يليه العقل الإلهي (الديميرج) والذي فاضت منه روح الكون الخالقة ومنها تأتى الخلق بكل مستوياته. كما يتفقون على أنه يجب على الإنسان أن يسعى إلى الارتقاء بروحه لكي تسمو وترتفع في مستواها لتبلغ مرحلة تندمج فيها مع المستوى الأعلى من الكيانات السامية.
إلّا أنهم يختلفون حول التفاصيل وحول منهج الارتقاء الروحي. ففي حين يرى (أفلوطين) أن الحيز العلوي من الروح البشرية يبقى في عالم المـُثل في حين يمتد الحيز الأدنى من الروح البشرية ليختلط بالجسد البشري، فيحمل الحيز الأدنى التوق إلى العودة والالتقاء بحيزه الأعلى، ويتحقق برأيه ذلك من خلال التحريض الحثيث للإنسان لوعيه الأعلى، ويركز (بورفيريوس) على جانب تهذيب الجسد أيضاً من خلال الصوم عن أطعمة معينة. بالمقابل يرتكز (يمبليخوس) إلى عقيدة المصريين الذين يراهم أكثر محافظة على أصول المعرفة الكهنوتية من اليونانيين، حيث يؤمنون بأن الروح البشرية تهبط بكاملها إلى العالم المخلوق عندما تتصل بالجسد، وهذه أول نقطة خلاف مع (أفلوطين). كما يرى(يمبليخوس) أن كلاً من الروح البشرية والعقل البدهي البشري يحملان توقاً نحو الأعلى، فالروح تتوق للارتقاء والتلاقي مع الكيانات الأسمى في عالم لأرواح السامية، والعقل البدهي ينجذب نحو العقل الكوني ويطمح للعودة إليه.
ومن منظور (يمبليخوس) فإن الطريق الوحيدة نحو الخلاص وتحقيق ما يدعوه بـ"ذروة السعادة" هو الطريق الطقسي السيميائي والذي يمتلك بمعتقده القدرة على تطهير الروح وإحداث تكيّف فيها، فتتشابه مع الآلهة، وفي مفهوم الأفلاطونية المحدثة فإن التشابه بين الأمور يسبب تقاربها، فتتقارب روح الإنسان مع الآلهة ثم تتحد معها.
ولا تقتصر أهمية الكتاب على كونه جدلاً هاماً بين تيارين فرعيين في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، بل إن الفكر والإيمان لدى (يمبليخوس) قد أثّرا في العديد من المعتقدات الإيزوتيرية لاحقاً والتي مزجت بينه وبين ما تم العثور عليه من (متون هرمس)() لتخرج بطقوس ومعتقدات وتعاليم وأدبيات معتبرة الانتشار في العصر الراهن.
حيث ترى الباحثة (آنجيلا فوسس)() أن تعاليم (يمبليخوس) هي الأصل لكثير من الممارسات الطقسية لدى سحرة (الماجاي) في عصر النهضة الأوروبية، وتحديداً لدى (مارسيليو فيتشينو) الذي أعاد إحياء الطقوس الهرمسية في القرن الخامس عشر، بل ويمتد أثر (يمبليخوس) وصولاً إلى فكر باحثين في القرن العشرين مثل (جون دي تيرنر)، ويتعداهم إلى العديد من المعتقدات والطقوس الوثنية، وكل ما دخلت فيه الرموز والأصنام والنبوءة والقرابين.
منهجية الترجمة:
أعترف بأن ترجمة هذه الوثيقة كانت أصعب عملية ترجمة خضتها في مسيرتي المعرفية، وقد تطلبت مني سبع سنوات ونيّف تأرجحت خلالها بين العمل الدؤوب المتواصل تارة، واليأس من فهم بعض النصوص تارة، ما حدا بي في بضعة مفاصل من العملية إلى صرف النظر عن الفكرة وقبول الهزيمة أمام تعقيد عوالم فيلسوفنا السوري. وإن عزائي في هذا الأمر مرده لكون أهل الفلسفة في عصر المؤلف ذاته رأوا الصعوبة في أسلوبه، حيث يقول المؤرخ (يونابيوس) في كتابه (تاريخ الفلاسفة والصوفيين): "لم يكن يمبليخوس في كتاباته قادراً على الاستحواذ على القارئ بأسلوب رشيق، فكتاباته تفتقد للسلاسة والجمال والبساطة". لكن توقي لأن تخرج هذه المعارف من صفحات الكتب المفقودة إلى عموم قراء العربية كان دائماً دافعي للاستمرار الحثيث.
بعد أن انتهيت من القراء الأولية للكتاب بصيغة ترجمة (توماس تايلور) والتي ترجمها من اليونانية للإنكليزية عام 1821، أتبعتها بقراءة أخرى أكثر تمعناً حاولت فيها أن أربط بين استعمالات المترجم للمصطلح في مواضع عدة لأستنتج المعنى الأعمق للمصطلح عوضاً عن ترجمته كما هو. مثال على هذه المصطلحات: قدرة الآلهة، قوة الآلهة، طاقة الآلهة وهي مصطلحات قد توحي بالتشابه، ولكنها تحمل معاني مختلفة. بناء على فهمي هذا للكتاب شرعت بترجمة نسخة (توماس تايلور) إلى العربية، الأمر الذي تطلب سنوات من العمل الدؤوب لان السيد تايلور والذي كان أفلاطونياً محدثاً بحد ذاته لم يجتهد برأيي لتقديم مادة ترفق بالقارئ وتراعي تسلسل فهمه، فترك الترجمة الإنكليزية تخوض في جمل طويلة يفقد في نهايتها القارئ فهم الفاعل من المفعول، وهذا الأمر شديد الخطورة خاصة عندما يتعلق الأمر بمادة حساسة ودقيقة التفاصيل كهذه المادة، كما أن ترجمته تعود إلى قرنين مضيا، وللقارئ أن يتخيل كم أن لغته الإنكليزية تختلف عن المتداول حالياً، كما أن مفهوم علامات الترقيم والتحرير كان مختلفاً عما تتوقعه الآن من الكتب المعاصرة.
في نهاية المطاف خرجت بترجمة أولى لم أكن راضياً عنها، لأني أنا بذاتي لم أستطع تكوين فهم منسجم للكتاب الذي أصبح بالعربية الآن عندما قرأته من البداية حتى النهاية. فعمدت إلى الاطلاع على الأعمال المزامنة لهذا الكتاب عَلِّي لعلّي أتمكن من فك رموزه واستيعاب معانيه من خلال فهم أفضل للسياق. فاقتنيت كتاب (التاسوعات) لـ(أفلوطين) وجلت فيه بحثاً عن معان متقاطعة مع الكتاب، كما درست كتاب (يمبليخوس) المدعو بـ(لاهوت الأرقام)، واطلعت على أعمال أخرى لـ(بورفيريوس) حتى وقعت يدي في خضم البحث على ترجمة أخرى للكتاب الذي أحاول ترجمته إلى العربية، وهي نسخة من ترجمة (أليكساندر وايلدر) نقلها من اليونانية أيضاً إلى الإنكليزية عام 1911 من طباعة ونشر دار الميتافيزيقيا الأمريكية، فعكفت على قراءتها ومقارنتها بترجمة (توماس تايلر) لتتضح لي كافة معاني الكتاب جليةً من خلال المنهج المقارن بين الترجمتين. وقد تطابقت الترجمتان من خلال معاني الفقرات، ولكن الاختلافات الجوهرية بينهما كانت في انتقاء المفردات وتقطيع الجمل وترتيبها، واستعمال (وايلدر) الأفضل لعلامات الترقيم والتحرير المعاصر، بالإضافة إلى أسلوب (وايلدر) السلس في بناء الفقرة وفقاً لما فهمه من النص اليوناني، والتي لا مجال لمقارنتها بتعقيد أسلوب (تايلر).
أما بدوري كمترجم، فقد اعتمدت منهجية ترتكز على:
- تقطيع النص إلى مقاطع ذات عناوين موضوعية تسهل على المتصفح إيجاد الفكرة المقصودة، وللأمانة هذه العناوين لم يضعها (يمبليخوس) أبداً، فهي دخيلة على النص والهدف منها هو تيسير عملية البحث والقراءة لمن يطالع الكتاب بالشكل الورقي،
- فهم معنى كل مقطع بعد التحقق منه بالمقارنة بين الترجمتين، ومن ثم اعتماد بناء جملة يحافظ على هذا المعنى لتقديمه للقارئ العربي وكأنه نص عربي أصيل، وليس مجرد نقل حرفي من لغة إلى لغة أخرى،
- توحيد استعمال المصطلحات بين المقاطع المختلفة وذلك لصون الأمانة العلمية، وحفظ المعنى الأصلي المشترك لهذه المصطلحات بين مواضع ورودها
في نهاية المطاف، أتمنى أن أكون قد وُفِّقتُفي نفض غبار القرون عن هذه الوثيقة السرية والمقدسة، وإعادتها إلى أهلها باللغة العربية. وأوصي القرّاء وخاصة الأكاديميين والباحثين بألّايبخلوا عليّ بالتعليقات النقديّة وبآرائهم وملاحظاتهم، وكلي استعداد لمناقشة أسلوب العمل وسبب اختياري لمصطلح دون غيره، فبالنهاية غايتي هي المساهمة ولو بشكل بسيط في بناء محتوى عربي جدّي وأصيل، لعله يكون مداداً ورافداً لأجيال عربية تأتي وتحسن قراءة تاريخها بجميله وذميمه، وتخطو ببلادها نحو مستقبل أكثر إشراقاً من زماننا.
17 أكتوبر . 5 دقائق قراءة