عن الوحدة والغياب

01 يناير  .   10 دقائق قراءة  .    987

Photo by Tijs van Leur on Unsplash

يزيح البابُ أوراقَ الأشجار المنثورة بفعل الريح كلّ صباح
كلّما قرّرتْ أن تفتحَ أضلعَ صدرِها ليتسنّى للشمس الخجولة إلقاء التحية على قلبها
تمرّ قرب علبة بريدها
لا تفتحها كي لا تسمع شهقة الحديد الصدئ ..
لقد تعوّدت على السكون
لأنه
ومنذ زمن
بدا وكأن الكنّاس وساعي البريد
قد ماتا

...

كلمة «وحدة» وحدها كافية لتظهر كلّ التناقض الذي نتخبّط فيه
وحدة: الانفراد بالنفس
وحدة: حالة ما اتّحد من الناس أو الأشياء

...

نحضّر مؤونةً من حطبٍ وطعامٍ من أجل فصل الشتاء
ونحضّر للرحلات من أجل فصل الصيف
نحضّر ثياباً نرتديها للصباح
ونحضّر شموعاً من أجل لحظات العتمة
ونشتري علب التبغ لتكفينا وصولاً على الأقل إلى الفجر
لكنّنا إلى الآن
لم نعرف بعد كيف نحضّر مؤونةً من الحب تكفينا لأيام الوحدة عندما يُحكم علينا بالفقد
هكذا سألت يدي خدّي عندما اتّكأت عليه وتحسّست دمعة خائفة
سأعصر عينيّ لأعجّل بهطول أخواتها

...

لقد طال غيابك
إذا كنت مريضاً تتألم وحيداً فوق سريرٍ أبيض، فلن أسامحك
إذا كنت معتقلاً مرمياً في زنزانة ضيقة، فلن أسامحك
إذا كنت ميتاً منسيّاً في قبرٍ لا تأبه للون الصباح أو الليل، فلن أسامحك
إذا كنت كالعادة حزيناً فلن أسامح نفسي
وإذا كنت مشغولاً بحبّ أخرى، فهنيئاً لك... حبيبي

...

وكأننا استسلمنا لجبروت الغياب
أصبح الحب وحيداً عارياً من حضورك وحضوري

...

من المنطق انو يسكت اللحن بس تسكّر البيانو، وهيدا الشي ما عم يصير
متل وقت بتسكّر قنينة النبيذ.. بس بتضلك سكران
متل الحب يللي بيضلّ.. رغم الغياب

...

أن تكون حميماً مع الآخر، أيّ آخر، ومن دون تعقيدات، أمرٌ في غاية السهولة..

كلّ ما هنالك هو أن يكون بمقدورك أن تسمع برفقته الموسيقى مثلما تسمعها عندما تكون وحيداً.

...

الـ أنت
الحضور المكثّف للـ أنت
والغياب المكثّف للـ أنت

ثلاثيّةٌ توحّدني

...

أكثر الدموع حزناً.. تلك الدمعة التي تنحدر وحيدةً ببطء.. ببطء شديد.

- هل اشتقت إليّ؟ أريد الحقيقة.

- أطلتِ الغياب كثيراً وكأنّك قاتلتِ من أجل حرّيتك، فرضخت لك وابتعدت. واصلتِ تقدّمك في الفراغ.. وعندما عرفتِ أنّ أحداً لا ينتظرك، تابعتِ توغّلك في الغبار خجلةً من أن تعودي وتقولي:

"أشعر بالوحدة."

تر دين الحقيقة في مسألة شوقي إليك أو مأساة شوقي إليك؟ عزيزتي، إذا غاب نور القمر والنجوم والكواكب، فهذا لا يعني أنّها غابت عن مسارها في الكون.
أنتِ كالأيّام التي لا تعود...
أنتِ لا تتكرّرين
فجرٌ ساحر أنتِ
لا يكفّ عن العودة منذ بدء التكوين
لحظة الانفجار الكبير.

...

أصبحت ماهرة في سياسة الاقتصاد والتوفير، أكدّس كل أحزاني بعضها مع بعض
حزن المدن
حزن الحب
حزن غياب المطر
حزن جسد أمي المبتور النهد
حزن الطيور المهاجرة
أكدّسها كلها بعضها مع بعض
بعضها فوق بعض
هكذا أبكيني دفعةً واحدة
حزن الطرقات الطويلة التي تفتّش عن أسباب الرحيل
حزن الدماء الصارخة الهاربة من أجسادٍ ماتت، تبحث عن عروقٍ جديدة وشرايين أكثر ثباتاً
حزن القمر الذي ملّ من الوحدة
حزن الشمس التي تعبت من الاشتعال والاشتعال
حزن طالبٍ رسب وقد خاف من توبيخ أبيه أكثر من خوفه على ما يسمّى مستقبله المهني
حزن قلمٍ هرب منه الحبر فأقعد صاحبه
حزن راهبةٍ شعرت بالذنب لأنها مارست العادة السرية في عتمة الدير
حزن فلّاحٍ جائع لا يملك سوى الوقت وحبّة حنطة ينتظر نموّها
حزن طفلة صدمتها تقلّبات القيم فلم تعد ترى سوى جدارٍ عالٍ مخيف، وعتمة قرية عتيقة، وسرير أبيض
حزن امرأةٍ تتوسّل رجلها أن يقول لها "وداعا"ً ويطلق عليها رصاصة الرحمة ليدعها تموت
دفعةً واحدة 

...

منيح ما في أيلول تاني متل تشرين وكانون
أيلول لازم يكون وحيد ما عندو خيّ
متل ورقة شجرة عم تنازع وحيدة
هيدا الأصول

...

أن تعدّ القهوة وحيدًا..
مساءً..
وانت تعرف ان الكافيين سيكون عدوّك
ولن تصل الى النوم

...

كان سعيداً باعتلاء المسرح والعزف لجمهورٍ يتألف من شخصٍ واحدٍ... وحيد
لم يكن همّه إيصال فنّه لأكبر عددٍ من الناس
بل صار همّه الثقيل ألا يظل ذلك الشخص، وحيداً
يجلس على الكرسي الأحمر المخملي كعلامة استفهام...
وبعد أن تنتهي الموسيقى يقف كعلامة تعجب
ويرحل لا مرئياً
كصلاة فجر

..

بعد أن فارقت الحياة
تخلّصوا بسرعة منها،
تركوها هناك وحيدة..
يكمل حفار القبور تعتيق وحدتها،
ورموشها لا تطول،
لكن عينها تكبر وتكبر
وهي تحاول بكل قوة
أن تصحو من الموت.

...

تركتها هناك.. وحيدة .. في العتمة والصقيع.. وعلى الرغم من ذلك.. سامحتْني وساعدتْني على رفع يدي لأصافح المعزّين.
ويسألون لماذا هي باردة... رؤوس أصابعي؟

...

بغيابها عم توسع العتمة
وكأنو حضورها كان اكتر من نور

...

الأمس لم يأت،
كذلك هو اليوم..
والغد..
من يكتب لكِ عنكِ على جدران المقبرة؟
من يحصي لكِ أيّام الغياب في زنزانتكِ؟
كيف لإلهٍ كسول أن يعيد لوجنتيك لون الورد؟
يا من كنت تؤمنين بنشاطه
وبلون الورد الأزلي
وبالقيامة..
كم أصبح عمرك الآن؟
ليتكِ تأتين مع الفجر لنحتسي القهوة معاً،
سأدلّك جسدكِ..
أعرف كم أتعبكِ النوم الطويل.. وسأحرق ملعقةً من البنّ فوق الجمر لتتنشّقي رائحة القهوة،
لتعوّضي ما فاتكِ ولتخزّني مؤونةً منها
لصباحات الوحدة الآتية
في القرية العتيقة.
آه يا حبيبة روحي كم اشتقتكِ.
كم أصبحتِ تحترفين الغياب..مثلما تحترفه نفسي عن نفسي.

...

يبدو أنّه مرّ وقتٌ طويل قبل أن أعود إلى غرفتكِ يا أمّي.
فالرواية التي كنت أقرأها عندما كنتِ نائمة في الصيف الذي مضى.. قد غفا فوقها الغبار..
وما زالت الصفحة حين قرّر الأبطال فيها الرحيل
مطويّة
حيث كانت

...

لن أكون صادقة إن كتبت في صيغة المتكلمة...
سأكتب في صيغة الغائبة
... لطالما خانتني الأنا

...

هناك نوعٌ من اللوحات التي لا تقبل ان تزاحمها لوحةٌ أخرى على جدار..
وكأنها مصابة بالتوحّد

...

متى ستعود لي إنسانيّتي؟
هل سأظلّ هكذا إلى أبد الآبدين؟
أيُعقل أنّه لم يعد يعنيني أحد؟
أخٌ ما لي في الإنسانيّة في بقعةٍ ما من الأرض يئنّ ألماً أو جوعاً؟
أيُعقل أنّه لم يعد يعني لي إلّا أقرب الناس إليّ
وأعزّهم إلى قلبي؟
من تراه أسهم في تضخّم أناي؟... ملعونةٌ أنا...
ملعونة كذلك الحوت المصاب بالتوحّد
وسط المحيط.

...

كلما دخلت غوغل لأقرأ عن سيَر حياة الشعراء،
أجد في النهاية..
نهاية..
كيف تحدّثوا عن الغياب
قبل أن يغيبوا
مع انهم كانوا غائبين

...

أصعب ما في الرحيل
ألا يلاحظ أحدٌ رحيلك

...

كيف بإمكانه فعلاً أن يرحل يوماً.. من كانت هويته الرحيل؟

...

الوحدة هي ان تلعب الشطرنج ضد نفسك
ولا تعرف الى من تود الانحياز
لنفسك
ام لنفسك

...

وبعد أن يطبّلوا أذنيك في الحديث عن سليمان فرنجية وحزب الله والحرب الأهلية المحتملة وعن الامتحانات الرسمية والطبخ وعن وعن وعن... تنتبه فجأة لموسيقى بيانو خافتة تتسلل إليك من نهاية فيلم لتلفزيون منسيّ كان يشتغل عبثاً في خضم الفوضى..
تطلب منهم السكوت،
إسدال الستائر،
إغلاق الأبواب،
والرحيل...
هكذا تستسلم للحظات الوحدة من دون أن تعرف إن كان الفيلم حمل في جعبته الفرح أو الحزن،
الحياة أو الموت...
إنه فقط.. بيانو..
ونهاية..
والكثير من الضحايا في رأسك
تتألم
من الاحتضار الطويل.

...

أن تشعر بالوحدة.. أفضل من عدم الشعور بشيء

....

ننشغل بوئام وهّاب وبريموت كونترول تقضي على صوته أو لا تقضي...
ننشغل بالأسرى وبالأمعاء الخاوية...
بالفقراء...
بالثورات...
بامرأة ترقص على وجع الكمان..
بكمانٍ يعزف على جسد امرأة..
ننشغل بحاسوب، بقهوة... بإرواء سياراتنا بالبنزين... بطبخةٍ لم نطبخها منذ أسبوع أو أسبوعين... بالبيئة بالفلسفة بالجنس بالحب بأسرار الموت بالأصدقاء الحقيقيين والافتراضيّين..
ما أجمل أن ننشغل بشيء...
بأي شيء
فبه نشدّ وجه فراغنا المترهّل

....

عليهم أن يسنّوا قانوناً يمنع المرأة من أن تحمل جنيناً واحداً في رحمها.
عليهم أن يحاربوا الوحدة
من جذورها

...

الوحدة..
هي الشمس في الليل
هي القمر في النهار

الوحدة..

هي تلك النبتة الذابلة إلى جانبك،
تطفئ في ترابها سجائرك،
سيجارةً تلو سيجارة

الوحدة..

هي نصّ لم يكتمل، لأن الشخصيات قد كفّت عن التطوّر.

الوحدة..

هي العظام البشريّة تحت التراب

الوحدة..
لغة الإشارات في بلادٍ غريبة

الوحدة..
لوحةٌ منسيّة في القبو البارد

الوحدة..

هي الرموش التي لا تريد أن تسجنك في الحلم وأنت تغرق،
لكنّها لا تعرف كيف تفكّ تشابكها

الوحدة..

فستان الموسلين الأسود المثير، يقبع في عتمة الخزانة منذ سنين.

الوحدة..

هي انك لم تنس في عجقة العيد خسارة الأحبّة لكنك تعوّدت على الخسارة

الوحدة..

هي أن تكون وأنت غائب


 #الوحدة #الغياب #الحزن

  1
  6
 0
مواضيع مشابهة

05 يناير  .  4 دقائق قراءة

  15
  12
 4

06 يوليو  .  3 دقائق قراءة

  3
  3
 2
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال