05 يناير . 4 دقائق قراءة . 870
الملل، الضجر، الشعور بأنّ لا أحد يفهمك، ثقل دم الأقرباء، الشعور باللاانتماء...إلخ كلّها لا تخوّلك أن تفهم ما الذي يقصده شخص يعيش في مجتمع صناعي أو ما بعد صناعي حين يحدّثك عن "الوحدة". كلمة "الوحدة" أصلاً لا تعبّر عن "أشعر بالوحدة" التي اعتدنا عليها في تعبيرنا التقليدي. وعلى هذا فمن الصعب جداً فهم مفهوم القلق أو الفزع كما تحدثت عنه بعض كتابات الفلسفة الوجودية.
الوحدة ليست شعوراً باللاانتماء على الطريقة الويلسونية (نسبة إلى كولن ويلسون) الرومانسية، أبداً. لا بل هي لا تقترب من هذا المفهوم. وليست شعوراً بأن الآخرين لا يفهمونك. عدم فهم الآخرين لك جزء بسيط من الأمر. عدم فهمهم لك يعني أساساً أنهم موجودون في علاقة معك، وهم لا يفهمونك؛ هناك صلة بينك وبينهم، ولك بالنسبة إليهم ولهم بالنسبة إليك موضع في هذا المجتمع. تستطيع، مع نفسك، أن تشعر بلذة التخلّي وأنت مقهور؛ تستطيع أن تشعر برعشة التفوّق المتألّم. أنت موجود بالنسبة إليهم وهم موجودون بالنسبة إليك. العلاقة لا تعجبك، لا بأس، قد تتغيّر!
الوحدة ليست هذه ولا تلك، وإنما غياب الآخرين وغياب علاقة التناسب معهم. غياب السلب والإيجاب معاً. الوحدة تحلّل تدريجي للشخصانية والشخصية في الحياة وتحوّل الفرد إلى ذرة تائهة. هي ليست "شعوراً" بالوحدة بل هذا وما يتجاوزه. إنها أن تكون وحدك. إنها شعور الصفر، ما بين السالب والموجب. غياب طيف المعاني وظلال الدلالة، وإقامة دائمة في مكعّب ثلجيّ. إذا كان الرومانسيّ يشعر بنفسه على قمة جبل والآخرون تحته، فالوحيد واقف في سهل لا نهائيّ بلا تلال ووديان، بلا أجمات كثيفة أو منعطفات غريبة، بلا نقاط بائنة وأخرى مختفية. إنها الانفتاح الكلي الذي لا يقيّده شيء ولكن على اللا شيء.
منتجات العالم التقليدي لم تخترع شيئاً للوحدة، لأن العالم التقليدي ليس فيه وحدة إلا كاستثناء يحصل هنا وهناك. لهذا يصعب على المجتمعات ما بعد الصناعية أن تعود إلى منظومات دينية أو ثقافية تقدّم معظم حلولها أو كلها لإنسان يعيش ضمن جماعة (وليس مجتمعاً تقليدياً فقط). حلول الدين هي حلول لأعضاء في جماعات وأيضاً لجماعات كاملة، وليس للوحيدين، ولهذا كثير (وليس "كلّ") من "الخطايا" الدينية لا معنى لها خارج نطاق الجماعة. ما الذي يعنيه أن تعبد إلهاً آخر لوحدك؟ ما معنى أن تتزوّج في سهل ليس فيه جماعة؟ في السهول الفارغة الآلهة لا تتنافس ولا تتقاتل والنساء لا يلاحقهن صوت من فوق ولسن في حاجة إلى ضمان من أحد- لا أحد ينتظر خلف الباب ولا زمن محدَّد. الأصوات كلها من الداخل والزمن زمننا. جبل سيناء لا ينتمي إلى السهول اللانهائية.
الوحيد يجب أن يخترع قيمه لوحده أو يجد جماعة لينضم إليها ويعتنق قيمها. هذا يفسر كيف يمكن لشخص من مجتمع ما بعد صناعي أن يذهب ويعتنق ديناً آخر. هو في الغالب لا يبحث عن عقيدة، بل عن جماعة، عن معنى، وعن شبكة تمنح له الموقع بين المخلوقات من خلال صلاتها.
أجسامنا المعنوية تتركب من نواة شخصية تحيط بها شبكة عصبية يزودها الآخرون بطاقتها على مدار الوقت. وإذا لم يتوافر الآخرون كشخصيات تعني لنا ونعني لها، تمارس سلطتها علينا، مهما كانت هذه السلطة ناعمة، ونمارس سلطتنا عليها، مهما كانت هذه السلطة لا مرئية، نكاد نختفي حتى من أمام أعين "الله"- إله القبيلة.
23 كانون الأول 2020