21 مايو . 7 دقائق قراءة . 2165
إذا ما بحثت في محرّكات الانترنت عن موضوع تقوية الشخصيّة، وجدت عديد الصفحات التي تدعوك إلى الثقة بنفسك، وإلى أن تتجرّأ على أن تقول "لا" متى أردت وألّا ترضخ إلى رغبات الغير فقط لإرضائهم، أو ربّما إلى التحكّم بنفسك وبردود فعلك، أو إلى عدم الانتباه إلى أولئك الذين يحاولون التقليل من شأنك. هذه وغيرها، نصائح وجيهة برأيي لمن يسعى إلى تقوية شخصيّته، لكنّها تتطلّب أن يكون الفرد جاهزا لتطبيقها، وإلّا كيف لشخص يشعر بالحرج من شخصه أن يزرع الثقة بنفسه بمجرّد أن يقرأ مثل هذه النصيحة؟ ألن يشعر بالحيرة كي يتحوّل من الحرج إلى الثقة بنفسه؟ لو كانت الثقة بالنفس مجرّد زرّ يضغط عليه المرء بمجرّد أن يقرأ النصيحة، لما كانت عيادات المدرّبين والأطباء النفسيين تعجّ بالخلق، ولما كُتبت آلاف الصفحات عن هذا الموضوع.
تلك النصائح برأيي ليست بنصائح لتقوية الشخصيّة وإنّما هي ملامح الشخصيّة القويّة. أمّا كيفيّة الوصول إليها فذلك أمر مختلف. ومن الصعب الوصول إليها إذا كانت جراح الفرد غائرة مفتوحة، لم يلق إليها نظرة أو يهتمّ بعلاجها. إذْ كيف لإنسان أن يتصرّف بثقة في حين أنّه يشعر بداخله أن لا قيمة له أو أنّه فاشل ليس أهلا للاحترام؟
إقرا أيضا:
يجب أن نفهم أوّلا لماذا يبحث المرء عن تقوية الشخصية وتطوير الذات وماذا نقصد بعبارة شخصيّة قويّة. إن الشخصيّة القويّة هي شخصيّة يُعرف عنها عادة أنّ الآخرين يحترمونها، وقد يأخذون رأيها بعين الاعتبار، ولا يتجرّؤون على الحديث معها بشكل غير لائق. وإذا ما بحثنا عن الأسباب العميقة التي قد تجعل أحدنا يبحث عن مثل هذه المنزلة، فإنّ جميع الأسباب سوف تُختزل في سبب واحد، ألا وهو أنّ المرء يريد أن يعرف أنّه محبوب، ويريد برهانا من العالم والخلق على أنّه جدير بالمحبّة.
لكن كيف لك أن تطالب غيرك بأن يُحبّك إذا لم تكن أنت ذاتك تُحبُّ نفسك؟ إنّ تقوية الشخصيّة ، مثلها في ذلك مثل جميع فقرات تطوير الذّات، تتطلّب اجتهادا على مستوى دواخل النفس، فالإنسان يشعّ إلى الخارج ما يخزن بداخله. يقول الفيلسوف الصينيّ، "لاو تسي"، أب مذهب الطّاوية، في كتاب "التاو تي كينغ" أنّ الحكيم هو "من يعود إلى حالة الرضيع"، وأنّ "من يمتلك الفضيلة كاملة، يشبه الرضيع: لا تلسعه الحشرات السّامة، ولا تخدشه الحيوانات الضارية، ولا تحطّ عليه الطيور الجارحة" وهو يقصد بذلك أنّ القوّة اللاملموسة التي تشعّ من الحكيم كتلك التي تشعّ من الرضيع، فهي تبهر وتصعق الجميع بما في ذلك الحيوانات. وهي قوّة من نوع مختلف عن القوّة الملموسة، وهذه الأخيرة لا تستطيع مجابهة الأولى، أي القوّة اللاملموسة[1].
لذلك فإنّ تقوية الشخصيّة والثقة بالنفس ليست مسألة تغيير للتصرّفات مع الغير بقدر ما هي تغيير داخليّ لتصرّف الإنسان مع نفسه. إذا ما عملت على تقوية محبّتك لنفسك، كبرت تلك القوّة اللاملموسة بداخلك ووجدتها تشعّ إلى الخارج، حتّى دون علم منك.
يستوجب ذلك أوّلا أن يعرف الإنسان مواطن جراحه. فلكلّ واحد منّا جراح كثيرة ناتجة عن طريقة مجابهته، خلال الطفولة، لعدوان العالم. وهذا التمرين يتطلّب أن يراقب الفرد نفسه عن كثب، ويلاحظ كلّ ما قد يسبّب لديه شعورا بالقهر والظلم والنقصان، حتّى يصير مثل كاميرا خارجيّة، تلاحظ ما يحدث دون أن تتأثّر به، وكأنّ الفرد ممثّل ومخرج لشريط حياته في الآن نفسه.
بهذه الطريقة، يسعى المرء إلى معرفة نفسه ومداواة جراحه. ومن الأفضل للعلاج، ألّا يكون المرء تحت تأثير أهوائه المختلفة. لذلك كانت المراقبة الموضوعيّة للذات من أحسن السبل لمعرفتها ومعالجتها.
أهلا للاحترام؟
إقرا أيضا:
يقول المعلّم الروحي الهندوسيّ، سوامي شاندرا، في كتابه "أنشودة الصمت": "الحبّ ينجح هناك حيث أخفقت كلّ المناهج". علاج الجراح النفسيّة لا يكون حقيقيّا إلّا بإغداق المحبّة على الذّات، ليس من باب الغرور أو العجرفة، ولكن كما تغدق أمّ محبّتها على صغيرها.
إنّ من ينوي مداواة نفسه يحتاج إلى أن يتسامح معها، وأن يحبّها ويواسيها كما يحبّ صغيرا يتألّم، وألّا يخشى من أن يرى نفسه مشطورا إلى اثنين: كهل يواسي، وطفل يتألّم ويتلقّى المواساة.
سيحتاج أيضا، خلال ذلك، إلى أن يسامح من سبّب له الأذى. قد يتطلّب ذلك أن يواجهه ويصارحه بما قد كابده بسببه، لكنّه سيكون في حاجة إلى أن يسامحه، ليس فقط من أجل ذلك الذي آذاه ولكن أيضا وخاصّة من أجل راحة باله الشخصيّة. فالحقد بمثابة كيس من الرّمل تحمله فوق رأسك بينما تسير في طريق حياتك. إذا ما وضعته أرضا، كانت خطواتك أسرع وأكبر.
إنّ الإنسان يصل إلى أكثر أشكال محبّة الذات اكتمالا، عندما يرى نفسه كهديّة من الكون للكون. فهو شكل من الأشكال التي اختار الكون أن يختبر نفسه من خلالها، وهو شكل فريد لا مثيل له.
الوعي بهذا التفرّد يجعل المرء يشعر بقيمته، دون أي برهان إضافيّ أو دليل يستقيه من تصرّفه أو تصرّف الآخرين تجاهه. يكفي أنّه يوجد كي يدرك أنّه ذو قيمة، وهو بذلك يستمدّ قيمته من داخله فحسب، وهذا ما يمكّنه من استقلاليّة تامّة تجعله يدرك مدى قوّته.
إلى جانب هذا الوعي، فإنّ الفرد الذي ينتهج المحبّة كعلاج لجراحه، سيجد أنّه يتّخذ المحبّة رويدا رويدا كمنهج عامّ في حياته. وهذا ما سيفتح له سبل مناجاة الكون في تجربة محبّة شاملة تعجز الكلمات عن وصفها. فهي تجربة شعوريّة بحتة، تمكّن من صادفه الحظّ بعيشها، من أن يتقدّم بخطى عملاقة في محبّته لذاته.
إذا ما أردت تقوية شخصيّتك وعدم الخوف، فعليك أن تبقى مخلصا لنفسك، أي أن تحترم نزعاتها واهتماماتها، وألّا تتصرّف فقط بدافع إظهار شدّتك للآخرين لأنّك عندئذ لا تعيش في استقلاليّة داخليّة وإنّما تحدوك بالأساس نظرة الآخرين إليك. فالشخصيّة القويّة هي قبل كلّ شيء شخصيّة متحرّرة من رؤية الغير وتقييمهم وضغوطاتهم، تستقي دوافعها وقيمها وقراراتها من داخلها.
إنّ المحبّة للذّات النابعة من داخل المرء هي سرّ كلّ شخصيّة قويّة، عليها تبنى الثقة بالنفس، وعلى أساسها يمكنك أن تقول "لا" للآخرين، وأن تتمتّع بجاذبيّة، وألّا يجرحك أحدهم بكلمة مسيئة إليك، وألّا ينجح في التقليل من شأنك. كلّ ثقة بالنفس لا تبنى على محبّة حقيقيّة للذّات ليست سوى عجرفة متلفّعة بثوب الثّقة، سرعان ما يسقط قناعها لتترك صاحبها في مهبّ الرياح والعواصف.
بقلم اسمهان الشعبوني
المراجع:
[1] من مقدّمة كتاب "التاو تي كينغ" – تقديم مارسيل كونش – PUF Perspectives critiques - 2015
18 مايو . 7 دقائق قراءة