أزمة المفكرين في العالم العربي.. أين تحرير العقل؟

01 يناير  .   7 دقائق قراءة  .    668

Photo by Radu Florin on Unsplash

كثيراً ما نتوصل في ختام النقاش، أي نقاش ومهما كان جانبي وبسيط، إلى طرحٍ لا يخلو من المقارنة مع الغرب، فتتبوأ الأسئلة التالية المشهد.. "ما الفرق بيننا وبينهم؟ "، "لم لا نعيش مثلهم؟ "، "لماذا نضطر للهجرة، وما سبيل تطورنا؟ ".

العقبة الأولى هي خطأ التحليل والتوصيف، محاولة تبسيط يائسة للواقع تختصر تعقيده، ذلك أننا ننزع لاختصار أية إشكالية عبر معالجتها وفق منطق الجيد والسيء، الخير والشر، التطور والتخلف، وكأن التخلف قدرنا، وكأن مصيرنا هو التطلع الأبدي نحو الغرب. فليس بصحيح أن الغرب انتصر على كافة مشكلاته، ولا أن الشرق غارق حتى الثمالة بلا أفق.

مما لا شك فيه أن الغرب عالج العديد والكثير من عقباته، ويعتبر حالياً في عصر متقدم جداً مقارنة بواقع عالمنا العربي، لكننا دائماً ما نؤخذ بالتقدم الحاصل وننسى الكيفية، نتجاهل الصعوبات والمراحل التاريخية التي تطلبها حدوث هذا التطور، والأهم من ذلك، نتجاهل ولادات عسيرة ومخاضات قاسية عبر من خلالها أهل الغرب إلى واقعهم الحالي.

حضارياً، يمكن أخذ أوروبا كمثال وافي، فكثيراً ما نستمتع بمشاهد الطبيعة الجميلة والتطور الحضاري، متاحف وقصور وبنى تحتية جميلة، أدب ورياضة وسياحة وعلوم، لكننا نادراً ما نراجع عصورها الوسطى وحروبها الداخلية، الدولة الدينية وتغييب العقل، حرق وتقطيع البشر، حالات إقطاعية وفقر بشع، أوبئة وموت مجاني.

ليس القصد أن المعاناة وحدها هي الطريق والدواء، نعم المعاناة ممر إجباري، لكنها ليس وصفة كافية للتطور، فالأهم من اختبار المآسي هو التعلم من خبراتها، الخروج بالعبر واجراء تقييم موضوعي، أين أخطأنا بكل تجرد، أيْ تجرد المفكرين في العالم العربي من المحددات والتحيزات الشخصية أولاً، والرواسب الثقافية أكانت محلية أم أجنبية ثانياً.

غالباً ما يولد المفكر العربي في بيئة محددة، عائلة أو حي وعشيرة، لا بد من طائفة أو مذهب محيط، مدينة أو ريف، خبرات متعددة ومطبات شخصية، تتحالف جميعها تاركة هامشاً نادراً لحرية العقل. وأخص بالذكر المفكر، لأنه نواة النواة، المؤثر الأول في النخب القادرة على بناء الوعي العام في الثقافة والتربية والتعليم والسياسة ذائعة الصيت ومقررة كل شيء.

على هذا المفكر الخروج أولاً من ربط العقل بالعاطفة مع استثناء الأخلاق، أي ربط هدف التفكير بالصالح العام وهو المكون الأخلاقي، أما بعد، فقد حان وقت التحليل البارد الموضوعي، والنقد العميق لكل الظواهر، لا ضير من الإضاءة على الإيجابيات للبناء عليها والبناء على جعلها رصيد يعيد ثقة الناس بنفسهم وهويتهم. لكن النقد الكاشف مزعج أيضاً، لأنه طبعاً سيصل إلى المحرّمات وهذه مشكلة كبرى، حيث ينقسم المفكرون غالباً بين مطبّعين مع الواقع السلبي وبين متمردين عليه حدّ الثورة، داخلين في صراع ما بينهم بلا انتاج أو ثمار.

هنا نواجه المشكلة التالية، أن نخبتنا الفكرية عدّة نخب، لا نعني الاختلاف لأن الاختلاف غنى بل صعوبة حصاد الغنى من هذا الاختلاف لأنه غالباً ما يأخذ طابع الشللية والفردية، الأنا الجارفة عند كثير من المفكرين، فلا يؤمنون بالعمل الجماعي المنظم، وكلّ مفكر هو جزيرة عاجية وليس فقط برجاً. نادرٌ جداً من يعمل ضمن منظومة بناءة لا طموح فيها للسطوع الفردي ولا لإقناع المجرة بما يظنه هذا المفكر صحيحاً، بل بهدف إنتاج ما فيه الصالح العام.

عودٌ على بدء، لم الفكر؟ لأجل الفكر فقط؟ ربما نعم، في وقت الفراغ وكاهتمام شخصي، لكن الفكر في الشأن العام هو مشروع ووسيلة محددة، هدفها تحليل الواقع وايجاد الإجابات العلمية الوافية، والاعتماد عليها في رسم الحلول والطريق، هي مهمة إنسانية اجتماعية بالغة الأهمية، ليست شعراً جمالياً أو تأملاً فردياً. فمهمة الفكر الأساسية هي البحث عن حلول لأزمات مجتمعاتنا العربية المتفجرة، التي لا تملك رفاهية العمق الفلسفي والسرد بلا هوامش، صحيحٌ أن هذه الظواهر تعتبر دليل رفاه حضاري، والذي يمكن العمل عليه كبذرة مبدئية ولكننا لا نملك رفاهية تخصيص وقت أو إمكانيات مفكرينا لحل معضلة تكرار ثابت رقمي ثلاثي ما على أوراق النبات وحسابات الفيزياء وسبر الفضاء، في الوقت الذي لا زلنا نواجه صعوبة إقناع المواطن العادي جداً، بضرورة عدم رمي مهملات طفله ذو السنوات الثلاث في الشارع، مؤثراً في سلوك الأجيال القادمة أكثر من عمل مفكري العالم العربي مجتمعين!

المعضلة الكبرى لا تكمن حالياً عند "مغلقي العقول"، بل عند من يعتقد أن عقله تحرر، ويعتقد أن فوضى الأفكار حرية وإبداع. لتوخي الدقة، تعتبر الفوضى مولدة للأفكار، ومناسبة لالتقاط أفكار مبدعة ومبادرات خلاقة، حتى أن طريقة "العصف الذهني" كثيراً ما تكون منتجة قبل التخطيط لأي عمل، لكن فرقاً كبيراً يكمن بين إيجابيات محددة للفوضى وبين منهج الفوضى، فوضى شوارعنا وهوياتنا وصراعاتنا، فوضى عقولنا المعبرة عن نفسها سلوكياً ليس إلاّ.

نعم لست مع تحديد إطار للمفكر، لكني أيضاً ضد خلق مليارات الأفكار لأجل الأفكار خاصة في حالتنا ووضعنا، وأقدر جيداً أن الفكر مساحة راحة للمفكر، ملجأ من شرور العالم ومحددات البيئة، مصيَف مؤقت وغرفة للراحة. لكن مجدداً، لا ضير من الجمع بين الهواية والدور، دور تقديم الفائدة للناس، مع الحفاظ على حقه الطبيعي في ممارسة ما يهوى كيف يشاء.

في الخطوة التالية، إن افترضنا تحرير العقل، ينبغي الانطلاق إلى مناهج التفكير، حيث لم يعد ممكناً في عالم اليوم، حتى في مجال الفكر والأدب، أن نغوص حتى الثمالة دون قواعد علمية، نعم من الصعوبة مثلاً مقارنة احصائيات المعلومات وعلوم الطب بعلوم الإنسان، من حيث الصعوبة في جمع المعلومات ومقارنتها ودراستها والتجرد حيالها، لكن ذلك لم يمنع أرقى جامعات العالم من اتباع المنهج العلمي كأساس للبحث. فالملاحظة والتجريب والمقارنة، الدراسات الكبرى وعينات البحث الضخمة والمراجعات العلمية المنهجية للدراسات نفسها، جميعها أساسية، وبالنسبة إلى خصوصيتنا، وما نحن عليه من تأخر علمي بحت، يصبح من الضرورة التركيز على البحث العلمي في مجالات علوم النفس والاجتماع والأديان والآداب، من حيث أن المفكر الغربي قليل ما قاربها، وإذا فعل غابت عنه ثقافة فهمنا جيداً، فيما نضطر في العالم العربي إلى مراجعة هذه المصادر الغربية كي نتعلم أكثر عن مجتمعاتنا بشكل منهجي، وتلك طامة كبرى.

ختاماً، يمكن لتحرير العقل أن يحصل لدى الفرد، لكن الأهم من ذلك هو تحرير العقل الجمعي للمجتمع، ونواة هذا العقل هم نخبة المفكرين، الذين يتحملون مسؤولية "تحمل المسؤولية"، والنهوض بمجتمعهم من صراع الحصول على فتات الكرامة إلى البحث عن ازدهار عام وحياة أكثر معنى

#المفكرين_العرب   #المفكرين  #أزمة_المفكرين 

  7
  2
 1
مواضيع مشابهة

08 نوفمبر  .  6 دقائق قراءة

  6
  5
 1

01 فبراير  .  1 دقيقة قراءة

  5
  3
 0

01 يناير  .  6 دقائق قراءة

  3
  1
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Maher
22 يناير
أحببت المقال، لكنني أتساءل هذا العقل أي عقل والذي بدا من طبيعته أن يقسم نفسه الى "عقل عربي" و "عقل غربي" او عقلية شرقية وعقلية غربية مثلا وغيرها من التقسيمات وصولا إلى عقلي وعقلك ... ألا يوقع نفسه في صراع؟... لأن العقل في نهاية المطاف هو العقل. وفي لغة العقل انت هو أنا أو بالأحرى لا يوجد انت او أنا يوجد البشرية. أترقب مقالاتك... تحياتي
  1
  0
 2