الهوية وهجرة العقل العربي

Maher

01 يناير  .   6 دقائق قراءة  .    793

Photo by Phil Botha on Unsplash

لعلنا ندرك جميعًا أن كل إنسان على كوكب الأرض يتمتع بهوية تخبر عنه، عن أصله وبعض مما قد ندعوه حقائق

لكن ومع ذلك فإن الواقع يخبرنا بأن الإنسان في بحث دائم عن هويته، يحاول دوما توضحيها، وترسيخ ما توضح منها.

فيحاول أن يكون بكل كيانه كليّة لما يعرّف نفسه به. إلا أنه شيئا فشيئا يتيَقَظ لكونه ليس فقط هذه الصورة، فهناك ما هو أوسع وأشمل منه ومن واقع هويته في داخله، فيعود ويبحث في الخارج مرارا وتكرارا علّه يجد ضالته، حتى يلتفت إلى الداخل فيرى الحقيقة، حقيقة الهوية بكل بساطتها في انتظاره.

إن حاجة المجتمع والفرد اليوم إلى إعادة تعريف الهوية هي حاجة ملحة، لأن مفهوم الهوية بات عائقًا عن الانفتاح والتواصل لا بل والتحرر أيضا.

نعايش واقع الهجرات العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى، حتى تحولت الهجرة في بعض المجتمعات إلى تهجير محتوم لا مفر منه، فبات التعامل مع واقعها والبحث فيما يستجد فيها فرضًا اجتماعيًا جديدا.

الهدف من مطلق أي هجرة هي في هجرة العقل، لكن الواقع قد يظهر خلاف ذلك، فنرى أن الأجساد هي ما هاجر لكن العقل ومنطقه لم يصل بعد إلى بلد الهجرة، ولا هو حتى في ربوع الوطن!

كيف ذلك؟

الجسد في بلد المهجر نعم، لكن العقل ضائع في الطريق بين الحاضر والماضي، بين غربة ووطن، ومن هنا فإن هذا المهاجر لا يجد نفسه، يبحث عن هويته، فهذه الهوية لم تعد من هناك من حيث أتى، ولم تصبح بعد من هنا حيث هو، فيتهرب من مواجهة هذا الواقع إما بالانعزال عن مجتمع الهجرة الجديد أو برفض مجتمعه الذي نشأ فيه، أو قد يختبر هذه فتلك ثم لا يصل إلى راحته، فينشئ صراعات بينه وبين نفسه، أقل ما يقال عنها بأنها ضرب من الجنون. لكن ومع ذلك فهذا هو الواقع لدى شريحة كبيرة من المهاجرين. بين بحث عن هوية استفاق وبين اندماج مطلوب به اللحاق، لا حل إلا بالهروب... لكن من من؟ وإلى أين؟ فتعود الكرّة من جديد علنا نجد فسحة بين هروب وآخر، لكننا لا نخرج إلا بالمزيد من العراقيل!

لعله إذا ما من حل أنجع من أن يلتقي هذا المهاجر بمجموعة صغيرة من أبناء وطنه في هذا المهجر، مكونا معهم صورة مصغرة عن الوطن، وهناك سيجد الألفة، وسيلمس إحساس الأمان، فهل يجد هويته يا ترى؟

ربما إلى هنا قد يكون تخدّر أصلا عن البحث عن الهوية، وقد أخذته انشغالات الحياة يمنة ويسرة، فلم تعد الهوية هي الهدف، ولربما لم يعد للأهداف أولوية، فالأولية غدت للتحصيل المادي ومواكبة الصورة العصرية!

لكن ما أن يكون على تماس أدبي أو فني مع هذا المهجر الذي يعيش فيه، حتى تستيقظ الأحاسيس مجددا، باحثة عن الهوية.

مثالا على ذلك التماس في المسرح.

قد يستغرب البعض وخاصة ممن لم يعتادوا المسرح، أنا أيضا لست من رواد المسرح المنتظمين، لكن باعتقادي أن المسرح على سبيل الذكر لا الحصر أحد أهم ناقدي الهوية الفردية لدى الفرد، رغم أنه يخاطب الجمهور، إلا أنه يدع الفرد في مسرح داخلي ذاتي لنقد صورته عن هويته.

فالمسرح هو ما يجسد أن الهوية ليست مجرد صورة بل تتال للصور، هي تماما كعرض مسرحي لا بد أن ينمو ويتفاعل

والمسرح أيضا هو ما يخلصنا من وهم الهوية الثقافية.

نعم العالم كله ثقافات، لكن هل الثقافة هوية؟ بمعنى هل ثقافة المجتمع المصري مثلا تحدد هوية الفرد المصري؟

الإجابة ببساطة لا، ومع ذلك اعتدنا أن ننطلق في واقع التعامل مع الآخر من أن ثقافة المجتمع والتي ما هي إلا نتاج صورة فكرية، هي هوية الفرد القادم من هذا المجتمع، مخلفين بذلك أعنف أشكال الانقسام بين أنفسنا، وبين أنفسنا والآخر، محققين لا شيء سوى العزلة مهما تعدد الاختلاط والاحتكاك، كيف لا ونحن من جمّد الآخر وجمد هويته في صورة سميّت ثقافة مجتمع!

نعم، لقد صدم الفيلسوف فرانسوا جوليان (Francois Jullien) في كتابه الذي يحمل عنوان لا يوجد ما يسمى هوية للمجتمع أوساط المجتمع كافة يمينية ويسارية في تحليله وطرحه لهذه المسألة المغيبة موضحا وهم هوية المجتمع وأثره السلبي.

ختامًا أصل بك عزيزي القارئ إلى أن شعور الغربة لدى الفرد في المهجر، هو انعكاس لغربته عن الطبيعة في هذا المهجر!

قد تبدو رومانسية هذه الجملة بعض الشيء لكن الملاحظة البسيطة لعلاقة الانسان بدولة المهجر توضح ذلك.

فعلاقة المهاجر ببلد المهجر هي علاقة مادية بحتة في الغالب، تقوم بدءًا من لقمة العيش حتى تحقيق الرفاهية المادية. لكن لا تقوم على فهم طبيعة بلد المهجر ولا فهم طبيعة هذه الأرض والتفاعل معها عبر الطبيعة أو الأعمال الأدبية الخالدة وعلوم الاجتماع، ولربما بسبب اكتفائنا منذ زمن الصفوف الدراسية بحصص الجغرافيا والأدب والقومية...

فإذا كانت علاقتنا مادية بحت بهذا المهجر، لماذا نطلب منه ما هو ليس مادي كإحساس الهوية والوطن؟!

الهوية وعلاقتها بالعقل والمهجر والوطن وكل الأبعاد، موضوع يشكل دراسة الخفي والجلي في آن، لكنه يتطلب البحث والمتابعة الدورية وهذه مهمة كل معني بالأمر، وقبل ذلك يتطلب فهمًا متجددًا للوطن والمهجر كثنائية تتوحد في الطبيعة، فترتقي حينها النفس عبر الثلاثية وطن – طبيعة - مهجر من ازدواجية تعاملها مع الحياة بحثا عن هويتها المفقودة.

#الهوية  #الهجرة 

  3
  1
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال