24 يونيو . 13 دقيقة قراءة . 507
لا شك أنّ الدراسات الإنسانية حول العالم تعاني أزمة تتفاقم باطّراد منذ ثلاثة عقود على الأقل. وللتدليل على هَول هذه الأزمة، سنتناول في مقالنا هذا بعض الوقائع والآراء التي صدرت حديثاً حول الموضوع. ثم نختم بأفكار دفاعية أو تبريرية عن الثقافة الإنسانية، لأنّ ما هو كائن مختلفٌ عما يجب أن يكون.
1. أصوات
في 13 أيلول (سبتمبر) 2013، عُقد مؤتمر في جامعة إيلينوي الأميركية (16) لبحث الوسائل الممكنة من أجل إنقاذ الدراسات الإنسانية في جامعات الولايات المتحدة الرسمية بعدما تقلصت المساعدات الحكومية لهذه البرامج إلى حد مريع خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وتمهيداً للمؤتمر الذي شارك فيه أساتذة من جامعات عدة، نشر أُستاذان من إيلينوي مقالاً حول الأزمة (17)، جاء فيه أنّ البدائل التي تلجأ إليها الجامعات المعنيّة لتمويل الدراسات الإنسانية، وهي تبرعات المتخرجين والمنح الموهوبة من أفراد ومؤسسات والأقساط التي يدفعها الطلاب، ليست ذات بال. ويشير المقال إلى أنّ بعض الجامعات اضطرّت إلى إقفال عدد من الدوائر والبرامج، خصوصاً في الدراسات الكلاسيكية والفلسفة. ففي العام 2010، هَدَّدت جامعة نيويورك في ألباني بإقفال دوائر اللغات الفرنسية والإيطالية والروسية والدراسات الكلاسيكية والمسرح. وفي العام 2012 علَّقَت جامعة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا الدراسات العليا في الألمانية والكلاسيكيات والدراسات الدينية. وتمتد الأزمة أبعد من الولايات المتحدة. ففي كندا علَّقت جامعة ألبرتا عام 2013 التسجيل في 20 برنامجاً ودائرة في الإنسانيات. وفي بريطانيا أقفلت جامعة ميدلسكس دائرة الفلسفة أخيراً. ويتّهم المقال الإدارات الجامعية لغرقها في البيروقراطية وتمويل طاقمها بدلاً من التصدي لأزمة الانسانيات. ويقول بأنّ في تعزيز الثقافة الإنسانية وتعميمها غنىً للمجتمع. ويذكّر بمادة دستورية، من العام 1862، تلحظ ضرورة دمج التربية النظرية والعملية، أي الانسانية والعلمية. وينتهي المقال باقتراح التدابير الآتية: العمل على تأمين موارد ثابتة للدراسات الإنسانية؛ إقدام برامج الدراسات الإنسانية على التقييم الذاتي باعتبار النوعية لا الكمية مقياساً للنجاح؛ تعديل بنية الدوائر الإنسانية بحيث تخطو من الاستقلال إلى الاندماج في دوائر وبرامج أوسع.
وتعليقاً على الاقتراح الداعي إلى دمج الدراسات الإنسانية، يعبِّر أحد أساتذة الفلسفة في أستراليا (18) عن خشيته من أن يؤدّي هذا الدمج إلى عزل الانسانيات عن العلوم في الجامعات، في حين أنّ حقول المعرفة المختلفة يجب أن تتعاون وتتكامل. وينتقد النزعة "العلمية" (scientism) التي تتفاقم في الجامعات اليوم، والتي تذهب إلى أنّ العلم هو المصدر الوحيد الموثوق للمعرفة. وهذه النزعة هي السبب الرئيسي لانكماش الانسانيات وعزلها. ويقول الكاتب إنّ العلوم ترتكز إلى الإنسانيات من أجل طرح أسئلة والإجابة عنها حول تبرير أيّ نوع من أنواع المعرفة، بما في ذلك العلم بالذات. وبما أنّ العلم يرتكز إلى أساسيات مثل القراءة والكتابة والتفسير والنقد، فهو يرتكز إلى الإنسانيات.
في فرنسا لا يختلف الوضع كثيراً، إذ تعاني الدراسات الإنسانية ضعفاً في الجامعات ومراكز البحوث ودور النشر، ويضطر حملة الدكتوراه في هذه الاختصاصات إلى الهجرة أو التعليم في المدارس الثانوية إذا حالفهم الحظ (19). ونقرأ في مقابلة أجرتها صحيفة "ليبراسيون" في أيّار (مايو) 2013 مع المدير العام لدار "لا ديكوفيرت" للنشر، المتخصصة بنشر كتب في العلوم الإنسانية والاجتماعية، تحت عنوان "30 عاماً من أزمة العلوم الإنسانية" (20)، عن هبوط مبيعات الكتب بمقدار النصف بين 1980 و1990، وبمقدار هائل جداً بين 1990 واليوم. ويلاحِظ أنّ شراء الكتب يكاد أن ينعدم بين مَن هم أدنى من الخمسين. ويعزو بعض الأزمة إلى انحسار المقاربات النظرية، ومنها الماركسية، وهو أمرٌ انعكس على التأليف والبيع في علمَي الاجتماع والاقتصاد على وجه الخصوص. ويضيف أنّ طلاب الجامعات باتوا لا يعرفون كيف يستعملون كتاباً، واستعاضوا عن الكتاب بتصوير بعض الصفحات والاكتفاء بمعلومات الانترنت. ومما جاء في هذه المقابلة أنّ أقلّية من الكتّاب المرموقين تلاقي كتبُهم رواجاً. والسبب أنّ هذه الكتب تَقتصر عموماً على مخاطبة ذوي الاختصاص. ويؤكد أنّ كل ما قاله غير محصور بداره بل ينطبق على بقية دُور النشر الفرنسية.
نعود إلى الولايات المتحدة لنستشهد بمقال بليغ كتبته كريستينا باكستون، رئيسة جامعة براون، حول أزمة الإنسانيات (21). يبدأ المقال بالسؤال عما يمكن فعلُه دفاعاً عن الدراسات الإنسانية، وهي لا تَخدم ظاهرياً قضايا الدفاع الوطني كما تستطيع أن تَخدمها العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بالرغم من معرفة الكل أنّ الإنسانية العلمانية هي أهم مصادر القوة التي تملكها الولايات المتحدة. وقد لحظت الموازنة القومية للعام 2013 مبلغ 139 مليون دولار لدعم الدراسات الإنسانية، وهذا يقلّ بـِ 28,5 مليون دولار عن موازنة العام 2010، علماً أنّ دعم العلوم لم ينقص، في حين يعاني دعم الانسانيات انحساراً مستمراً منذ ثمانينات القرن الماضي. والحجة التي يتمسك بها الكل لتبرير هذا التقليص هي انحسار سوق العمل بالنسبة إلى الإنسانيات، وضآلة مردودها المادّي. والمؤسف أن يكون بعضهم وجد جزءاً من الحل في جعل أقساط الدراسات الإنسانية المفروضة على الطلاب أعلى كثيراً من أقساط العلوم، بحجّة أنّ دوائرها تكلف الجامعة أكثر من الدوائر العلمية والمهنية بالنسبة إلى مردودها. وتقول الكاتبة، التي تحمل الدكتوراه في الاقتصاد، إنّ مردود الانسانيات يقاس بالنوعية لا بالكمية. فالمنطق الذي تبرَّر به فائدة كل شيء، بما في ذلك العلم، مستمَدّ من الإنسانيات لا من العلوم الطبيعية. وأعظم الاكتشافات في كل الميادين، حتى العلمية، جاءت من أشخاص قادَهم شغَف البحث، لا التفكير في منافع مادّية. وتقول إنها عندما تَسأل قادة الأعمال من خرّيجي براون عن أطيب ذكرياتهم الجامعية، فهم يَكتفون بأسماء أساتذة علّموهم إحدى مواد الكلاسيكيات أو الدين. وتَذكر رأياً أبداه مؤسس أحد مراكز الأبحاث في جامعة برنستُن عام 1929، يذهب إلى أنّ الجامعة صَمَّمت برامجها لتثقيف كل طلابها في العلوم الاجتماعية والإنسانية، لأنّ ذوي الاختصاص يحتاجون إلى ثقافة واسعة تَفتح عقولهم على أبعاد وأعماق عالمية. كما تَذْكر قولاً للرئيس أبرهام لينكولن: "نحن نحتاج إلى سياسيين قرأوا شكسبير". وتضيف أننا نحتاج إلى مصرفيين ومحامين قرأوا هوميروس ودانتي، وإلى أصحاب مصانع قرأوا تشارلز ديكنز. وفي رأيها أنْ لا شيء يجعل الناس يطرحون الأسئلة الملحّة ويجيبون عليها سوى الثقافة الإنسانية، وأنْ لا شيء يمكّن الأميركيين من المحافظة على القيم التي صنعت مجتمعهم سوى هذه الثقافة. وإذ تستثمر الجامعة في الثقافة الإنسانية، فهي إنما تَستثمر في الإنسان. والحاجة ليست إلى أُمّة من الخبراء التقنيين في حقل واحد والأُمّيين في الثقافة الإنسانية. ولا بد من التلاقح بين العلم والانسانيات من أجل مصلحة الاثنين، وفي التحليل الأخير من أجل مصلحة الإنسان، إذ إنّ الحاجة هي إلى مجتمع مدني يستطيع فيه الواحد مخاطبة الآخر والفهم عليه.
2. الإنسانيات العربية
في العالم العربي نكاد لا نسمع صرخة "أنقِذوا الانسانيات". فما السبب أو الأسباب؟ أيَكون السبب الأول في أنه لا إنسانيات في جامعاتنا العربية لكي تُنقَذ أو تُترَك وشأنها؟ صحيحٌ أنّ الجامعات العربية تؤوي دوائر مستقلة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، كالتاريخ والأدب والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتربية والاقتصاد والسياسة والحقوق والفنون. لكن ليس هناك عموماً برامج مؤلفة من مواد مختلفة من الإنسانيات تُفرَض على الطلاب في مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية من قَبيل الثقافة العامة. هذه البرامج، كما قلنا، تفسح المجال أمام الطالب كي يكتسب الثقافة إلى جانب الاختصاص، وتبرهن أنّ الجامعة لم تتلكّأ عن دَورها كمكان لصنع الثقافة. ويؤكّد غيابُ هذه البرامج أنّ جامعاتنا لم تستوعب الاتجاهات التربوية الحديثة، بل ما تزال تعتمد التلقين على أوسع نطاق. ولعل عدم وعي جامعاتنا لأهمية الانسانيات أو عدم إقرارها بهذه الأهمية عائدٌ جزئياً إلى ارتباط الدراسات الإنسانية في الثقافة والمجتمع الغربيَّين بفكرة العلمانية، أي فصل الدين عن الدولة بدءاً من عصر النهضة. والواقع أنّ "النهضة" و"الانسانيات" و"العلمانية" مفاهيم مترابطة في الفكر الغربي. ويجدر بالجامعات العربية – والجامعة مكانٌ لصنع الفكر والثقافة لا لنقلهما فحسب – أن تتأمل حسناً في المناهج والبرامج والأفكار والدراسات والتقنيات التي استوردتها من الغرب، خوفاً من الوقوع في تناقضات مضحكة بسبب ما تقبله أو ترفضه. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ الجامعة الأميركية في بيروت هي بين قلّة ضئيلة من جامعات العالم العربي التي اعتمدت برامج للانسانيات بهدف تثقيف طلابها. وتبَدّل اسم هذا البرنامج من "الثقافة العامة" إلى "الدراسات الحضارية" ثم إلى "السلسلة الحضارية"، مستلهماً اقتراحات مورتيمر آدلر وخبرة جامعات الولايات المتحدة في هذا المجال. ومن جامعات لبنان التي حاكت برامج الثقافة العامة في الجامعة الأميركية الجامعةُ اللبنانية – الأميركية (كلية بيروت الجامعية سابقاً) وجامعةُ البلمند.
إلاّ أنّ ثمّة منجماً غنياً للإنسانيات في التراث العربي، يمكن الاغتراف من خيراته بالعودة إلى النهضتين العربيتين الكبيرتين وما تلاهما: النهضة الأولى في العصر العباسي، والنهضة الثانية في القرن التاسع عشر. وطالما ركّز المفكر محمّد أركون في كتاباته على "الانسانيات العربية" ودعا إلى إحيائها واستيحائها واعتمادها أساساً لتجديد الفكر العربي على أساس نقدي (22). يسمّي أركون القرون الكلاسيكية للفكر العربي والإسلامي، وهي القرون الخمسة الممتدة بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد، "القرون الخلّاقة" التي ازدهرت خلالها حركة فكرية وثقافية وفنية واقتصادية عظيمة، توقفت مع وفاة ابن رشد عام 505 للهجرة (1198 للميلاد). ويتساءل: "ما هي الأسباب الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أدّت إلى إخفاق مفكرين عظام كابن رشد، وما هي الأسباب التي أدّت، في الوقت نفسه، إلى نجاح المؤلفين الذين أخفقوا عندنا في أماكن أُخرى؟ ابن خلدون، مثلاً، اهتم به الغربيون قبل أن نهتم به نحن". ويتابع أنّ علينا أن نعرف "ماذا حدث في الغرب بينما انعزل الفكر العربي واكتفى بتكرار مسائل ضئيلة". ويذهب إلى أنّ التنوير العربي يحتاج إلى تيّارَين حداثيَّين: تيّار النهضة العربية الكلاسيكية خلال ما يسميه القرون الخلاّقة، وتيّار الحداثة الغربية.
الإنسانيات العربية التي اعتبرها أركون حركة حداثية ودعا إلى استلهامها يمكن أن تشكّل مادة غنيّة لبرامج في الثقافة العامة تعتمدها الجامعات العربية، إضافةً إلى أفضل ما أنتجته حركة النهضة العربية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين وإلى قمم التراث الإنساني الغربي. ويمكن أن تُعتمَد مجموعة أحمد أمين الموسَّعة الوافية (23) نموذجاً للكلاسيكيات العربية. لعل الجامعات العربية، إنْ هي وعت أهمية الثقافة، تُبادِر إلى تأسيس برامج في الإنسانيات تفتحها أمام كل طلاب الاختصاص لديها، وكذلك إلى العمل المنهجي المبرمَج على نقل روائع الثقافة الغربية والعالمية إلى اللغة العربية والحفز على نقل روائع الثقافة العربية إلى لغات العالم الحية.
خاتمة
العبارات التي تكررت في هذا البحث: الدراسات الإنسانية، العلوم الإنسانية، الثقافة الإنسانية، الانسانيات، هي أسماء متنوعة لمسمَّى واحد، ألا وهو الثقافة. ولئن كانت الثقافة تحتاج إلى تبرير أو دفاع، فمبرّرها هو الغاية التي تطمح إليها، أي الإنسان: الإنسان في عقله وضميره وإدراكه ومشاعره النبيلة والخدمة التي يؤديها للمجتمع والعالم والجنس البشري. لقد انفتح العالم بعضه على بعض عبر وسائل المواصلات والاتصالات الجبارة. وهذا الانفتاح يستتبع تأثيرات متبادلة، بعضها سلبي وبعضها إيجابي. وإذا أخذنا الإنترنت على سبيل المثال، لوجدنا فيه أنواعاً هائلة من المعلومات والخدمات والتسهيلات، بينها الجيد والرديء. وإذ ابتُكرَ مفهوم "المثاقفة"، أي التبادل الثقافي، قبل وفود الإنترنت، إلا أنّ الوافد الجديد كان من أقوى العوامل التي سهلت عملية المثاقفة. لكن في الانترنت كما على رفوف المكتبات التقليدية، يحتاج الطالب إلى إرشاد مُحْكَم وحكيم، وإلى خبرة واسعة، قبل أن يكتسب العمق الذي يمكّنه من تربية فضيلة التمييز والنقد وإصدار الأحكام. وعلى رأس الفضائل التي تسهّل الثقافة ولادتَها لدى الإنسان فضيلةُ التسامح، وهي أساس السلام النفسي والعائلي والاجتماعي والعالمي. يكفي تبريراً للثقافة أنها من أجل الإنسان لكي يكتشف ذاته ومجتمعه وعالمه. يكفيها تبريراً أنها من أجل الإنسان، ذلك التائه، لكي يستعيد إنسانيته.
# إنسانيات #ثقافة #إنسانيات_عربية