قراءة في مفهوم (السياسات النكرووية ) لأشيل مبمبي

15 مايو  .   10 دقائق قراءة  .    1161


في دراسة نشرها عام 2003 بعنوان (السياسات النكرووية)  أو سياسات الموت، طور المفكر الكاميروني آشيل مبمبي نقدًا حاسما لمفهوم ميشيل فوكو عن " الحكوماتية "، وهي العملية التي يتم من خلالها تحديث تقنيات الحكم. بالنسبة لفوكو، الذي ركز تفكيره إلى حد كبير على تاريخ أوروبا الوسطى، تميزت الحداثة بإزاحة الفهم السياسي النكرووي للسيادة (التي تُمارس فيها السلطة كعنف) من خلال إدارة سياسية بيولوجية للسكان. ووفقًا لمبمبي، فإن فكرة فوكو عن السلطة الحيوية أو البيولوجية غير كافية لتفسير الأشكال الحديثة للإخضاع: فهي لا تأخذ في الاعتبار استمرار التقنيات النكرووية في الديمقراطيات الليبرالية، كما أنها تتجاهل مركزية العبودية الاستعمارية كشرط مكن تطوير الرأسمالية الغربية. إن الثورة الصناعية لا تنفصل عن الإمبريالية الاستعمارية وتقنيات العرق والسلطة. فأساس تقدم الاقتصادات الرأسمالية كان قدرتها على تحويل حياة الإنسان إلى كائن للمعاملة الاقتصادية - العبد - داخل نظام المزارع. في صميم الليبرالية كان الخلط بين العنف والسيادة من جهة والتوتر بين التداول الحر للممتلكات والحرية السياسية للذوات من جهة أُخرى. 

يبدأ مبمبي دراسته برفض الفهم الحداثي العقلاني لكيفية عمل السيادة. هذا الفهم العقلاني والإنسانوي يفترض "أن منتهى التعبير عن السيادة هو إنتاج معايير عامة من قبل هيئة (الشعب) تتألف من رجال ونساء أحرار ومتساويين. وهؤلاء الرجال والنساء ذوات كاملة قادرة على الفهم والوعي والتمثيل الذاتي. وبالتالي، تحدد السياسة بأنها ذات شقين: مشروع الاستقلالية وتحقيق اتفاق بين الجماعات عن طريق الاتصال والاعتراف. وقيل لنا إن هذا ما يميزها عن الحرب". هذا وصف للإنسانوية السياسية إلى حد كبير ويعتبره مبمبي "معياري قوي" لأنه يبدو أشبه بأُمنية أكثر من كونه حقيقة. يعود مبمبي إلى الأكاديمي البريطاني اللامع بول غيلروي وكتابه الشهير(الأطلسي الأسود: الوعي المزدوج للحداثة، 1993). يدافع غيلروي عن حداثة واسعة النطاق بما يكفي ليس فقط لتشمل المواقف الهامشية للعبيد، ولكن لتمييز الجوانب "غير اللطيفة" للرق والإرهاب بوصفها حاسمة ومنهجية ولا بد من وضعها في قلب الحداثة نفسها. يشير غيلروي إلى الطرق المتنوعة التي استجاب بها المنحدرون من أصل أفريقي وقاوموا حقيقة أن الإرهاب العرقي والعقل في الغرب الحداثي مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. 

يقدم ميمبي رؤية بديلة للسيادة، لا تعتمد العقلانية وحدها، ويصفها بأنها " التوظيف الأداتي المعمم للوجود البشري والتدمير المادي للأجساد البشرية والسكان" والتي تظهر باستمرار في الباردايم السياسي العالمي. وإذا كانت السياسة هي عمل الموت، فهل يمكن أن تكون أيضًا عمل الحياة؛ هذه الازدواجية هي بنية الوجود نفسه وهي بالتالي هيكل وجودنا السياسي. إن السلطة الحيوية "التي تعمل على أساس الانقسام بين الحي والميت" لا تمنع وظيفة الموت بالكامل، ولكن الحفاظ على الحياة هو هدفها النهائي. وبالتالي تضع السياسات النكرووية وظيفة الموت بوصفها الشكل المهيمن للسلطة التي تستخدمها الدول وأيضاً المقاومة ضد عنف الدولة. وهكذا تصبح "السلطة الحياتية والسياسات النكرووية وجهان لعملة واحدة". 

وبإدراك الاستراتيجية السياسية من خلال عدسة السياسات النكرووية، يمكننا أن نرى كيف أن السلطة لا تزال تعمل من خلال الأساليب التي تتسبب عمدا في الموت مثل سلفها، السلطة السيادية التي عملت كما يقول فوكو وفق الخطاب المشئوم ( الحق في القتل). ومع ذلك، فإن (الحق في القتل) في السياسات النكرووية أكثر تطوراً بكثير من (الحق في القتل) الذي تمتعت به السلطات السيادية الكلاسيكية؛ ذلك أن التعبير النهائي عن السيادة يكمن، إلى حد كبير، في توظيف السلطة والقدرة الاجتماعية والسياسية لتعيين الذين قد يعيشون والذين يجب أن يموتوا. أن تمارس السيادة يعني أن تمارس السيطرة على الوفيات وأن تحدد الحياة بوصفها نشر السلطة ومظاهرها. ليس (الحق في القتل) فحسب، ولكن الحق في تعريض أشخاص آخرين (بما في ذلك مواطني بلد ما) للموت، أيضا. كما أنها الحق في فرض الموت الاجتماعي أو المدني والحق في استعباد الآخرين وأشكال أخرى من العنف السياسي. سياسات الموت هي نظرية عن موتى يتحركون ويتألمون، وهي طريقة لتحليل كيف "تجبر الأشكال المعاصرة من إخضاع الحياة لقوة الموت" بعض الأجسام على البقاء في حالات مختلفة من الوجود بين الحياة والموت. وهكذا، وبدلا من اعتبار العقلانية الحداثية حقيقة السياسات، ينظر مبمبي في فئات أساسية أقل تجريدا مثل الحياة والموت. 

ولتأصيل فكرته يعود مبمبي إلى هيغل وباتاي. يشير مبمبي إلى تلك العلاقة الوثيقة في أُطروحة هيجل بين الموت والسلبية أو النفي. في سعيها لتعقل الحياة، لا تخاف فلسفة هيغل من الموت ولا تتغاضى عنه. بل تسعى إلى فهمه وتفسره وتبريره. تشكل مواجهة الموت المرحلة النفسية الضرورية لانتقال الإنسان من مجرد كائن حي إلى إنسان بكل ما للعبارة من معنى، أي إلى وعي ذاتي. والسياسة عند هيغل هي شكل من أشكال الموت يعيش حياة الإنسان. وبالنسبة لباتاي، يعد الانقطاع جزءا من تجربتنا في الحياة اليومية العادية. هناك فراغ وانقطاع بين الناس. وفقا لباتاي، ينبع احساسنا بالفردية من استخدامنا للأدوات؛ أي من الفصل الحر بيننا وبين الأشياء. يساوي باتاي الموت بـ"استمرارية الوجود"، لأن الموت ينزعنا من الهوس العنيد بمواصلة وجودنا المتقطع. تحدد السيادة برفض قبول الحدود التي يتوجب احترامها من قبل الذات خوفا من الموت. 

ينتقل مبمبي بعد ذلك" لفحص المسارات التي أصبحت بموجبها حالة الاستثناء وعلاقة العدائية الأساس المعياري للحق في القتل. في مثل هذه الحالات، تلجأ السلطة (وليس بالضرورة سلطة الدولة) باستمرار إلى الاستثناء، والطوارئ، وفكرة العدو المتوهم ". إن مجموعة العوامل هذه، وطريقة عمل السلطة ضد هؤلاء الأعداء، تشكل ما يسميه مبمبي السلطة النكرووية.

يفكر مبمبي في كيفية إنتاج "الخيال الغربي" سرديات لتبرير وضع العدو للأشخاص الذين ينوون استغلالهم. إن العبودية مبررة، على سبيل المثال، على أساس سردية ترى الأفارقة متوحشين بشكل أساسي وسيقتلون الأمريكيين والأوروبيين إذا استطاعوا ذلك. يؤكد مبمبي على فكرة فوكو عن العرق بوصفه مفهوما يُوظف" لتنظيم توزيع الموت وجعل وظيفة الدولة الاجرامية ممكنة". توجّه العنصرية العداء المتضمن في السلطة تجاه أشخاص معينين. يصف مبمبي توجيه العداء هذا بأنه " تصور أن وجود الآخر على أنه محاولة لاغتيال حياتي، على أنه تهديد قاتل أو خطر مطلق من شأن التخلص منه أن يقوي قدرتي على الحياة والأمن". 

يوضح مبمبي، في انعطافة تعيدنا إلى المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، "أن الرغبة هي تلك الحركة التي من خلالها يسعى الذات - المحاط من جميع الجهات بفانتازيا معينة (سواء كان ذلك في القدرة الكلية أو التدمير أو الاضطهاد ) - للعودة إلى نفسه على أمل أن يحمي نفسه من الخطر الخارجي. أحيانا تفيض الرغبة خارج نفسها لتصارع الخيال الذي يحاصرها. ثم تبدأ محاولات القبض على الكائن المزعج. ولأن ذلك الكائن في الواقع لم يكن موجودًا أبدًا - لم يوجد ولن يوجد - فلا بد لها أن تخترعه. ومع ذلك، فهو كائن غير حقيقي. إنه يمثل مساحة فارغة وساحرة، منطقة هلاوس يقطنها الأشرار. تتطلب استعادة خبرة المرء بوجوده الخاص قطيعة أو انفصالا عن أُولئك الذي لا يعد غيابهم أو حتى اختفاؤهم بالكامل خسارة على الإطلاق - أو هكذا يريد المرء أن يصدق. إنه يتضمن أيضا الاعتراف بأن لا شيء مشترك بيننا وبينهم. القلق من الفناء هو في صميم مشاريع الانفصال المعاصرة. الرغبة في العدو والفصل العنصري والانفصال والتطويق وفانتازيا الإبادة، تقطن كلها في هذه المساحة المسحورة. في عدد من الحالات، يكفي الجدار للتعبير عن كل هذا. هناك عدة أنواع من الجدران، لكنها لا توجد لأداء نفس الوظائف. يحل جدار الفصل مشكلة الأعداد الزائدة، الفائض الوجودي الذي يرى البعض أنه السبب الأساسي لمعاناة لا تطاق. 

يصف مبمبي نظام العبودية كحالة استثناء مبنية على نظام العدوانية العنصري. الإنسان المستعبد هو في نواح كثيرة الإنسان- الاستثناء، اللا- انسان، أو جزء من الحياة العارية. هنا يرصد مبمبي مفارقة ذات شقين: من ناحية، الشخص المستعبد هو "الشكل المثالي للظل". حياة الناس المستعبدين متناقضة لأنها تختلف جذريًا عن حياة مالكيهم. إن "حالة الألم" التي يجب أن يبقى فيها المستعبدين هي طريقة لفصلهم جذريًا قدر الإمكان ككائنات ينصب عليها العداء، وجعلهم مختلفين قدر الإمكان عن مالكيهم. والمفارقة الثانية هي حفاظ العبيد على "وجهات نظر بديلة" عن طريق الموسيقى وأنماط المقاومة الأخرى على مستوى الجسد. 

وبالانتقال إلى نموذج الاستعمار، يجادل مبمبي بأن المستعمرات كانت أماكن الاستثناء لأن القوى الأوروبية لم تعتبرها "دولًا". المستعمرة هي "المنطقة التي يُعتبر فيها عنف حالة الاستثناء عاملاً في "خدمة الحضارة ". الرغبة في الفصل العنصري وخيالات الابادة ليست ظواهر جديدة، ولكنها استمرت في التحول عبر التاريخ، وخاصة داخل المستعمرات القديمة. وعلى مدار هذه الفترة الطويلة، أخذ تأسيس المستعمرات وإعادة التوطين العالمي في كثير من الأحيان شكل عدد لا يحصى من الفظائع والمذابح التي لم يسبق لها مثيل، حالات "التطهير العرقي"، والطرد، والترانسفير، وتجميع سكان بأكملهم في المخيمات؛ إبادة جماعية حقيقية. 

وبعد إنشاء موقعين لحالة الاستثناء (المزرعة والمستعمرة) في التاريخ، ينتقل مبمبي إلى مظاهر هذه الظاهرة في "الحداثة المتأخرة"؛ أي الأحداث التي حدثت بعد أن اختفى الاستعمار الرسمي تقريباً. كان تنظيم الفضاء الاستعماري وسيلة لتحديد "من يهم ومن لا يهم". هذا فصل صارخ للغاية، ويتم تحقيقه عن طريق الفصل المادي الكلي." في كل مكان، بناء الجدران الخرسانية والأسوار و"الحواجز الأمنية" الأخرى يجري على قدم وساق. وإلى جانب الجدران، تظهر هياكل أمنية: نقاط التفتيش، والحجز، وأبراج المراقبة، والخنادق، وجميع أنواع الترسيم التي ليس لها وظيفة سوى تكثيف تقسيم مناطق بأكملها، دون تحقيق أي نجاح في إبعاد أولئك الذين يعتبرون تهديدًا. هذا هو الحال في تلك المدن الفلسطينية المحاطة بالكامل بمناطق تحت السيطرة الإسرائيلية". 

في الواقع، يمثل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كما يشير مبمبي، " مختبرا لعدد تقنيات التحكم والمراقبة والانفصال التي يتم تنفيذها اليوم بشكل متزايد في أماكن أخرى على هذا الكوكب". تتراوح هذه التقنيات "من الإغلاق المنتظم لمناطق بأكملها إلى القيود على عدد الفلسطينيين الذين يمكنهم الدخول لإسرائيل والأراضي المحتلة، من فرض حظر التجول داخل الجيوب الفلسطينية إلى ضوابط الحركة على السجن الموضوعي لمدن بأكملها. نقاط التفتيش الدائمة أو المؤقتة، والكتل الاسمنتية وتلال الأرض التي تخدم بمثابة حواجز طرق، ومراقبة الفضاء الجوي والبحري واستيراد وتصدير جميع أنواع المنتجات، والتوغل العسكري المنتظم وهدم المنازل وتدنيس المقابر، واقتلاع بساتين الزيتون، وتحويل البنية التحتية إلى ركام، والقصف الوحشي والاغتيالات المستهدفة، وتقنيات مكافحة التمرد، وضبط العقول والاجساد والمضايقات المستمرة، وتقسيم الأرض الى أجزاء أصغر وأصغر والعنف الخليوي والجزيئي، وتعميم نماذج ترتكز على المخيم واعتماد كل وسيلة من شأنها فرض نظام للانفصال يعتمد عمله بشكل متناقض على التداخل والتقارب مع أولئك الذين تم فصلهم". السكان بالكامل هم هدف "السيادة" لمجرد العيش في مناطق الموت أي الأراضي المحتلة مثل غزة والضفة الغربية. 

أدى توسيع المستوطنات الإسرائيلية في هذه المناطق والمقاومة التي قوبلت بها إلى عسكرة الحياة اليومية. هذا العسكرة المكثفة هي حيلة استراتيجية تجعل الأجساد في حالة من السيطرة الشديدة حيث تكون السلطة مرئية وفي كل مكان". لذلك يوضح مبمبي أن "الاحتلال الاستعماري الحديث المتأخر هو سلسلة من السلطات المتعددة: الانضباطية والسياسات الحيوية والسياسيات النكرووية".

 تذكر مثل هذه الممارسات بنموذج الفصل العنصري في جنوب افريقيا، مع بانتوستاناته، وخزاناته الشاسعة من العمالة الرخيصة ومناطقه البيضاء وسلطاته القضائية متعددة الطبقات وعنفه الوحشي. ومع ذلك، فإن استعارة الأبرتهايد لا تفسر بالكامل الطابع الخاص لمشروع الفصل الإسرائيلي. لأن هذا المشروع يعتمد على أساس ميتافيزيقي ووجودي. إن العناصر المروعة والكارثية التي يقوم عليها الاحتلال الاسرائيلي أكثر تعقيدًا، وتستمد من أفق تاريخي أطول من تلك العناصر التي تستخدم لدعم الكالفينية(اللاهوت المصلح) في جنوب إفريقيا. علاوة على ذلك، نظرًا لطبيعة "التكنولوجيا الفائقة"، فإن تأثيرات المشروع الإسرائيلي على الجسد الفلسطيني أكثر رعبا بكثير من العمليات البدائية نسبيا التي قام بها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بين نهايات الاربعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. هذا يتضح من تصغير اسرائيل للعنف؛ الخليوي والجزيئي، ومختلف تقنيات المحو المادي والرمزي. كما تتجلى أيضا في إجراءاتها وتقنياتها في الهدم؛ هدم كل شيء، سواء البنى التحتية والمنازل والطرق أو المناظر الطبيعية وسياسة التدمير المتعصبة التي تهدف إلى تحويل حياة الفلسطينيين في كومة من الأنقاض أو كومة من القمامة الموجهة للتطهير. في جنوب أفريقيا، تلال الأنقاض لم تصل إلى هذا الحجم. كان من المستحيل بالنسبة للأقلية البيضاء القيام بتطهير عرقي منهجي منظم على غرار نموذج المستعمرات الأخرى. فعمليات الطرد الجماعي والترحيل لم تكم خيارًا. 

لم تبلغ جدلية المكان: القرب والبعد والسيطرة، تلك التكثيفات التي نراها في فلسطين أبدا. في الأراضي المحتلة، نشهد مثل هذا القرب في استمرار سيطرة إسرائيل على إدارة السجل السكاني واحتكارها إصدار بطاقات الهوية الفلسطينية. هذا هو أيضا الحال مع جميع جوانب الحياة اليومية، مثل الترحيلات المنتظمة، واصدار التصاريح المختلفة، ومراقبة الضرائب. والغريب أن هذا النموذج من الانفصال ليس مصمما وفق مطالب الاحتلال (أو التخلي، إذا لزم الأمر) فقط. ولكن يمكن أيضًا، عند الضرورة، أن يتحول إلى أداة خنق. "الاحتلال هو شكل من أشكال النضال العاري، نوع من القتال بين الجثث في نفق مظلم".

يوضح مبمبي أيضا ظروف الحرب المعاصرة، التي تقوم بها المنظمات التي يسميها "آلات الحرب". ربما الشيء الرئيسي هنا هو أن آلات الحرب ليست، أو على الأقل ليست فقط "الجيوش" التقليدية. لا ترتبط بالضرورة ارتباطًا مباشرًا بالدول، فهي "منظمات متعددة الأشكال ومنتشرة"، وهي تعمل لمجموعة متنوعة من الأغراض. قد تشمل آلات الحرب أيضًا جنودًا خاصين أو مقاولين عسكريين أو استشاريين أو قوات الأمن التي تستخدمها المصانع أو تجار المخدرات والمرتزقة والقراصنة، وما إلى ذلك. يقول مبمبي إن "آلات الحرب ظهرت في إفريقيا خلال الربع الأخير من القرن العشرين في علاقة مباشرة بتآكل قدرة الدولة بعد الاستعمار على بناء الأسس الاقتصادية للسلطة والنظام السياسي". أي شخص درس سياسات التكيف الهيكلي يعرف بعض الطرق التي حدث بها ذلك، ولكن دون الخوض في التفاصيل يجب أن نلاحظ أن ضعف الدول في أفريقيا (وأماكن أخرى في نصف الكرة الجنوبي) له علاقة بمطالب رأس المال الدولي، كما تشير مناقشة مبمبي "لاستخراج الموارد". نظام العنف ما بعد الاستعماري هو في الأساس نكرووي بسبب القهر العنصري التاريخي المتأصل في الاستعمار. علاوة على ذلك، فإن تمثيل الغرب للقارة الإفريقية على أنها في حالة حرب دائمة يمثل السرد النكرووي عن هذه الدول بالإضافة إلى البُنى الخطابية المدمرة للشعوب الأفريقية. هذا لا يعني أنه لا توجد حرب في القارة الإفريقية، لكن الغرب يبرز نفسه على النقيض من الدول الأفريقية ويختار تجاهل تواطؤه في الحرب. يقرر مبمبي بالفعل أن الأنماط غير السياسية للسيطرة منتشرة في الدول الأفريقية، إلا أنه يقترح أيضًا أن هذا ليس خاصا بأفريقيا وحدها ويمكن تحديده على نطاق عالمي.

يميز مبمبي بين منطق الاستشهاد ومنطق البقاء، لكنه يتحدث بإسهاب عن منطق الاستشهاد. ومن الواضح أن كليهما ينطويان على تغييرات نفسية معينة، حيث يضع مبمبي مصطلحي "الموت" و "الإرهاب" أيضا. إصراره على أن أيا من هذين المنطقين لا يميز الموت عن الإرهاب يبدو مهما جدا. يمكنك أن تتخيل فهماً يستخدم فيه شخص قوي الارهاب، الإرهاب المرتبط بتهديد الموت، ضد شخص آخر، ومن ثم سترى الارهاب من جانب (الطرف القوي) والموت من الجانب الآخر (الضحية). والفكرة التي يلمح إليها مبمبي هنا تتعلق نوعًا ما بالمعنى الهيغلي الذي يربط الموت بتحقيق الحياة البشرية، ولكن بالنسبة لهايدغر، فإن السؤال ليس عن العملية التي يتناول بها العقل الموت، بل فكرة أن الطريقة الوحيدة للعيش "بشكل أصيل" هي العيش في خوف من الموت. في التضحية بالنفس، والتي قد نسميها نوعًا من "الحياة غير الأصيلة" التي تعيش من أجل الموت، يلاحظ مبمبي عنصر الخداع الذي يحرك التفجيرات الانتحارية، يعتمد المنتحر على إجراءات مفصلة للتخفي ولكنه ينشر فضيحة وموتًا، في ذهن الانتحاري، ليس موتًا حقًا لأنه يتيح الوصول إلى الحياة الأبدية. 

يستشهد مبمبي مرة اخرى بغيلروي. في (الأطلسي الأسود)، يرى غيلروي أن الأعمال الانتحارية التي ارتكبها العبيد في أمريكا أعمال مقاومة. بالنسبة لهم، يُستخدم الموت كوسيلة للتأكيد على أن "الحياة" المستعبدة هي نوع من اللا- حياة أو حياة عارية. يجادل مبمبي بأن فعل الانتحار له آثار سياسية. لا يصبح هروبًا من حالة "الموت في الحياة" فحسب، ولكن طريقة للرد على مالك العبيد: "من خلال تدمير أجسادهم وبالتالي حرمان السيد من استخدام أجسادهم كسلعة، يسيطر العبد على حياته بالطريقة الوحيدة التي بقيت له". وعندما يصبح الجسد هو موقع سيطرة الدولة، يعتقد مبمبي أنه يمكننا قراءة آثار أعمال المقاومة العنيفة. يصبح الجسد نفسه مساحة متنازع عليها وايذاؤه يضر أولئك الذين لهم مصلحة في السيطرة عليه. في إطار مبمبي، يمكن أن تصبح بعض أنواع الانتحار وإيذاء الذات كالإضراب الطويل عن الطعام وسيلة لممارسة فاعلية فردية وتخريب هياكل السلطة.

إلى جانب عمليات القتل الجماعي والإبادة، يجادل مبمبي أن السياسة النكرووية تنطوي على مراقبة الأفراد ليس فقط لأغراض الانضباط، ولكن لاستخراج أقصى فائدة منها، كما هو الحال في حالة العبودية الجنسية. 

تأتي "جرعات الموت الصغيرة" من "العنف الاجتماعي والاقتصادي والرمزي غير المحدود" الذي يدمر الأجساد وقيمة وجودنا الاجتماعي ويصنع حشدا من الناس الذين يعيشون على حافة الحياة ويتربصون الموت في كل لحظة. هذه حياة لا داعي لها، وبالتالي، فإن سعرها ضئيل للغاية بحيث لا مقابل لها سواء في السوق أو حتى أقل - عند الانسان نفسه. يُنتج الإذلال اليومي الذي ترتكبه السلطة النكرووية على بعض السكان مثل "المجازر الصغيرة" التي تحدث من حين لآخر وغياب السلع الاجتماعية الأساسية (مثل الصرف الصحي والإسكان)، وجودًا تكون قيمته "موت نتألم فيه". 

وهكذا، إلى جانب "العنصرية الهيدروليكية" التي تحدد العنصرية المؤسسية (الدولة والقانون والإدارة)، يهتم مبمبي بما يُطلق عليه "العنصرية النانوية" التي يتم نشرها في العلاقات الاجتماعية اليومية، والمصممة للوصم والإصابة والإذلال"، هؤلاء ليسوا منا. 

يمكننا هنا أن نذكر واقعة قتل الشرطي الأمريكي مواطنه الأسود جورج فلويد. أعتقد أن أفضل تعبير عن الفكرة جاء في (نقد العنف) لوالتر بنيامين. يقول بنيامين: "إن التدمير الذي ينتهك القواعد مثل ذلك الذي تنفذه الشرطة أمر جوهري للسلطة السيادية، التي لا يحكمها العقل". من خلال العمل بوصفها أحد عوالم الموت، تحول الممارسات الشرطية العنيفة الفضاء الحضري إلى مصدر للخطر. وتُحدد الجسد الأسود كهدف مناسب للمحو من قبل أولئك الذين سيستعيدون النظام، وتضع حياة السود جميعا على مسار المحو. إن تصرف الشرطي الذي قتل فلويد بدم بارد، أيا كانت نيته، هو مشروع نكرووي. لا تحتاج المشاريع السياسية النكرووية إلى إنتاج جثة ميتة كي نقول أنها تعمل. وسع مبمبي مفهومه وأدرج فيه العوامل التي تتطور من حالات فردية لتشمل مجتمعات بأكملها. على الرغم من أن تحليل فوكو يرى أن الانضباط الذي تمارسه الشرطة(ومؤسسات أُخرى بطبيعة الحال) محوري في إدارة وتنظيم السكان، ألا أنه يمكننا القول أن تغاضى الدولة أو تواطؤها مع الممارسات الشرطية العنيفة مظهرا من مظاهر سلطة الموت وليس سلطة الحياة، مما ينتج أجسامًا لا وظيفية تنتظر الموت. 

يمكن أيضا توظيف مفاهيم مبمبي عن السياسات النكرووية لفهم اجراءات الدول في مواجهة جائحة كورونا. أثارت سياسة الاقتصاد القومي جدلاً كبيرا، والسؤال حول ما يجب أن يكون الأولوية السياسية في هذه اللحظة، إنقاذ الاقتصاد أو السكان؟ اختارت الحكومة البرازيلية والأمريكية والبريطانية منذ البداية إعطاء الأولوية لإنقاذ الاقتصاد. هذا هو منطق التضحية الذي كان دائمًا في مركز النيوليبرالية، والتي يجب أن نسميها النيوليبرالية النكرووية، وفقا لمبمبي، يعمل هذا النظام دائمًا على أساس جاهزية الحساب؛ فكرة أن بعضنا(أفرادًا أو اشياءً) يستحق أكثر من البعض الآخر. ومن لا قيمة له يمكن التخلص منه. السؤال هو ماذا نفعل مع أولئك الذين نقرر أنهم بلا قيمة؟ يؤثر هذا السؤال بالطبع دائمًا على نفس الأعراق ونفس الطبقات الاجتماعية ونفس الجندر. يتم توزيع المخاطر اليوم وفقًا لمقياس. الحرب هي مثال آخر على ممارسة السياسة النكرووية في مواجهة الجائحة. هناك صعوبة في تسمية ما يحدث في العالم. إنه ليس مجرد فيروس. ولعدم معرفة ما هو قادم، تبنت الدول في كل مكان المصطلحات القديمة للحرب. علاوة على ذلك، يتراجع الناس مرة أخرى إلى حدود دولهم القومية. يعود الناس إلى المنزل وتغلق الحدود الجيوسياسية. وتستجيب الحكومات لهذا الوباء بإيماءات قومية وبمخيلة الحدود والجدار. 

 

 

 

  2
  0
 0
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال