22 مايو . 7 دقائق قراءة . 22323
في فلم "غاندي" الصادر سنة 1983 للمخرج البريطاني "ريتشارد أتنبورو"، يقول الممثّل "بان كينجسلاي" الذي يلعب دور غاندي خلال مشهد يجتمع فيه وفد هنديّ بوفد بريطانيّ "رغم أحسن النوايا لأفضلكم خُلُقا، فإنّه يجب، من طبيعة الأشياء، أن تُذِلّونا كي تتحكّموا بنا". لا أدري إن كان التاريخ قد سجّل أن المهاتما نطق بالفعل بهذه الكلمات، لكنّه من الثّابت أنّ الهدف الأساسيّ لمن يحاول التقليل من شأنك، هو أن يتحكّم بك.
إذا ما انطلقنا من فكرة أنّ جميع البشر يولدون متساويين، فإنّه من طبيعة الأشياء أنّ من يحاول التقليل من شأنك، لا يمكن أن يحتلّ مرتبة أعلى من مرتبة إنسان آخر. لذلك ليس له من حلّ كي يعلو عليك إلّا أن يُشْعرك بأنّك أقلّ منزلة منه، وإذا ما نجح بإقناعك بهذه الفكرة، نال مبتغاه وفرض سلطته عليك.
قد تحرّكه أسباب عديدة: الغيرة، الخشية منك ومن أن تشكّل عائقا في طريقه، جروحه الداخليّة التي يحاول ألّا ينظر إليها بتحويل انتباهه نحوك، ضعفه الذي يحاول التغطية عليه بإظهار ضعفك، عدم رضاه عن حياته وقلقه تجاه ذلك الذي يبدو سعيدا فيعكس له صورته هو، كفاشل في الوصول إلى السعادة...وغيرها من الأسباب. لكنّ الهدف واحد عادة، وهو إخضاعك لسلطته ومآربه، وتحييدك عن الإصغاء إلى نفسك، بحيث تعتقد أنّك غير كافٍ، وأنّك بحاجة إلى سلطة خارجيّة – سلطته هو – كي تقرّر حياتك.
من أبسط الحلول وأكثرها جذريّة، هو أن تغيّر محيطك وتطرد من يحاول التقليل من قيمتك من حياتك إن كان ذلك ممكنا. قد يكون هذا حلّا سهلا نسبيّا إذا ما كان من يسعى إلى التقليل من شأنك شخصا عابرا في حياتك. لكن الإساءة تأتي أحيانا من أقرب الأشخاص إلينا، فيكون قطع بعض العلاقات القريبة عسيرا وباهظا من الناحية العاطفيّة، إلّا أنّ استمرار الإساءة على المدى الطويل قد يجعل أحيانا إنهاء تلك العلاقات أرحم لنا.
ليس بالإمكان تطبيق هذا الحلّ في جميع الحالات، وربّما ليس هو الأفضل دائما. قد تحتاج أحيانا إلى أن تفسّر لذلك الشخص على حدة بما تشعر به عندما يتوجّه إليك بتلك الطريقة المسيئة، فقد لا يكون على علم بوقع كلماته.
اقرأ أيضًا عن تقوية الشخصيّة في منصّة مرداد:
لتقوية شخصيّتك، لا تغيّر تصرّفاتك مع غيرك
وفي هذه الحالة، سوف تلاحظ – وهذا يتوقّف على قوّة بصيرتك وصقلك لها – إن كانت إجابة ذلك الشخص المسيء نابعة عن حسن أم عن سوء نيّة. فقد ترى في عينيه براءة ذلك الذي لا يعي ما يقول واستعداد من يحاول أن يأخذ مشاعرك بعين الاعتبار. أوقد ترى في عينيه نفاق من يحاول التغطية على سوء نيّته في التقليل من شأنك، بتصنّع البراءة. وستختلف طبعا ردّة فعلك بين حالة وأخرى.
فإن لاحظت أنّ ذلك الشخص يسعى عن قصد إلى التقليل من شأنك، ربّما تحتاج أوّلا إلى أن تضع الأمور في إطارها، وإنّك تحتاج إلى وضع الأمور في إطارها في جميع الأحوال. هذا يعني أنّك قد تحتاج إلى مراجعة نفسك: هل سبق وأن أحرجت ذلك الشخص دون وعي منك؟ أو صرخت في وجهه؟ أو حتّى أن وجّهت إليه بطريقة غير مباشرة بعض الاستفزاز؟ أو استعرضت نفسك ونجاحاتك أمامه بتبجّح دون أن تأخذ بعين الاعتبار ضعفه أو فشله أو ربّما فقره؟ ربّما كانت هذه فرصة لتدرّب نفسك على اللّطف تجاه الآخرين ومشاعرهم.
في جميع الأحوال، سوف يُطرح سؤال ردّة الفعل. هل ستنتقم بمحاولة التقليل من شأنه أيضا؟ إن كان بعض الأشخاص بحاجة إلى أن يعرفوا حقيقتهم وإلى أن يوضع لهم حدّ، وإن كنت أنت من سيعلّمهم حقيقتهم، فلا بدّ من أن يكون كلامك لهم مقتضبا موزونا وأن ينمّ عن قوّة داخليّة حقيقيّة كي يكون له وقع، أي أنّك تتمتّع بثقة فعليّة بنفسك تمنحك سلاما داخليّا وليس فقط بعجرفة.
لكن الدخول في دائرة الانتقام بصفة عامّة هو حلقة مفرغة، تستنزف الكثير من الجهد ومن كرامة النفس، وكما يُقالُ "لا تدخل في صراع مع خنزير. سوف يتّسخ كلاكما لكنّ الخنزير يحبُّ ذلك".
كنت محامية مباشرة في فترة ما من حياتي، ورأيت خلال ممارستي للمهنة محامين لا يتوانون عن محاولة التقليل من شأن زملائهم في إطار نزاع قضائيّ أو محادثات صلح. وشاءت الأقدار أن اشتغلت في مكتب محام متميّز، عمل كثيرا على تطوير ذاته. فرأيت ذات يوم خلال محادثة هاتفيّة مع أحد الزملاء حول اتفاق تسوية لطرد عامل، أنّه لا يعير أيّ اهتمام للملاحظات المسيئة والمتعدّدة من قبل زميلنا ويجيب وكأنّه لم يسمعها البتّة، مركّزا كل اهتمامه على النقاط المرتبطة بالملفّ فحسب. ولمّا سألته فيما بعد كيف لم يغلق السماعة في وجه المحامي الآخر بعد كلّ تلك الإساءات، قال لي ببساطة: "آه! تلك الملاحظات؟ هناك أشياء تؤثّر في، لكن ليس تلك. لا أعيرها أيّ اهتمام!". ومن الطريف، أنّه استطاع في ذلك الملفّ أن يتحصّل على مبلغ قياسيّ لتعويض العامل على طرده من قبل الشركة التي كانت توظّفه، والتي كان يمثّلها ذلك المحامي المسيء.
يُمكن لك أنت أيضا أن تُذكّر نفسك بقيمتك عند تعرّضك لمحاولة التقليل من شأنك، وألّا تعير أيّ اهتمام لما يُقال لك ، وحتّى أن تضحك في وجه ذلك المسيء إليك، وقد يصدمه ضحكك منه. لكن من المهمّ أن ينبع ذلك من اقتناع راسخ لديك بقيمتك، لذلك فأنت بحاجة إلى أن تعود إلى داخل نفسك وتتأمّل ذاتك كي تفهم ما يجري بها، وتداويها إن احتجت إلى ذلك.
قد نتعرّض إلى إساءات عديدة في حياتنا، لكن لماذا قد يؤثّر فينا كلام دون غيره؟ من الواضح أنّه كلام يلمس نقطة ضعف في دواخلنا. وفي أغلب الأحيان فإنّ ما نعيشه في الخارج، ليس إلّا بلورة لما يحدث بداخلنا. فإذا ما كنت مثلا تشعر بالنقصان لأنّك تمارس مهنة دون غيرها، فمن الوارد جدّا أن يعترض سبيلك من سيحاول أن يقنعك بأنّك ناقص وغير كافٍ لهذا السبب تحديدا.
كتب الكنديّ "جان مونبوركات" كتابا مميّزا باللغة الفرنسيّة عن ترويض المرء لنقاط الظلّ في شخصيّته . ومن المثير للاهتمام أنّه يقول إنّ الإنسان الذي يطمس نقاط الظلّ في شخصيّته ويحجبها عن وعيه، يكون عرضة إلى العديد من المشاكل النفسيّة والاجتماعيّة، وإنّ من لا ينظر إلى نقاط الظلّ لديه بطريقة واعية، يتعرّض إلى ظهورها في حياته رغما عنه في علاقاته مع الآخرين.
يبقى تطوير المرء لحياته الداخليّة الحجر الأساس في كلّ عمليّة لتطوير الذات، لأنّ الحياة على عكس ما قد يظنّ البعض، لا تسير من الخارج نحو الداخل بل من الداخل نحو الخارج. ولذلك ربّما كان أوّل ما عليك أن تفعله عندما يحاول أحدهم التقليل من شأنك، هو أن تسأل نفسك: فيما أرى نفسي ناقصا وغير كافٍ؟
بقلم اسمهان الشعبوني
(1) Jean Monbourquette, Apprivoiser son ombre, le côté mal aimé de soi, 1997, Novalis /Bayard, Montréal/Paris.
18 مايو . 7 دقائق قراءة