21 مايو . 6 دقائق قراءة . 517
اتّصل العقيد بالأستاذ الجامعي الذي أسره التوتّر، قبيل منتصف اللّيل بثلث ساعة. قال له:
*أعتذر منك دكتور!.. لم أستطع الحصول على أيّة معلوماتٍ تتعلّق بالدكتور أحمد عامر، ولكن من جهةٍ أُخرى، استطعت أن أحصل على معلوماتٍ تتعلّق بزوجته.
- حقًّا؟!..
*نعم!.. هي موقوفةٌ في بيروت. هذا ما علمته فقط.
- أهي أيضًا متّهمة؟!..
*حسبما تبلّغت، لا.. لذلك سأعمل المستحيل للمساعدة في الإفراج عنها في أقرب وقت.
- هذه خدمةٌ لن أنساها طوال عمري.
*أنت تعرف أنّني في النّهاية ضابطٌ إداريٌّ ولا علاقة لي بالدّوائر التي تتابع مثل هذه المواضيع، لكنّني شعرت بمدى قلقك على صديقك وزوجته، وقد أثّر هذا الأمر بي كثيرًا، لذلك لن يغمض لي جفن اللّيلة، على الرّغم من مرضي، قبل أن أطمئنّ على زوجة الدكتور عامر، وأتأكّد أنّهم سيفرجون عنها.
- لن أنسى لك هذا المعروف ما حييت.
*هذا أقل واجب عليّ، فأرجوك ألا تقلق!.. سأعاود الاتّصال بك لأبلغك بالتطوّرات.
أقفل الرّجلان خطّي هاتفيهما مجدّدًا. لاح على وجه الأستاذ الجامعي بعض الفرح بعد ما سمعه، لكنّ عينيه كانتا غارقتين في الحزن والخوف على صديقه، فجافتا النّوم في تلك اللّيلة. لم يجد الصّديق الوفي بُدًّا من الانتظار. جلس أمام شاشة "التّلفزيون" وراح يقلّب موجاته، علّه يشاهد ويسمع ما يريحه، وجعل من كأسٍ ملأها "بالويسكي" وقطع الثّلج، أنيسًا يخفّف من توتّره وقلقه.
مرّ الوقت ثقيلاً. بدأت عقارب السّاعة تتلهّف إلى معانقة بعضها بعضًا فوق الرّقم واحد. كان لا يزال مسمّرًا أمام شاشة "التّلفزيون" ويرتشف "الويسكي" من كأسه الثّالثة عندما رنّ جرس هاتفه الخلوي. أجاب بسرعةٍ على المتّصل. كان سمير حصرمي نفسه. قال له بكلماتٍ متراخية:
*"مشي الحال" دكتور.. أُفرج عن زوجة صديقك وهي في طريقها إلى منزلك الآن. طلبت لها سيّارة أجرة وأبلغت السّائق بعنوان منزلك. لا أزال أذكره. طبعًا لم تغيّر عنوان سكنك، أليس كذلك؟!..
- لا.. لا.. العنوان ذاته.. أشكرك أيّها العقيد، أشكرك. سأكون في انتظارها.
*هي لا تستطيع العودة إلى منزلها الآن، فأنت تعرف التّدابير الأمنيّة في مثل هذه الحالات.
- طبعًا، طبعًا..
كرّر فريد عبارات الشّكر لضابط الأمن مرّاتٍ عدّة قبل أن يقفل خطّه. شعر ببعض الارتياح. ظنّ أنّ ما قام به هذا الرّجل تطلّب جهدًا استثنائيًّا. بدأ يستعدّ لاستقبال "آنا". قدمت بعد نصف ساعةٍ تقريبًا. كانت متعبةً وغارقةً في الحزن. عانقها بحرارةٍ فبكت فوق كتفه بحرقة وبكى مثلها. راحت تقصّ عليه تفصيل ما حدث. أخبرته أنّ معتقلي زوجها تصرّفوا معه بخشونة، وعلم منها أنّ رجال الأمن لم يستجوبوها أو يطرحوا عليها أيّ سؤالٍ طيلة السّاعات التي أُوقفت خلالها. استغرب الأمر!.. لكنّه لم يطل تفكيره به عندما سمعها تقول:
- غدًا صباحًا سأتوجّه إلى السّفارة الكنديّة.
أدرك أنّ هذه الخطوة ستساعد على توضيح الأمور أكثر؛ فصديقه يحمل الجنسيّة الكنديّة، وزوجته مواطنة من كندا، ولن ترضى هذه الدّولة المتقدّمة من ترك اثنين من مواطنيها فريسة اعتقالاتٍ بعيدةٍ عن الأصول القانونيّة، ولا ضحيّة اتّهاماتٍ من دون وجود دليلٍ حسّيٍّ وملموسٍ عليهما.
في الصّباح، قصد الاثنان مبنى السّفارة الكنديّة شرقي بيروت. استطاعا أن يجتمعا إلى القائم بالأعمال فيها، فشرحا له الوضع، واستفسر الرّجل من المرأة عن أسماء اليهود الثّلاثة الذين ذكرهم التّقرير الإخباري في إحدى المحطّات التلفزيونيّة. أبلغته أنّهم زملاء زوجها في العمل وهم معروفون على نطاقٍ واسعٍ كاختصاصيّين مشهورين في البيئة، ولهم مكانتهم في المؤسّسة التي يعملون فيها، وكانوا يتردّدون معظم الأوقات معه إلى مطعم "أضواء المدينة" في "تورنتو" لتناول الطّعام والتحدّث في شؤونٍ مهنيّة ليس أكثر، خاصّةً أنّ المطعم قريبٌ جدًّا من مبنى المؤسّسة التي يعملون فيها. وعن الضّابط "دايفيد"، قالت:
- لا أعلم شيئًا عنه، لكنّ طبيعة عمل أحمد كانت تقضي بلقاء أشخاصٍ مرموقين، وكان يفضّل اصطحاب أولئك إلى المطعم ذاته ليتحدّث إليهم بحريّةٍ وراحة.
تأثّر القائم بأعمال السّفارة الكنديّة بما سمعه من مواطنته. أدرك فورًا أنّ اتّهام زوجها بالتّعامل مع جهاز الموساد الإسرائيلي كاذبٌ وملفّق، فأجرى اتّصالاً سريعًا بالسّفير الموجود خارج لبنان، وشرح له الأمر. أبلغه السّفير أن ينقل تحيّاته إلى "آنا" وأن يلبّي ما تحتاجه، واعدًا بإثارة الموضوع على مستوياتٍ عليا لحلّه في أقرب وقت.
حمل ذلك الصّباح تباشيره. شعر فريد بارتياحٍ كبير بعد زيارة السّفارة الكنديّة. فضّلت زوجة صديقه النّزول في أحد الفنادق ريثما يتمّ السّماح لها بالعودة إلى منزلها، فقصدت الفندق فور مغادرتها مبنى السّفارة، وعاد الأستاذ الجامعي إلى شقّته، ليجري العديد من الاتّصالات الهاتفيّة بأصدقاءٍ وسياسيّين للوقوف على تطوّرات الأوضاع. كانت بيانات الاستنكار لاعتقال صديقه تتزايد. علت أصواتٌ عدّة مطالبة بالإفراج عنه فورًا، ونشط النوّاب المعارضون للحكم في هذا الشّأن، وبموازاة ذلك، نشط السّفير الكندي في إثارة الموضوع لدى الدّوائر الحكوميّة في بلاده، التي عملت مع أصدقائها الدوليّين على التدخّل مع الدّولة المسيطرة على القرارين الأمني والسياسي في لبنان، للإفراج الفوري عن المواطن الكندي، فنجحت هذه التحرّكات، وأثمرت اتّصالاً أجرته المراجع العليا في تلك الدّولة "بسيادته". أبلغته أنّ اعتقال مواطنٍ كندي يُنذر بضغوطٍ تصعيديّة غربيّة بغنى عنها. كان جوابه بالحرف الواحد:
- أحمد عامر يشكّل خطرًا كبيرًا علينا، ولا يمكننا تركه طليقًا.
جاءته التّعليمات واضحة:
- حقّقوا معه، ثمّ افرجوا عنه بعد يومين، واعلنوا أن لا أدلّة ثابتة عليه، وليكن ذلك رسالة قاسية له، فإذا ارتدع تكون الغاية من اعتقاله قد تحقّقت، وإذا لم يرتدع، فلديك الحريّة للتصرّف بما تجده مناسبًا من دون إثارة حفيظة بلاده.
قبل "سيادته" بهذا الاقتراح الذي عرضته مراجعه العليا، فأُخضع المعتقل للتّحقيقات طيلة يومين، ثمّ أُفرج عنه. تمّ الإعلان أنّه لم تثبت عليه أيّة أدلة. عاد النّقاش في البلاد، وتبارى السياسيّون بعرض آرائهم المؤيّدة للاعتقال من جهة، والمناهضة له من جهةٍ أُخرى. لكن، بعد أيّامٍ قليلة هدأت الأمور، وعاد الجميع إلى الانشغال في حملات مكافحة الفساد التي أطلقها النّظام اللّبناني.
* * *
(يتبع)