الغرفة السفليّة (الجزء السّابع عشر)

20 مارس  .   7 دقائق قراءة  .    641

تنهّد سمير مجدّدًا، ثمّ عدّل جلوسه قليلاً، وقال بصوتٍ حزين:

*حدث الأمر عام 1987. كان عمري حينها سبعة وثلاثين عامًا، وصدّق!.. كنت لا أزال برتبة ملازم أوّل على الرّغم من مرور اثني عشر عامًا على تخرّجي من المدرسة الحربيّة، وعلى الرّغم من أنّ التّرقيات كانت شبه تلقائيّة خلال فترة الحرب. لقد تأخّرت ترقيتي نتيجة مخالفاتٍ بسيطة قمت بها، ومعظمها ناتجة عن الإهمال ليس أكثر. حينها، كنت في مركز شرطة سير بيروت. أنت تذكر في ذلك العام الأحداث التي عصفت بالعاصمة.

- أتعني الاقتتال الدّاخلي بين التّنظيمات والأحزاب في الشّطر الغربي من بيروت؟

*نعم!.. في ذلك العام، وبعد شهرين من توقّف الاقتتال، دخل بيروت عددٌ من الأشخاص ليجولوا ويصولوا في السّر والعلن، وكان من بينهم والد زوجتي "شاهد أبو تاج"، الذي كان معروفًا حتّى فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، بأنّه أحد المسؤولين اللبنانيّين في تنظيمٍ فلسطيني، ولكنّه عاد بعد خمس سنوات متبوّئًا مسؤوليةً أخرى؛ فقد بات معروفًا كأمينٍ عام لتنظيمٍ سياسيٍّ جديد حمل اسم "تجمّع الشّعب من أجل لبنان عربي"، وما يزال في المنصب ذاته. حينها، جاء من يدعوني مرّةً إلى مرافقته في زيارةٍ لأحد الأشخاص المهمّين، فرافقته. لم يكن هذا الشّخص المهمّ سوى "شاهد أبو تاج". زرناه في منزله، وتحدّثنا في أمورٍ عامّة. سألني يومها عن السّبب في تأخير ترقيتي، فأخبرته. قال لي واثقًا: "ولا يهمّك ملازم أوّل، اعتبر النّجمة الثالثة بين إيديك". تعجّبت من كلامه!.. لم آخذه على محمل الجدّ، ولكن، بعد خمسة أيّام، دُهشت من اتّصاله بي ليقول: "مبروك!.. بعد أسبوعين أو ثلاثة، سنناديك النّقيب سمير حصرمي". لم أصدّق أيضًا ما قاله لي، لكنّ الأمر تمّ فعلاً.

- أف!.. 

*نعم!.. استطاع أن يرقّيني، فأدركت حينها أنّ السّلطة في لبنان هي فعليًّا في يد أمين عام "تجمّع الشّعب من أجل لبنان عربي"، وأمثاله. أدركت ذلك باكرًا، فرأيت أنّ من مصلحتي أن تكون علاقتي أمتن مع "شاهد أبو تاج"، لذلك، وللأسف، تزوّجت ابنته التي لم يجمعني بها أيّ حبٍّ أو عاطفة صادقة.

- ليرحمها الله!..

*... وتمّ نقلي من شرطة السّير.

ساد الصّمت قليلاً، ثمّ سأله طارق:

- "سيدنا". أرجوك ألا تعتبر الأمر تدخّلاً في شؤونك الخاصّة!.. ما السّبب في عدم إنجابك أولادًا؟

تنحنح قليلاً، وقال:

*حاولنا الكثير. "لو بدّا تشتّي غيّمت".. لو أنّ المشكلة بي لهانت المصيبة، وبكلّ صراحة، لم أفكّر بحلٍّ مثل الطّلاق والزّواج بفتاةٍ أخرى، فعلاقتي مع والدها منعتني من ذلك. وفي مطلق الأحوال، أشكرك على اهتمامك بالأمر. لكن، أخبرني، كيف حال ابنتك "الأمّورة" جيزال؟

- بخير!.. إنّها سعيدة. لقد عشقت المدرسة منذ اليوم الأوّل، وهي تتصرّف وكأنّها في عمر التّاسعة أو العاشرة ولم تبلغ الثّالثة بعد.

*هذا أمرٌ يسعدني. وهل أنت مرتاحٌ للأجواء العامّة في المدرسة؟

- مئة بالمئة، فمدرسة "الأبناء" من أشهر المدارس في "رأس بيروت"؛ بل في لبنان.

طال الحديث بين الرّجلين. تحدّثا في أمورٍ عدّة. شارفت السّاعة على التّاسعة والنّصف. غادر عندها طارق، وعاد صباحًا ليقف إلى جانب سمير لتقبّل التّعازي، ثمّ لوداع ابنة "شاهد أبو تاج". وبعد أسبوع، عادت حياة الأرمل الجديد إلى طبيعتها بعد عودته إلى عمله.

مرّت الأيّام. كانت البلاد على مشارف مرحلةٍ جديدة، حيث لم يبقَ سوى أسبوعٍ واحدٍ لتسلّم رئيس الجمهورية الجديد مهامه. في ذلك الوقت، كانت زوجة فريد عطا على موعدٍ مع الموت. ودّعت الحياة في منتصف تشرين الثّاني. جرت مراسم دفنها وسط حزنٍ شديد. جاء سمير حصرمي لتقديم واجب التّعزية. التقى مجدّدًا بالأستاذ الجامعي وصديقه أحمد. كان برفقته مساعده، وكانا قد أنهيا لتوّهما مهمّةً أمنيّةً خاصّة. أدّيا واجبهما الاجتماعي في منزل الدكتور عطا المطلّ على خليج جونيه، وتوجّها نحو بيروت. كانت السّاعة قد قاربت الواحدة بعد الظّهر. أعاق وصولهما باكرًا، زحمة سيرٍ خانقة على "الأوتوستراد" الممتدّ من جونيه إلى "الدّورة"، بسبب حادث سيرٍ مروّع. وصلا إلى الطّرف الشّرقي من العاصمة قرابة الثّانية بعد الظّهر، فقال عندها سمير:

*أتدري نقيب!.. لن أعود إلى المكتب. ثمّة مطعمٌ أنيق قريب من هنا، فلنقصده لتناول طعام الغداء فيه.

أجابه:

- لا؛ بل نذهب سويًّا إلى منزلي ونتناول الطّعام هناك.

*حسنًا!.. لمَ لا؟!.. زوجتك بارعة في إعداد الأطباق الشهيّة، وأنا أيضًا مشتاقٌ إلى "الأمّورة " ابنتك.

- إذًا نمرّ ونصطحبها من المدرسة.

*فليكن.

لم يمضِ أكثر من ثلث ساعة، حتّى وصل الرّجلان إلى مدرسة "الأبناء" في "رأس بيروت". كان أطفال الرّوضات يغادرون صفوفهم للتّو، ويتوجّهون نحو الباصات برفقة عددٍ من معلّماتهم. تأثّر العقيد بالمنظر. شعر بحرقةٍ وفرحٍ في آن؛ فالطّفولة تزرع السّعادة في كلّ القلوب مهما لانت أو قست. قرّر مرافقة مساعده إلى الدّاخل لاصطحاب "جيزال". هناك، عانقها كما فعل أبوها. كانت تقف بقربها إحدى معلّماتها. قال النقيب للمعلّمة:

- أريد اصطحاب ابنتي لو سمحت.

أجابته بلطف:

*لا بأس، ولكن عليك إبلاغ الإدارة.

- أنا على عجلةٍ من أمري.

*أرجوك!.. أنا لم أتعرّف إليك قبل الآن، ونظامنا يقضي بعدم السّماح لأيٍّ كان باصطحاب ولده دون علم الإدارة.

- حسنًا!.. حسنًا!.. معك حقّ. أنت معلّمتها، أليس كذلك؟

*صحيح. أنا باسمة الحسّان.

- تشرّفنا. أنا النّقيب طارق أبو حباب.

ثمّ التفت إلى سمير، وقال لباسمة:

- حضرة العقيد سمير حصرمي.

*تشرّفنا..

توجّه النّقيب نحو مكاتب الإدارة، وتابعت باسمة سيرها برفقة طلاّبها، من دون أن تدري أنّ سميرًا تسمّر في مكانه، وأطلق العنان لعينيه لملاحقتها وتتبّع خطواتها الرّشيقة، ومن دون أن تعرف أنّ هذا الرّجل استلطفها إلى حدّ الإعجاب الشّديد بها. 

                                                                                       (يتبع)

  4
  3
 2
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال
Maher
20 مارس
لم اتوقع ابدا ولم يخطر على بالي قط صدفة كهذه تجمع باسمة بسمير الله يعينك ياباسمة الوطن رح يحبك
  1
  0
 
يوسف البعيني
21 مارس
ثمّة أحداث كثيرة بعد غير متوقّعة، ستفاجؤك بالتّأكيد!.. تحيّاتي، وشكرًا على المتابعة..
  0
  2