الغرفة السفليّة (الجزء الثّالث والثّلاثون)

29 سبتمبر  .   6 دقائق قراءة  .    571

Photo by Kristijan Arsov on Unsplash


أنست التطوّرات الأمنيّة الأخيرة اللبنانيّين ما حدث ذلك اليوم أمام مقرّ مجلس الوزراء؛ فهذه التطوّرات كانت تشير إلى خطورتها ومدلولاتها، وكانت مؤشّرًا آخر على مضي بعض الأجهزة الأمنيّة في مخطّطها للإمساك بزمام الأمور في البلاد، لاسيّما بعد تعالي أصوات المعارضين، وتنامي مقالات بعض الصحافيّين التي اتّهمت هذه الأجهزة بتدبير ما حدث في منطقة الشّمال. انشغل سمير حصرمي كثيرًا خلال تلك الفترة. كان قد زار فريد عطا في المستشفى كما وعد حبيبته، والتقاها في الموعد الذي حدّده لها في تلك اللّيلة. أسرّ إليها حينها أنّه ينتظر جوابها المتعلّق بالبتّ في زواجهما، فقالت له: لم أقرّر بعد.
حاول اللّعب على قلبها ودفعها إلى اتّخاذ القرار المنتظر، فلم يفلح. استطاع بعد هذا اللّقاء أن يلتقيها مرّاتٍ عدّة، من دون أن يهمل محادثتها هاتفيًّا كلّ يوم، لكنّها كانت منشغلة عنه. شيءٌ ما في داخلها دفعها إلى الاهتمام بالأستاذ الجامعي، فزارته يوميًّا في المستشفى التي بقي فيها ثلاثة أيّام، ثمّ زارته في منزله مرّتين. تحدّثت إليه أكثر، وأحبّت حديثه، واحترمت آراءه، ووافقت عليها. لم تقتصر أحاديثها معه في كلّ مرّةٍ كانت تلتقيه فيها، على وضعه الصحّي أو التطوّرات السياسيّة في البلاد والخطوات التي يجب القيام بها لمواجهة الخطر المحدق بالحريّات العامّة؛ بل تعدّت إلى أحاديثٍ خاصّة، فهي لم تنسَ الرّجل الملتحي الذي التقته قبل إحدى عشرة سنة لمرّةٍ واحدة، والذي غيّر مسيرة حياتها بأكملها، لذلك، راحت تستكشف ماضي فريد، لتسأله ذات مرّة، أين كان يقطن في الشّطر الغربي من مدينة بيروت إبّان الحرب اللبنانيّة، لكنّه لم يعطها جوابًا، قائلاً لها:
- يؤلمني هذا الموضوع، ولا أريد أن أتذكّره أو أتحدّث بشأنه.
لم تحصل منه على أجوبةٍ تهدّىء من قلقها وحيرتها المتزايدين، فركنت إلى الأيّام المقبلة، علّها تجد بين طيّاتها الجواب الشّافي، على الرّغم من العذاب الذي سكن قلبها نتيجة عدم توصّلها إلى شيءٍ يريحها.
أطلّ شهر شباط من العام 2000، والتشنّجات السياسيّة قد وصلت إلى ذروتها بين المعارضة والسّلطة. بدأت مراحل التّحضير للانتخابات النيابيّة المقرّرة في الصّيف تأخذ منحىً خطيرًا، بعد أن عملت بعض الأجهزة الأمنيّة بكلّ طاقاتها، على تشويه صورة المعارضين للحكم، لتعزيز إمكاناتها وسطوتها، وبدأت بتنظيم حملاتٍ إعلاميّةٍ مكثّفة للوصول إلى غايتها، ممّا دفع بالمعارضة إلى تكثيف جهودها لإحباط ما صمّمت عليه السّلطة. 
تشابكت الطّروحات والطّروحات المضادّة. لم يكن ما يحدث في الجنوب اللّبناني بمنأىً عن التطوّرات؛ فالمقاومة كثّفت من عمليّاتها ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وعملائه، واستطاعت أن تستقطب الرّأي العام اللّبناني حولها جرّاء هذه العمليّات، وبدا الجيش الإسرائيلي والميليشيا الرّديفة له، ضعيفين أمام ضرباتها. دفع هذا الأمر ببعض الأجهزة الأمنيّة إلى تضييق الخناق على المعارضين للحكم، واستباحة الحريّات بحجّة حماية ظهر المقاومة من عملاء إسرائيل. نشط سمير حصرمي في تلك الفترة بشكلٍ لفت انتباه "رئيسه"، الأمر الذي فسح في المجال أمامه لمنحه رتبة عميد، وتعيينه مساعدًا له، فبات العقيد عميدًا. منحه موقعه الجديد الذي كان ينتظره منذ مدّة، كمساعدٍ لرئيسه، سلطةً أكبر وأشدّ خطورة على الحريّات في لبنان. لم يكن قد قطع اتّصالاته بفريد عطا، كما لم يغلق ملفّه على الرّغم من أنّه لم يبرز أيّ نشاطٍ له يهدّد النّظام بعد ذلك اليوم الذي قُمع فيه مع رفاقه. لكن، في شهر شباط من العام 2000، أعاد العميد الجديد تحريك ملفّ الأستاذ الجامعي بقوّة. أمران جعلاه يُقدم على هذه الخطوة؛ أوّلهما: أنّ باسمة أبلغته قبل مدّة أنّها لم تتّخذ قرارها النّهائي بعد بالإقدام على الزّواج به، بإفصاحها أنّها ليست متأكّدة من صدق حبّها له، وثانيهما: أنّ فريد عطا أسرّ إلى صديقه العميد الجديد أنّه يفكّر في الترشّح للانتخابات النيابيّة ضمن لائحةٍ للمعارضة في أحد أقضية جبل لبنان.
هذان الأمران دفعا ضابط الأمن إلى العمل بكلّ طاقته لتحطيم الأستاذ الجامعي. فقد علم أنّ حبيبته تتقرّب منه يومًا بعد يوم. شكّ في الأمر لحظة معرفته بوجودها قربه يوم أُصيب، فأرسل من يراقب تحرّكاتها، وعلم بزياراتها اليوميّة إلى المستشفى، وبزيارتيها إلى منزله، كما علم أنّها كانت تجلس معه لوقتٍ طويلٍ في كافتيريا الجامعة من فترةٍ إلى أخرى.
صمّم على منعها من التقرّب من فريد عطا بعد أن علم بنيّته الترشّح للانتخابات النيابيّة. أراد أن يشعرها أنّها لا تستطيع الاستغناء عنه وعن سلطته، فاستغلّ نفوذه إلى أقصى حدودٍ كي يثبت لذاته مدى ظلمه وبطشه. كان يعرف جيّدًا أنّ المركز الموجود فيه ابنها "هادي"، لا يتقاضى من هذه الأمّ سوى مبلغٍ لا يتجاوز المئتي ألف ليرةٍ لبنانيّة بدل أتعاب وعلاج، ويقدّم إليها مساعدةً تصل إلى ثلاثة أضعاف هذا المبلغ، وكان يعلم أيضًا أنّ راتب زوجته الواعدة لا يتعدّى السّتمئة ألف ليرة، لذلك أراد الضّغط عليها وإمساكها باليد التي تؤلمها. تجاوز كلّ حدود الأخلاق والمودّة والصّلة، واتّصل بمدير المركز ليحدّد موعدًا معه. وعندما التقاه قال له:
- لديكم طفلٌ معاق اسمه "هادي"، وأمّه تدعى باسمة الحسّان، أليس كذلك؟
*نعم!.. ما به؟!..
- ليس به شيء، ولا مشكلة معه. المشكلة مع أمّه.
تعجّب مدير المركز من هذا الكلام، فاستفسر عن الموضوع!.. أجابه العميد:
- أمّه لمعلوماتك تستعدّ للإقدام على عملٍ قد يؤذيها ويؤذي ولدها، وهو عملٌ بالتأكيد يضرّ بمصالح الدّولة.
*لم أفهم!..
- لا ضرورة للدّخول في التّفاصيل. إنّنا نعمل على حثّها للعدول عن هذا العمل، ورأينا أنّ أفضل طريقة لذلك تكون بتجميد المساعدة التي تقدّمونها إليها هنا.
دُهش مدير المركز من هذا الطلب!.. سأل:
*ما الرّابط بين المساعدة وما تقوله حضرة العميد؟!..
- نحن لا نريد حرمانها من هذه المساعدة، ولا نريد أذيّة الطّفل، ولكن، نريد تجميد المساعدة أو على الأقلّ التّلويح بتجميدها.
لم يفهم المدير ما قصده ضابط الأمن، لكنّ الحديث مع عميدٍ في جهازٍ أمنيٍّ معروف بسلطته وبطشه، جعله يوافقه على طلبه مرغمًا، وبدأ بتنفيذ ما طُلب منه.
يومها، اتّصل هذا المسؤول بأمّ "هادي" وطلب إليها زيارته في مكتبه. أبلغها حينما حضرت، أنّ المركز مضطرٌ لوقف المساعدة عنها لظروفٍ خاصّة. لم تصدّق ما قاله، لكنّ ما سمعته كان حقيقة.
           (يتبع)

 

  0
  0
 0
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال