من عيادة الياسمين… قصص جدّي

شادي رزق

26 سبتمبر  .   2 دقيقة قراءة  .    669

من حديقة الكاتب

منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كنت طفلاً ينمو في حضن جدّه والد أمه، كان مربوع القامة يميل إلى السمنة، أصلع الرأس، تفوح منه رائحة خشب المنشرة، له عينان بريئتان تشبه طفلة ترجو أمها، لطيف كنسمة من أيلول، بسيط كحارة قديمة لكنها أصيلة مملوءة بتفاصيلها، إبتسامة كالزمن دائمة، كنتُ أشبهه لوديع الصافي، حين كبرت قليلاً صرت أراه يشبه الكرة الأرضية، فحينها كانت جميلة.
عوّدني أن يمرَّ على بيتنا ليصطحبني بنزهة إلى حديقة يصطلحون عليها اسم حديقة السمكة، وطبعاً دون أيّ سمكة، كان يشتري لنا عبوتي عصير ويستند على حائط الدكانة وبدوري استند على جسده الأشبه بفرشة تحضتن كل أحلام الطفولة. ويبدأ يروي لي قصصاً ولكل قصة قفل يفتح بعد ثلاثين سنة وما زالت الأغلال تفتح. كانت كل حكايته تشبه كليلة ودمنة، بأخبار من عالم يشبه إلى حد بعيد كوكبنا.
وذات مرة، روى لي قصة وبصوته غصة. وبعدها ببضعة أيام توفى.
بدأ يسرد كلماته ببطء، يبدو كأنه يفكر قبل الكلمة، مما شككني بالفحوى. قال يا ولدي، يحكى عن كوكب اسمه المُشتَرَى، فقلت جدي جدي أخبرونا في المدرسة أن اسمه المُشتري، فضحك وضم رأسي إلى خصره وتنهد وأجاب لقد بِيعَ يا حفيدي منذ أمد بعيد لهذا تغيّر اسمه، دفع ثمنه الباطل وأخذه بأبخس سعر في سوق الكواكب.
وأكمل كان سكانه جاحدين متعجرفين مستكبرين، عشوائيين عبثيين، دائمي الصراخ ويبرعون بلغة الاقتتال، يؤمنون أن الأدب والتهذيب ضعف وخنوع، وهم جميعاً عبيد.
وجوههم متجهمة، مستنفرة ومُستَفَزّة، تبدو عليهم علامات التأهب دوماً، للشتم لا للخدمة. حين تراقب خطواتهم تسمع استغاثة التراب تحتها، وكأنهم ذاهبون إلى معركة ينشدون النصر بأكتاف منهكة. الجميع أصبحوا يشبهون بعضهم، كأنك أمام مرآة مكسّرة.
في المساء تشاهد الكوكب تحوّل إلى قطب من الثلج، ولكن ليس بسبب البرد، لكنه الخوف. يصبح خوفهم ظلمةً لليل يهرعون لإخفائها في منازلهم. لتتحول هذه المنازل لصورة عن مشهد الشارع، يفرغ فيها هذا الخوف عنفاً.
كانت الحياة تشبه الهرم يا بنيّ، الذي استخدمه الفراعنة مقابر، لكن على المشترى يكاد يكون سجناً للأبرياء مع فسحة سماوية. الوظيفة الأكثر شيوعاً هي الانقضاض بعد التربّص، كل كائن هناك له طبقتين في مكان هو قوي وبالثانية هو الضعيف. فحيث هو القوي يكون رابضاً لاقتناص الأضعف، وقبل برهةٍ يكون الفريسة الكامنة في جحر التنفيذ. وتتراصف أحجار الهرم تباعاً لتشكّل هذا المنظر الظريف.
- كيف عرفت كل هذا يا جدي وانت لم تزر ذاك الكوكب؟
- أخبرني جدي أيضاً يا حبيب، كما ستخبر حفيدك بعد سنين
- كم جميل كوكب الأرض يا جدي، سأعتني به.
وإلى اليوم صوت ضحكته في رأسي، وإلى اليوم َكل يوم أخبره شوقي، لحضنه ولعبوة العصير. وأن قصصه صارت عالمي. 

  5
  5
 0
مواضيع مشابهة
X
يرجى كتابة التعليق قبل الإرسال