23 مارس . 3 دقائق قراءة . 1468
أَمُّومْتي (من كلمة أُمّ، زيادة في التحبّب)
يطيب لي أن أبدأ رسالتي اليك مع مقطع من قصيدة سعيد عقل الخالدة:
"أمّي يا ملاكي يا حبّيَ الباقي الى الأبد
ولا تزلْ يداك أرجوحتي ولا أزلْ ولد"
وكيف لن يكون حبّي لك "الى الأبد" وما زال دمك يسري في دمي، ولي في عظمي ولحمي من عظمك ولحمك، وفي رحْمك تكوّنْت من رحم الأزل، والى رحم الحياة وُلدْت والى الرحم الأوسع أعود، عسانا نلتقي هناك "الى الأبد". فالأبديّة هي التي نسجتْنا وإليها نعود.
يقول ميخائيل نعيمه عن والدته في سيرته الذاتيّة "سبعون" (الجزء الثالث في فصل "ماتت التي ولَدَتْني"): "أما كُوّنْتُ جسماً حيّاً في جسمها ومن جسمها الحيّ؟ فكأنّ بعضي مات بموتها وكأنّ بعضها ما يزال حيّاً في حياتي. فكلانا ميت وكلانا حيّ".
نعم يا أمّي، فكلانا ميْت وكلانا حيّ، وكلانا خالد.
أذكر من طفولتي في حماك وحمى جدّو ميشا – ميخائيل نعيمه – هذه القصّة:
انتقلنا الى منزلنا في الزلقا (شمال بيروت) ولي من العمر ثلاث سنوات. وفي يوم من شتاء 1971، اتصل أقرباء لنا للمجيء عندنا سهرةً للتهنئة بالمنزل الجديد. تهيَّأْتِ يا أمّي لاستقبالهم وجهّزْت الضيافة ووضعتني في سريري لأغفو فيكون لك ولجدّي مع زوّارنا الوقت الوافي والكافي للتحدّث دون أيّ لهوات مني أنا الطفلة. وكنت اعتدْتُ في طفولتي ان أنام على صوتك وأنت قربي على حافة سريري، تمسّدين شعري بنعومة وتغنّين لي بصوتك الحنون قصائد من ديوان "همس الجفون" التي لحّنْت البعض منها أنت وجدّو ميشا، فأستسلم لغفوتي في سلام. تلك الليلة وضعتْني كالعادة في سريري وغنّيْت لي من قصائد جدّو ميشا حتى غفوت، واستقبلت زوّارك مطمئنّة أن صغيرتك نائمة. لكنني أفقت وخرجتُ إليكم بالصالون. تعجب الجميع لكنّك لم تغضبي. أخَذتني بيدي ورجعْت بي الى سريري، تغنين مجدّداً من قصائد جدّو ميشا والضيوف ينتظرون. لكنّني استيقظْت للمرّة الثالثة وعدت للغناء للمرّة الثالثة برغم وجود الضيوف وأنا أستسيغ صوتك الحنون وحضورك الدافئ. فكل ما كنتُ أبتغَيْته أن أستمتع بوجودك قربي وأسمع كلمات جدّو ميشا وما تحوكه في مخيّلتي من أجمل الصور:
"سقف بيتي حديد ركن بيتي حجرْ
فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجرْ
من سراجي الضئيل أستمدّ البصرْ..."
فأرتاح أن يكون "بيتي من حجر" حتى وإن عصفَت الريح ونفخَت، لنْ تقوى على هدمه، والسراج لا يزال مضاءً لم تقوَ عليه الريح.
أتذكرين أمّي كيف كنت أنت وجدّو ميشا تتباهيان أمام الأحبّة، بفيض من المحبّة، بسردي هذه القصيدة "الطمأنينة"، فيطلب منّي جدّو ميشا سرْدها وأنا ابنة الثلاثة أعوام:
"سهى، سمْعيلْنا قصيدة ‘الطمأنينة’" وأبتدئ بالسرد،
"سقف بيتي حديد ركن بيتي حجرْ
صَعْفهي يا رياح وانتحب يا شجرْ
من سراجي الضئيل أسْمتدُّ البَصَلْ"
وتعلو نبرة صوتي عند "أسْمتدّ البصل" كعارف بأسرار الوجود، فيضحك الحضور، ويأخذني جدّو ميشا بين ذراعيه، "يا روحات جدّك إنْت" ويقبّلني وتقبّلينني أنت وتضحك لي عيناك. ولا أفهم أنا الطفلة لماذا تضحكان، وما علاقة "البصَلْ" ببيتي من الحجر والرياح من حوله. ألعلّ للبصَل وقشْره علاقة بكيف تبعْثر قشوره الرياح؟ وأتخيّل "جْديلة البَصَل" معلّقة مع الحائط على الشرفة، تتخبّط مع الريح وتتطاير قشورها، وأقلق على تلك القشور كيف ستستطيع العودة الى "جْديلة البَصَلْ"؟ لكن ما هَمّ! أنْت أمّي معي وجدّو ميشا معي، فأنتما سقف بيتي الذي هو من حديد وركْن بيتي الذي هو من حجر.
أمْؤُومْتي،
كم كريم ربّي معي ليجعلني أنمو في رحمك الدافئ وروحك الحلوة وفي كنفكما الطاهر أنت وجدّو ميشا، فأنمو وأكبر من خلالكما ومعكما في نبض القلب الواحد والكلمة الواحدة للأقانيم الثلاثة: "الميماسونا" (ميخائيل، ميّ، سهى، نعيمه)، لدى منزلنا في الزلقا الذي انتقل معي الى المطيلب في كانون الأول/ديسمبر 2018 وأصبح المنزل-المتحف. فأنتما بيتي الى الأبد ولن تقوَى عليه أيّ ريح.
لو لمْ تكوني أنْت في حياة ميخائيل نعيمه وكرّسْت ما كرّسْته وبذلْت ما بذَلْته وخدَمْت ما خدَمْته في سبيل عظمة رسالته الأدبيّة التي تتمحور حول الإنسان الإنسان والإنسان فرخ الإله الذي هو من الله وإليه يعود، لما كتب نعيمه ما كتب. فأنْت الطمأنينة في حياته والابنة الروحيّة في وجوده التي تؤْمن بفكر عمّها فتوفّرُ له الأمانة والراحة لكَي ينتج ويبدع ويبذل من قلبه وفكره وروحه لقرّائه.
ولولا درايتك لجدّو ميشا لما عمّر 99 سنة بصحّة روحيّة وعقليّة وجسديّة ممتازة وأناقة دائمة وهناء مستتب.
فيا ينبوع الحنان والدفء والطيبة والتضحية والبسمة اللطيفة المشعّة، أبقي لي ملاكي الحارس الدائم كما كنت لجدّو ميشا. أنت النبض في نبضي والنفَس في نفسي والحلم في حلمي.
الى اللقاء "ميّا نور عينيّا" كما كنت ولا أزال أناديك، فأنت النور من نور ربّي في حياتي وأنت الهدى من هدايته،
أحبّك
سهى حدّاد/نعيمه
21 آذار/مارس 2022
16 يناير . 2 دقيقة قراءة
21 فبراير . 8 دقائق قراءة