08 يناير . 7 دقائق قراءة . 586
المشهد الأول: شابةٌ ذات شعرٍ أشقر قصير، ترتدي ما هو أشبه بزي الكشافة، تترجّل من
قطارها لحظة وصوله إلى المحطة وتأخذ بسؤال المارّين، باندفاعتها وعفويتها
الجليّين، عن عنوان "كليّة التأهيل التربوي". يقترح عليها أحدهم بسؤال
رجل يرتدي ثوباً طويلاً أسود، فلديه حتماً الجواب الشافي. وهذا ما كان!
ما الذي جعله متأكداً بهذا الشكل؟ ما الرابط
بين الرجل ذي الثوب الأسود الطويل وكلية التأهيل التربوي؟!
يخبرها هذا الرجل أن تبحث عن برجٍ له شكل بصلة!
في خط الأفق في المدينة التي لا تشبه مدننا في
شيء أبراجٌ عدّة في قمّتها ما يشبه البصلة، ومع ذلك تعثر الشابة على البرج المطلوب
المميِّز لكلية التأهيل التربوي!
وبمجرد وصولها، ترتدي الشابة الزيّ الرسمي
للكلية: ثوبٌ أسود طويل، أقصر بقليلٍ من ذاك الذي كان يرتديه الرجل في المحطة، مع
غطاءٍ للرأس بلونٍ أبيض وأسود.
المشهد الثاني: فتاةٌ مشاكسة
ذات جديلتين تعاكسان قانون الجاذبية الأرضية، تعيش في مدرسةٍ داخلية غالبية
مرتاداتها من بنات الطبقة البرجوازية. لا تنتمي الفتاة لهذه الطبقة، فقد أمضت
سنوات حياتها الأولى في دار الأيتام، إلى أن تكفّل بنفقات تعليمها أحد المنعمين
الذي تقع في حبه لاحقاً دون درايةٍ منها بهويته. تعيش الفتاة صراعاً داخلياً
عاصفاً حين تتطور مشاعرها تجاهه وتدنو اللحظة التي ستجد نفسها مضطرة فيها لإخباره
أنها لا تنتمي لهذه الطبقة، وأنها نشأت في دار الأيتام!
أين المخجل في ذلك؟ كنتُ أسأل نفسي... ما هذه
القضية الوجودية التي تشغل جودي آبوت على مدى هذه الحلقات جميعها؟! ما ذنبها إن
فقدت أبويها في آن، في حادث سيارة في الغالب؟؟!
لم أكن بحاجةٍ للنبش عميقاً في ذاكرتي لاستحضار
هذه المشاهد، وأكاد أجزم أنها وغيرها حاضرةٌ على نحوٍ لا تشوبه الغبار في ذهن
أبناء جيلي.
من منا لم يرَ صورة البطل في الثلاثي عبد الرحمن
وحمزة وحكمت، الجبابرة، صقور الأرض، الذين، ولسببٍ خارجٍ عن أيّ سياقٍ تاريخي أو
منطقي، يواجهون عتاة جيوش أباطرة اليابان؟! أعلم أن حروباً دارت مع ملك الحبشة
وكسرى في بلاد فارس، لكني لا أذكر أنّ الدعوة الإسلامية وصلت حدود اليابان. أحاول
تجاهل هذه التساؤلات، فأنا لم أتمّ تعليمي بعد... لعلّ المعلومة ستَرِد في كتاب
التاريخ في عامي الدراسيّ المقبل، أو العام الذي سيليه.
ثم يأتي كونان، أو سينشي، المحقق الأذكى رغم
صغر سنّه، مع "خطيبته" ران! ما المبرر لوجود خطيبة له وهو لم يتجاوز
الصف الأول الثانوي؟!
لا يمكن إنكار الجهد الجبّار الذي قامت به على
مدى عقدين من الزمان أو يزيد فِرقٌ ممن جعلوا من الرسوم المتحركة الناطقة بالعربية
صناعةً قائمة بذاتها، لم تبغِ الربح المادي، أقلهُ في بداياتها، بقدر ما صَبَت إلى
إيصال رسائل تربوية هادفة بلغةٍ عربيةٍ سليمة إلى الأطفال والناشئين، ولا يمكن
التطرق إلى مسلسلات الرسوم المتحركة دون التعريج على الدور المحوري الذي اكتسبته
أغنية الشارة في كلٍّ منها لإيصال هذه المفاهيم. مِن أرقِّ وأسمى كلمات العرفان
بدور الأم من شفاه ريمي، الفتاة أو الولد، لا فرق، أو مِن صفوة مشاعر الأخوّة في "أنا
وأخي"، أو الصداقة في "عهد الأصدقاء"، أو حب الوطن والدفاع عنه
والتضحية لأجله، والتي تبلورت بأسمى أشكالها في أبسط الكلمات وأبلغها:
شرفُ الوطن أغلى منا ومن
ما قد يجول فكرنا في أي زمن
شرف الوطن هو أرضي
شرف الوطن قبلي و بعدي
شرف الوطن مرآة مجدي
سيفي و رمحي في وجه المحن
أو في:
ما عاش الظالمُ يَسبيكِ و فينا نَفسٌ بعد
بحنيني بدمي أفديكِ وروحي تنبت مجد
والأكيد أننا مدينون بذلك لفِرقٍ كاملة، منهم
من كُشفَ لنا عن وجوههم لاحقاً، كرشا رزق وطارق العربي طرقان، أو سامي كلارك
بالنسبة للجيل السابق، ومنهم من بقوا أسماء، فباتت أغنياتهم رفيقتنا في يومياتنا،
وبات الاستماع إليها صباحاً طقساً من طقوس افتتاح نهاراتنا، ولا يسبقها ربما على
قائمة أغنياتنا الأكثر استماعاً سوى الفيروزيات...
لكن هل ظنّ من أخذوا على عاتقهم مهمة التعريب
والدبلجة وتقديم أعمالٍ لا تشبه بيئة الطفل الناطق بالعربية في شيء، بل إن أغلبها
مقتبس من روايات من الأدب العالمي موجهة للبالغين، أنّ مسلسل صقور الأرض مثلاً لن
يؤدي وظيفته التربوية المنوطة به لناحية الإضاءة على خصال الشجاعة والتعاضد
والأثَرة وروح الفريق، لو أنّ أبطالها الثلاث لم يحملوا أسماء عربيّة، بمقابل
الإبقاء على الأسماء اليابانية لبقية شخصيات المسلسل؟! هل شغلتهم هذه الجزئية
الشكلية وحسب، وتجاهلوا الأذية النفسية والمخزون البصريّ العنيف الذي ستتسبب به
رؤية رؤوس "الأعداء" من اليابانيين تتدحرج على الثلج، أو رؤية حكمت
مضرجاً بالدماء بعد أن نال منه أحد خصومه برمحٍ من دُبُره؟!
أما كانت لتمرّ معلومة أنّ لسينشي خطيبة وهو لم
يتجاوز 15 عاماً بشكلٍ أكثر سلاسة وانسجاماً مع البديهي والمألوف لو عرّفوا بها
على أنها "صديقته"؟! بهذه البساطة، دون الخوض بمزيدٍ من التفاصيل
المقتطعة أصلاً من النسخة المعرّبة من المسلسل؟
لم يكن أيٌّ من هذه المسلسلات موجهاً لأطفال
ويافعين في مجتمعاتٍ منغلقة، أو كانتونات تُسوّرها متاريس عالية، بل إن نسبةً لا
بأس بها من جمهورها قد نشأ وتلقّى تعليمه في مدارس وبيئات ملونة، أو حتى من لونٍ
مغاير وبعيدٍ كل البعد عن لون عائلته، فهل كان ليعصى على الطفل أو اليافع تقبّل
تسمية "الرجل ذو الثوب الأسود الطويل" أو "كلية التأهيل التربوي
ذات البرج الذي له شكل بصلة" بأسمائها؟! هل كانت فئاتٌ معينة لِتعاني من
التنمّر أو الإقصاء أو الشعور الضمني بأقليتها لو تم التعاطي مع هذه المفاهيم
بأفقٍ أوسع؟
أعترف أني كنتُ طفلةً مُنعمة، لم أعاني الحرمان
أو الفقدان، ومع ذلك، حين عاودتُ، وأنا بعمْر 23 عاماً، مشاهدة اللقطة الأولى في
مسلسل "ابنتي العزيزة راوية" والذي تصاب به والدة راوية بأزمةٍ قلبية
تؤدي لسقوطها وهي تعزف على البيانو ووفاتها على الفور، أُصبتُ بصدمةٍ قد يكون
أثرها النفسيّ مدمراً وأذيتها غير قابلة للعكس لأطفال بعمر الست أو السبع سنوات.
وأعترف أيضاً أني نشأتُ في كنف والدَين وجدّةٍ
لم يبخلوا عليّ بساعات حوارٍ طوال لإيضاح الكثير من المفاهيم وتقويم بعضها،
والإجابة على أسئلتي الكثيرة، والتي كانت في أغلب الأطوار في سباقٍ مع قطار عمري
الطبيعي، لكنّ هذا ليس حال السواد الأعظم من أقراني أو من الأجيال التي سبقت جيلي
أو تَلَتْه. ما الوَقعُ الذي كان لمسلسلاتٍ كثيرة كان مسرحُها دار الأيتام، والذي
لا يختلف كثيراً حتى في الرسوم المتحركة عن زنزانات السجون، بكل ما يميزها من ظلمة
ووحشة وبرد وتسلط من آمريه؟ كيف لِمَن لم يتعرف بعد من الأطفال الذين نشؤوا في دور
الأيتام على وصمة العار التي سترافقهم طيلة حياتهم بما لا ذنب لهم فيه، أن يتلقوا
ثقل مسلسلات الرسوم المتحركة بهذا العمر المبكر؟!
ثمّ مهلاً، أَوَليس كلّ من نشؤوا في دار الأيتام أطفالٌ مثلُنا شاء القدر أن يفقدوا أبويهم، في حادث سيارةٍ واحدٍ في الغالب؟!
إقرأ أيضا
22 نوفمبر . 10 دقائق قراءة