21 أكتوبر . 14 دقيقة قراءة . 1064
العالَم غارق في المواجهات السلبية!
الفظاظة منتشرة في كل مكان... ثلاثة وسبعون في المئة من الناس يشعرون أن بلدانهم "تفقد مكانتها كدولة متمدّنة". لكن من الصعب أن نستيقظ كل يوم من دون أن نتساءل من داخلنا: "ما المأساة التي ستكون اليوم؟".
يبدو كما لو أن السلبية مرض مُعدٍ وأن الخلافات تتكاثر، وهي تظهر في كل مكان ابتداءً من مائدة العشاء في البيت وصولًا إلى غرفة الاجتماعات في العمل. هذا وقد أثبتت الدراسات أن الفظاظة منتشرة أيضًا في أماكن العمل لدينا؛ مما يكلف أصحاب العمل والمديرين أكثر من 12 مليون دولار سنويًا جرّاء فقدان العملاء وقلة الإنتاجية وعدم سعادة الموظفين. وفي هذا الصدد، قالت كريستين بوراث (ChristinePorath)، الباحثة التي درست هذه الظاهرة، في مقابلة مع شبكة سي بي إس نيوز (CBS News): "السبب الأول وراء اعتراف الناس بكونهم غير لطفاء هو أنهم يعانون من الإجهاد أو الضغط الزائد؛ إنهم يشعرون أنهم لا يملكون الوقت الكافي ليتصرفوا بلطف".
نحن مدمنون على العمل، ونلوم أنفسنا على ذلك لأنه يسبب لنا الافتقار إلى التنظيم العاطفي. إضافة إلى ذلك، نحن نستخدم التكنولوجيا كوسيلة لتعليقاتنا اللاإنسانية والمتنمّرة التي نطلقها جذافًا على وسائل التواصل الاجتماعي، من دون أن نراعي مشاعر الآخَرين وما يمكن أن نسبب لهم. ومن ثم نتحسر على عدم وجود اتصال بشري حقيقي بيننا.
ميلودي ويلدينغ (Melody Wilding)، مدربة مهنية عالية الأداء، تساعد المديرين ورجال الأعمال والمديرين التنفيذيين على معالجة المحادثات الصعبة والمشحونة وكيفية التعامل معها، إنها تعتقد أن المشكلة أعمق من ذلك، وهي تكمن في علاقتنا المختلة مع الصراع نفسه.
ترى ميلودي أن معظمنا، وبخاصة النساء، يتمّ تعليمنا الخوف من المواجهة والابتعاد عن المحادثات المعقدة، خوفًا من أن يجرّنا ذلك إلى عواقب غير محمودة أو تعليقات ساخرة... فيما يلجأ آخَرون منا إلى ردود أفعال غير مثمرة، كالانفجار غضبًا أو استخدام تكتيكات مثل المماطلة أو المعالجة بالصمت والتجاهل. كل ذلك عائد إلى نقص المعرفة والتدريب على كيفية التعامل مع الخلافات بشكل فعّال وبنّاء.
إذا تحدّثنا من الناحية البيولوجية، فإن ردود الفعل هذه منطقية؛ من أجل أن نكون وقائيين. ينظر الدماغ إلى الصراع على أنه يشكّل تهديدًا لسلامتنا؛ حينها تسيطر علينا ردود الفعل الغريزية والعفوية في كثير من الأحيان؛ ما أطلق عليه دانييل جولمان (Daniel Goleman)، مؤلف الذكاء العاطفي: "اختطاف الجسم اللوزي" (المقصود هنا هو الجسم اللوزي والذي هو جزء من الدماغ, حيث يشارك في إدراك وتقييم العواطف والمدارك الحسية والاستجابات السلوكية المرتبطة بالخوف والقلق )، واختطاف الجسم اللوزي هنا هو عبارة عن زيادة هرمونات الإجهاد لدينا، إنها وظائف عقلية معقدة مثل ضبط النفس والذاكرة وعدم تبنّي المنظور. اختطاف الجسم اللوزي هو المسؤول عن طريقة عملنا النموذجية أو ردّات فعلنا تجاه أنواع الصراع: الغضب، الدفاع، والاندفاع لكسب أية حجة ولإثبات أننا على صواب وأنهم مخطئون.
:تصفح أيضًا
معنى تطابق عقارب الساعة في علم النفس
على الرغم من أن ردود الفعل هذه طبيعية، إلا أنها لا يجب أن تأخذ مَداها الأقصى، ويجب أن نتحكّم فيها كي لا توقعنا في المشاكل. على مدى الثلاثين عامًا الماضية، لم يجد علماء النفس أن الصراع وحده أمر صحي وطبيعي، ولكنهم رأوا أيضًا أن هناك طرقًا لـ "المواجهة بشكل صحيح"، بطرق تؤدي إلى نتائج أفضل، ألا وهي:
عندما نضطر إلى إلغاء شخص ما من حياتنا أو قول "لا" له؛ فمن المحتمل في تقديرنا أن يكون ذلك لسبب وجيه من وجهة نظرنا، قد نكون مشغولين أو لدينا التزامات أخرى. أما إذا قام شخص ما بإلغائنا أو رفضنا؛ فقد نفترض أن هذا الشخص غير موثوق به أو لا أمان له. هذا الميل إلى عزو أفعال الآخرين إلى أن شخصيتهم ضعيفة أو غير مُستحبّة، مع استبعاد أوجه القصور لدينا نتيجة للقوى الخارجية، يُطلَق عليه: "خطأ الإسناد الأساسي". بمعنى أننا نسند الفعل الإيجابي إلى أنفسنا ونبرر أخطاءنا، ونسند الفعل السلبي إلى الآخرين، ونلومهم على هفواتهم.
يقودنا خطأ الإسناد إلى التحيز لأنفسنا والإساءة في تفسير الدوافع، بدلًا من محاولة فهم العوامل الظرفية القائمة في اللعبة؛ فنحن نخلق الأعذار لأنفسنا، لكننا لا نخلقها للآخَرين، ونحكم عليهم مسبقًا بشكل سلبي، في حين أنهم بشر مثلنا ولديهم ظروف قد تتشابه وظروفَنا. عندما نفسر السلوك من حيث شخصية الشخص أو طبيعته؛ فلا يمكن تغييره؛ وعلى ذلك نستنتج أنهم أشخاص سيئون، وأية فرصة لحل المشكلات بشكل بنّاء تنتهي عند هذا الحد، من دون وضع أي احتمال لالتماس الأعذار.
لعل تجاوُز تحيزاتنا المعرفية أمر صعب بعض الشيء، ولكن يمكننا الاعتياد على القيام به من خلال الوعي الذاتي وممارسة التعاطف. وهنا تطرح الأسئلة الآتية نفسها:
ما الأشياء الأخرى التي قد تحدث في حياة الشخص لتحفيز استجابته؟
كيف يمكن تغيير البيئة- على سبيل المثال، عن طريق الخروج من المكتب أو التبديل من الرسائل النصية إلى الاتصال الهاتفي- لخلق ظروف أكثر ملاءمة للحوار؟
من الطبيعي أن حياتنا مختلفة عن حياة الآخرين، وكذلك ظروفنا. ومن الطبيعي أيضًا أن هناك أشخاصًا لا يعجبوننا، لا في شخصياتهم ولا في طرق عيشهم أو أنماط تفكيرهم. ولكن ليس من الطبيعي أن نكون نحن الضحية دائمًا، ونحن المثاليين في معظم الأوقات. هنا يأتي دورنا لتفعيل الحوار وتكريس سبُل نجاحه، عن طريق خلق البيئة الملائمة له أو الوسيلة المناسبة لإنجاحه... على سبيل المثال، من الممكن أن نتناقش مع شخص من بلد آخر، ويتحدث لهجة أخرى أو حتى لغة أخرى؛ وقد يؤدي هذا الاختلاف إلى سوء في الفهم أحيانًا، قد يصل إلى خلاف بيننا؛ وهنا علينا أن نحاول إيجاد طريقة في الحديث مشتركة بيننا، كي نفعّل الحوار ونجعله إيجابيًّا...
على عكس ما هو متوقع، قد يؤدي اللجوء إلى المنطق والاستدلال بالواقع إلى نتائج عكسية في الحجج. يرى دان كاهان (Dan Kahan)، الاقتصادي السلوكي، أن استخدام العقل يغذي التحزّب والاستقطاب الأقوى وينمّيهما. لماذا؟ عندما يشعر معظم الناس أن معتقداتهم مهددة، أو أنهم سيُهزمون في نقاش ما؛ فإن استجابتهم للمواجهة أو الهروب تضعهم في حالة تأهب؛ ما يجعلهم مستيقظين وواعين لما يقولون؛ فيُعملون العقل في أثناء الدفاع عن آرائهم مهما كلّف الأمر. إنهم يضاعفون قدرتهم على الرد ويدافعون عن موقفهم أكثر.
إذا أردنا أن نكسب النقاش، بدلًا من محاولة "الفوز" على الخصم بسؤاله عن سبب إيمانه بشيء ما، ينبغي لنا أن نسأله كيف يرى أن حجته مُجدية وقوية. هذا التكتيك، المعروف باسم "الاتفاق اللامحدود"، يساعد الناس على إدراك حدود فهمهم، وفتحهم على آفاق جديدة، كما يمكن أن يجعل الحوار مع الطرف الآخر لاعنفيًّا، بمعنى أنه يؤدي إلى تبادل وجهات النظر بشكل سليم، عبر شيفرة الاتصال السلمية القائمة على الهدوء والبساطة.
الأهم من ذلك،
عملية المحافظة على الوفاق هذه ستمنحنا نظرة ثاقبة إلى تفكير الشخص الآخر، نستطيع من خلالها قراءة ما وراء الكلمات، الحركات، والإشارات...
كما يمكننا بواسطتها التعاطف مع الشخص الآخر والاستجابة له، بدلاً من التركيز فقط على الرد عليه ومحاولة دحض حجته.
وفقًا لعقود من البحث الذي أجراه معالج الأزواج جون جوتمان (John Gottman)؛
فإن الاحتقار هو القاتل الأكبر للعلاقة.
من الواضح أن الأنواع الشائعة من الازدراء، كالسخرية والتهكم والاستهزاء تزيد من الرهان العاطفي على أية مواجهة بين الزوجين؛ فهي تهدد سلامة العلاقة وتغذي نار المشاكل بينهما وتقوّي حدّة الخلاف، كما يمكنها أن تتطور أكثر لتؤدي بأحد الطرفين إلى الانتقام؛ وبناء على ذلك من الواجب أن تكون محظورة تلقائيًا.
وفي هذا الصدد حاول جوتمان أن يكون عمله منصبًّا في تحديد المكونات الأساسية الأخرى للجدل المستنير أو الجدل البنّاء، التي توجهه نحو سكة الاتفاق السليمة، بما في ذلك:
مما لا شك فيه أنه لدى استخدامنا هذه المهارات؛ تتحول المحادثات من المواجهة والصراخ، إلى الصدق والأمان والهدوء.
تتخذ مناهج حل النزاعات التقليدية منهج "إصلاح المشكلة" الذي ينظر في الخطأ الذي يحدث، وما هو المكسور جرّاءه، ومواطن ضعف علاقاتنا. لكنّ ما لا نعلمه أن ذلك سيؤدي بنا إلى نتائج عكسية وغير مرجوّة؛ ذلك أن الاستمرار في التركيز على السلبية قد يبطئ النمو الإيجابي.
لحسن الحظ، يقدم التفكير الحديث في إدارة التغيير نهجًا مختلفًا عن النهج التقليدي، قائمًا على منهجية تُعرف باسم "البحث التقديري"، وهو فلسفة متجذرة في التعرف إلى الأفضل في الأشخاص والتركيز على الأشياء الجيدة فيهم، في محاولة لإبرازها وتكرارها، بدلًا من اجترار نقاط الضعف؛ ما يشجعنا على "الاستفسار التقديري" الذي يساعدنا على إعادة صياغة الصراع بقالب إيجابي، كفرصة للاعتماد على نقاط قوتنا الفردية والجماعية من خلال دورة رباعية الأبعاد قائمة على:
بناءً على ما تقدم؛ نستنتج أن "الاستفسار التقديري" قابل لِـ "التحويل اللامحدود"؛ ذلك أنه يمكنه قلب موازين العلاقة إلى الأفضل رأسًا على عقب، وجعل الشريكين يعطيان أفضل ما عندهما. وقد نجح المتخصصون في تطبيقه على نطاق واسع في النزاعات المعقدة داخل البيئات المعادية أو المتقلبة، سواء أكان الأشخاص يتعاملون مع الانفصال، أم يحلّون الخلافات بين زملائهم في الفريق، أم يتعاملون مع الآراء السياسية المختلفة للحصول على نتيجة أفضل.
ختامًا، الصراع جزء لا مفر منه في حياتنا وفي أية علاقة، مهما كان نوعها. اليوم، مع تغلغل السلبية والخلاف في الكثير من ثقافاتنا، بات من الضروري أن نقوم بصقل مهارات الاتصال لدينا وتطوير وعينا الذاتي وخفة الحركة العاطفية التي نملكها. من خلال مراقبة تحيزاتنا، وإيجاد أرضية مشتركة بيننا وبين الآخرين، واتخاذ إجراءات لحل الاختلافات بطرق جديدة ومختلفة؛ حينها فقط يمكننا العودة نحو مزيد من الفطنة والحكمة وحُسن التدبير.
الخُلاصة
تسيطر السلبية على معظم مواقفنا في الحياة، إنها تتحكم بنا وبمشاعرنا وأفعالنا، كما تؤثر على علاقاتنا مع الآخرين، وتشوهها. لقد بتنا أسيرين لها وللصراع الذي ولدته، وغير قادرين على التخلص منها. ولكن آن الأوان لأن نكون إيجابيين، وندافع عن حججنا بشكل سلمي، محافظين على أواصر الشراكة التي تربطنا مع الآخرين، مهما كان نوعها. من أجل أن نصل إلى حوارات بنّاءة، ونكسب حججنا ونقنع بها غيرنا، علينا أن نكون حضاريّين ولطفاء؛ فلا نتعامل بلؤم مع الآخرين، وأن نبتعد عن التنمر الذي يسيء إلى نفسياتهم ويؤثر على مشاعرهم بشكل سلبي. كما علينا أن نبتعد عن التحيّز لأنفسنا، وأن نجد المبررات لغيرنا مثلما نجدها لأنفسنا، وأن نلتمس لهم الأعذار؛ ذلك أن لكل منا ظروفه الخاصة ومشاكله. هذا، وينبغي لنا أن نكون أذكياء في طرح الأسئلة، لنساعد جميع الأطراف في الدفاع عن حججهم، وكذلك مواقفهم. ولا ننسى أن نرفع من مستوى مساحتنا العاطفية، عن طريق صقل أنفسنا بالعبارات المفتاحية المتعلقة بها، والاهتمام بالشريك، بسؤاله عن رأيه وآخر أعماله. كل هذه الأمور من شأنها أن توصلنا إلى برّ الأمان في علاقاتنا مع الآخرين، سواء أكانت هذه العلاقات عاطفية، أم علاقات صداقة عادية.
:تصفح أيضًا عبر مرداد
كيف ترد على من يستفزك بطريقة ذكية
عن ميلودي ويلدينج، LMSW
مؤلفة كتاب "ثق بنفسك". مدربة تنفيذية لشركة Sensitive Strivers. أستاذة السلوك البشري. ظهرت في NYT وNBC وCNN.
ترجمة صفاء الشيخ لِـ "مِرداد".