16 ديسمبر . 8 دقائق قراءة . 863
للحلم أزهاره
ناجح المعموري
(كما لو أننا نولد للتو) “ كم هي منطويات العنونة التي تومئ، وكأن القاص خسر كثيراً في حياته وعرف الأوجاع والانكسارات والخسارات، لكنه وفي لحظة غير متوقعة حاصرته الصحوة وعرف بأنه مخلوق جديد، غادر كل ما عرفته ماضيات أيامه وسنواته، لذا يزاول حياة جديدة لا شيء فيها مما عرفه قبلاً، والجماسي قال هذا العنوان ليس بوصفه ذاتاً واحدة، بل نحن، معه كثر من الافراد الذين عاشوا مطرودين وممحوين. التعرف الجديد منقطع الصلة مع الماضي تجعل الكائن مهووساً ومندهشاً بكل ما رآه، لذا لم يكن متحمساً لمزاولة ما عرفه من متع وبهجات بهدوء وفرح، كما يضفي العنوان قيماً وافكاراً جديدة لكائن اخذته الصحوة نحو جديد يمنح ما لم يفكر به الفرد، حتى ينسى فشله المتكرر. لان كل ممارساته قبل مقترحاته هي فتائل انطفاء وعتبات موت.
قصة “الزورق” القصيرة جداً التي اراها لكثرة اختزالها تقطر ماء تحمله حتى نشفت، لأنها وسط فضاء مائي شفاف، اختزل كثيراً، حيث السماء في الضفة الاخرى، تكدس وسائد ذات الوان وردية واراجيح واسرة فارهة من نتف غيوم بيض، وتملأ فراغاتها ببالونات زرق بهيجة الهيئة. هذا الشعر وامتلأ الوحدة السردية بفيض الشعرية كله توصيف من اجل جان دمو ليجده الحماسي، لأنه اتعظ من مقدسات ريلكة، ولم يجد غير جان دمو ليجعله صورة مرآته، بعد ان فحص الشهادة التي اضفى عليها سركون بولص روحاً ليست كما يعتقد من اكتفى بريلكة. وزادت طاقة التحفيز ووجد جان مو وكأنه ولد للتو وهذا حقيقي لان الجماسي منحه شهادة.
ولادة ستبقى تاريخاً طويلاً في خزان الذاكرات وبذلك جعلته حياً ومبتهجاً، سعيداً، لأن السماء في الضفة الثانية من الالهة الاولى وهي تدخل حياة عالم جديد لم يعرفه جان مو من قبل ولذا غامر لأول مرة في حياته، مجازفة لم يألفها، لأنه مرتكب الاخطاء دائماً وذاكرته تعطى له فقط، توقظ فيه ما يجعله ثرثاراً، لكنه الآن في نص “زورق” غامر مع الوانه الكثيرة ويسرع بتخطيط بانوراما مزدحم عن الذين عرفهم جان دمو وعاش معهم. حتى تحولت البانوراما الى تراجيدياً وهي هكذا دائماً. هو الحي الميت، الميت الذي استيقظ على ورقة كاظم الحماسي والتقط “ وجوه نضرة لأولاد وصبايا ينشجون بدمع مدرار، يساقط على شيبات رؤوس ولحى شيوخ وعجائز، ثم تجري في اخاديد غائرة في صفحات وجوهم الذابلة، محتشدين اسفل القماشة... ص9
ايقونولوجيات للتاريخ الحيّ المعطل، وفي اسفل البانوراما مغاير واختلاف، موت، موت فقط، توابيت وعلامات قاتلة، معطلة اشتعلت بها النيران وفاحت رائحة دخان الاحتراق. واستغرب جان دمو وهي يرى الراوي مستغرباً لا يعرف كيف الوصول للضفة الاخرى كان جواب دمو جاهزاً ، حاضراً، يعرفه جيداً ولا غيره من خلاص ومنقذ، فالحياة تعطلت بالكامل وصار الكائن ممحوا وراضياً بذلك، وعلى الجميع المغادرة من مكان الى ضفة اخرى، والزورق الحامل لمن راغب بالمغادرة هو قنينة العرق.... هي الخلاص وهذا هو الخراب الذي ذهب اليه جان دمو، ولم يستطع الافلات ولم يمكن جماعاته من الهروب.
في نص “ كما لو اننا نولد للتو “ يضيء ما تحدثنا عنه في البدء والاشارة صريحة في استهلال القصة بعد ان صهرتنا مرائر الشحميات السنوات وافراحها الشحيحات في روح واحدة، كانت مباغته، اول طعنة غدر واشدها اذى على الاطلاق، واجهتني في حياتي.. واليوم وقد بلغت الستين، وحيداً دونما حبيب او انيس وسلال ايامي توشك على النفاذ، افتقد حضورها البهي واشعر باليتم المكتمل / ص47.
غياب المرأة تعطل كلي لحياة الزوج والعيش وسط خواء وموات التوقف فراغ، مغادرة الامتلاء، وتظل الحياة واحدية، وهنا يكون الفشل والاحباط. وفي نص “ كما لو اننا نولد للتو “ المغادرة قاسية الزوج ظل وحيداً، فارقته الروح الداخلية العميقة، الساكنة في دقائق خلايا جسده، وتلك حكمة الثنائية، التي كرسها كل منهما عبر سنوات، اكتضت بالجوع والالم والمرارات، لا واحد منهما يمتلك طاقة احتمال الغياب المفاجئ. وكيف كان اللقاء وسط حدبات المقبرة، كل منهما يقدم شعائر ولاء واستعادة تاريخ ومزاولة حب مستعاد مثل الحلم وكأنه الاسطورة، لقد تحول لا معقولاً ولا غرائبياً. رجل وامرأة، شيخ طحنته ايام الضيم وزوجة ظل فيها عرق نابض، حي، يقظ، كلام مثير بينهما وتقارب الخفايا، ارتضت به، يفوح جسده برائحة غذاها بخور قبر زوجته مع ماء الورد، لكن تشع منه هبة ضاق بها الجسد ونفرت للخارج، الحكاية ليست متكتم عليها، بل كشف كل منهما عنها، والاعلان قبول بالآخر واعتاداً الحنين عند قبر كل مغيب هي محتضنة لقبر زوجها وهو جاث على ما اقترب عليه بثقل حنينه العميق والطويل. توصلا الى اعماق التراسل، الرغبة مرفرفة، اخذتهما الى سرداب. مزخرف بالسراميك، وطفل فرد ذراعيه مرحباً بهما يبث لهما حلماً آتياً. وفي لحظة لا تختلف عن البدئية التي اغوت بينهما، هي الملوحة، مثلما في كل الحكايات الاولى وكأنها تستعيد الاساطير الاولى، كشفت عن جسده ملفوف بثوب اكتظ عليه وتكومت العباءة، قالت له ما يريده وتحلم به، وفعل مثلها، بثا رسالة شعرية، اشتعلت كل الاشياء وشبت الكوامن باتصال عشقي، هو الذي تحدث عنه الشاعر ريلكة. القاء طارد لحضور الموت والتماعات السيراميك ورائحة الماضي المدفون، شم جسداهما وغادر للفضاء الخارجي وكانا يشعران “ كما لو انهما يولدان للتو”.
الجماسي شاعر حساس، مرهف يذهب للحب ويستدعي به الغائب ويحلم بالمفقود، في كل قصصه غياب وحضور، استحالة الحلم، ومفاجأة التحقق وهو يريد ان تكون الحياة مثلما يعرفها، طاردة للموت والتعطل. تفتح نوافذ الحلم والاسطورة للمرأة التي لا تقوى على بقاء بلا اساطير، لأنها الانثى البدئية التي كتبت الاسطورة بالرموز والايقونولوجيات. الزوجة مبتهجة والزوج سعيد، لانهما تعرفا على بعضهما وكانت المرأة الجميلة باربعينها هي التي كتبت ولم تقل نداء، متحدية السواد، بعباءته المكومة وسط القبر الجمعي واستعادت ما هو غائب وغير منسي.
قدم كاظم الجماسي تكرار لانموذج المرأة المطرودة من الحياة واخضاع العنوسة لها، اربع نساء يغادرن فجراً الى قمامات مطروحة خارج فضاء الجماعات، يجمعن القناني الفارغة، تفوح من ثيابهن روائح عفنه واوساخ دبقة معلقة باذيالهن. لكن الطرد ينتهي لحظة الغروب، كل واحدة تتطهر وتغتسل وتستبدل ثيابها وينشرن البخور والقرنفل والعطور وتبدو الواحدة منهن مهيأة للحظة ركضت نحو الماضي.
الحرمان والمرارات، الجوع وقضاء الوقت وسط المزابل والعفن لجمع ما لا يريده احد، لماذا اختار القاص كاظم الحماسي اربع نساء لمهمة العمل المبكر ولجميع ما تتركه العوائل من نفايات، نساء عوانس، خسرن كل شيء الا الحلم واستعادة الذاكرة التي تريد استعادة الصحوة وتعيش كل منهن حياة امرأة تستعيد ما تريد من ترافه وجمال، تغتسل وتتعطر وتنثر روائح وسط البيت وتعيش كل منهن وكأن حلما يسكن معها في غرفتها، ولأن الواحدة منهن مزدحمة باحلام الممكن والمستحيل، ينشغلن الليل حتى لحظة سكرات النعاس. وتقاوم الواحدة نهارها تعباً في اطرافها وكل جسدها الذي انعشته ترطيباً بالماء والعطور وتخيلات ممكنات تحقق الحلم على الرغم من العنوسة. الفضاء الغرائبي شغال وهن يمتلكن فرصاً تبث في جسد كل منهن انعاشاً وخدراً ودغدغة، يريدها الجسد في لحظة حلم رسمته على قطعة قماش بيضاء، لكل واحدة بياضها وشعريتها وعذريتها واحلامها المتراكمة والواحدة تطرز وردة بلون جميل ومثير وكل ورقة لها لون مغاير مثير للفتنة وهكذا تتحول الوردة حديقة الوان، يقودهن النعاس والحلم منتظر ولم يتحقق النوم... الفجر، وجدت كل واحدة قطعة بيضاء، هو الذي يعرفه الناس منهن العفة والشرف والعنوسة، لكن الاوراد مسروقة من على القماشة البيضاء. لا وجود لجسد الانثى ومن ينعشه حتى بالحلم لا شيء ممكن غير البياض.
ـــــــــــــــــــــــــ
*عنوان مجموعة قصصية لكاظم الجماسي، صدرت عن اتحاد الادباء والكتاب في العراق 2021
لوحة الغلاف للفنان هاشم حنون
07 يناير . 1 دقيقة قراءة
05 فبراير . 3 دقائق قراءة
07 سبتمبر . 1 دقيقة قراءة