12 نوفمبر . 8 دقائق قراءة . 1188
كثرٌ هم الأدباء والشعراء والكُتّاب الذين شبّهوا المدن بالنساء، من الأمّ، بحنانها ودفء حضنها، إلى الحبيبة، بكثرة تناقضاتها واستعصاء فهمها والإلمام بكل تفاصيلها، ومنهم من رأى فيها صندوقاً أسود قد يعصى فك شيفراته على بعضهم، في حين اتخذها البعض الآخر، وهم الأكثر حظاً، صندوق أسرار الطفولة وملعب الصبا، وحلو الذكريات ومُرّها. قُدّر لكُثرٍ إجراء زياراتٍ خاطفةٍ لمدنٍ عدة في مشارق الأرض ومغاربها، وقُيّض لبعضهم الآخر اختبار الحياة بأدقّ تفاصيلها في أكثر من مدينة، لكن لعلّ الإجماع يبقى دون منازع على ما اختصره ببلاغةٍ فائقةٍ الشاعر أبو تمّام:
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ
ولن يكون استثناءً المعمار الباحث مازن حيدر، بيروتيُّ المولد والنشأة، والباحثُ المختصُّ في التراث المعماري، الذي اختبر الحياة في روما التي منحته جامعة سابينزا فيها إجازة الهندسة المعمارية. وبعد خبرةٍ ميدانيةٍ وأكاديميةٍ غنيةٍ امتدت على سنواتٍ عدة في عدد من أبرز جامعات لبنان، حطّت به الرحال في باريس التي حاز فيها على إقامة فنيّة في المدينة الدولية للفنون، ومنحته جامعة بانتيون – سوربون فيها درجة الدكتوراه. وما بين روما وباريس وسواها من المدن العابرة، بقيت بيروت المدينة التي حملها في قلبه وعقله أينما حل، فكان تراثها العمراني في القرن العشرين، بتفاصيله وحيثياته وتناقضاته، موضوع أبحاثه الأكاديمية المعمقة.
منذ عام 2010، حين شرع د. حيدر في مشروعه البحثي الذي تناول أعمال الحديد في العمارة البيروتية خلال القرن العشرين، وحتى الانتهاء من العمل عام 2020، والنسيج العمرانيّ في بيروت آخذٌ بالتدهور على نحوٍ غير قابل للعكس. لا يمكن إغفال ظهور اهتمامٍ عام، وإن بدا خجولاً، بالتراث المعماري في لبنان، ولكن، وفي سياقٍ يحكمه قطاع العقارات، المحكوم بدوره بالمتغيرات اللحظيّة في منطقةٍ شديدة الغليان بالأحداث، تبقى قضية صون التراث المعماري للقرن العشرين في بيروت ماثلةً حتى اليوم على نحوٍ يصعب معه الإحاطة بمجمل مسائلها الخلافية. إذ بدلاً من خوض غمار المطالبة بالحفاظ على النسيج العمراني للأحياء التراثيّة بشكلٍ عام، ارتكزت مبادرات التوعية المختلفة على الحفاظ على أبنية مُنفصلة كان هدمها أو انهيارها وشيكاً، وهو ما خلق حاجةً مُلِحّة لجذب الانتباه إلى التراث المعماري الآيل إلى الزوال في ظل غياب أيّ تطبيقٍ لقوانين حفظ التراث وحمايته. ولا يسعنا هنا سوى التعريج على كارثة انفجار 4 آب/أغسطس 2020 الذي طال بعصفه مناطق عدةً من المدينة، فكان له بالغُ الأثر على العديد من المباني، وأيقَظَ ما تسبب به من دمارٍ هائل اهتماماً خاصاً لدى المختصين وغير المختصين على السواء، خاصةً لناحية الرغبة بالحفاظ على ما بقي من مبانٍ تاريخيّةٍ في بيروت، ما أكسب المشروع البحثي للدكتور حيدر قيمةً إضافية وجعلت منه حاجةً لا رفاهية.
وعليه فقد أودى الشغف والحنين بالباحث مازن حيدر لأوّل منزل، فأخذ على عاتقه العمل لإعادة اكتشاف أحياء بيروت وأزقتها بكلّ ما فيها من مكوناتٍ، كلٌّ على حده، بُغيةَ إعادة نسج ما انقطع من روابط بين العمارة، موضوع الدراسة، ومحيطها المدني والاجتماعي، فلم يعمد لإجراء جردٍ تقليدي لتراث القرن العشرين، بل اعتمد أداةً موحّدةً تتيح قراءةً جديدةً للهندسة المعمارية للمدينة.
قدّمت عمارات بيروت منذ النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي نماذج زخرفيةً لا تُحصى تجلّت في أسوارها وبوّاباتها ونوافذها ودرابزين شُرَفها وسلالمها، تدرّجت من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً، فغدا كلٌّ من تشكيلاتها وحدةً من كل، كالبيت في القصيدة الشعريّة، أو كتسلسل النوتات الموسيقية على سلالم السيمفونيات.
من جهةٍ ثانية، منحت الظروف المناخية المواتية لجلسات الهواء الطّلق المساحات المفتوحة في العمارات البيروتية مكانةً لا يمكن إنكارها، حالُها حالُ نظيراتها من مدن حوض البحر الأبيض المتوسط، ما أضفى على الشّرفات حيّزاً جوهرياً في التصميم المعماري طوال القرن العشرين، وحضوراً لا يمكن إغفاله في العادات الاجتماعية لأهل المدنية، زادت أهميته بشكل مضطرد مع مرور الوقت، لن يكون آخرها فترات الحجر القسريّ التي عانى منها العالم برمته مؤخراً في ظل انتشار وباء كورونا.
بالرغم من أن صناعة الحديد قد احتلّت حيّزاً هامشياً في تاريخ العمارة، كرّست رحلة د. حيدر في شوارع بيروت وأزقتها الحديدَ عنصراً مميِّزاً لأبنيتها جمع بين الحرفة والفن والوظيفة، أما صناعتُه فقد كُرّست لغةً فنيّةً قائمةً بذاتها، حروفها الخطوط والتشكيلات المتشابكة المتلاحمة التي تتجمّع لتُشكّل وحدةً بصريّةً ضمن اللوحة المعمارية بكُلّيتها، وهو ما جعل من الحديد علامةً فارقةً للهوية الجمالية لبيروت القرن العشرين، مع تمايزه عن سواه من العناصر المعمارية بوصفه عنصراً يتفاعل معه السُّكّان يومياً جسدياً وبصرياً، ما يجعله أداةً لقراءة تاريخ المدينة حجراً وبشراً، وقصّةً تستحقّ أن تُروى.
وبعد انتظارٍ طال، أبصر النورَ الكتابُ الذي حمل عنوان "أعمال الحديد في العمارة البيروتيّة في القرن العشرين" (La ferronnerie architecturale à Beyrouth au XXe siècle - Éditions Geuthner, Paris 2021)، فكان ثمرة عملٍ بحثيٍّ وميدانيٍّ مكثّف بدأ في بيروت واستمر حيث حطّ رحالُ مؤلِّفه في باريس. لم يسعَ الكتاب إلى اسكتشاف حقبةٍ طاعنةٍ في القِدَم تصوَّر فيها الأعمال الحرفيّة بأسلوبٍ أشبه بمَرويّات الأساطير، بل صَبا بالدرجة الأولى لتوثيق تراثٍ آيلٍ للزوال، سواء عبر الهدم الطّوعي، أو عبر إعادة التأهيل دونما التفاتةٍ لقيمته الجمالية والتاريخية.
تخوض صفحات الكتاب الـ 504 وفصوله الـ 27 في عمليات الاقتباس الفني والثقافي وتبنّي بعض أشكال الزخارف، كما تُقدِّم جرداً للمباني على امتداد المدينة، فتروي حكايا التراث الحديث استناداً إلى أكثر من ألف تصميمٍ لأبواب المداخل وشبكات النوافذ والشرفات ودرابزين السلالم، ساهمت مجتمعةً في إكساب المدينة هويتها البصرية، فأضحت أحد أبرز العناصر المميِّزة لها والمفتاح لفك شيفرة الكثيرٍ من أسرارها.
ركّزت الرحلة في المدينة على المناطق التي أهملتها الأبحاث التخصصية التي جرت حتى وقتٍ قريب، إذ لا تزال هذه المناطق زاخرةً بالأمثلة المعمارية التي تستحق الدراسة، فكانت مجرد إمكانية الوصول إليها ولو من خلال عمل بحثي أو توثيقي، تجربةً تستحق أن تُعاش وتُوثَّق.
يَظهَر تركُّز المباني في الفترة التي تغطيها الدراسة، والممتدة من بداية القرن العشرين إلى عام 1970، في أجزاء معينة من المدينة أكثر من غيرها، ما جعل من الممكن تقديم عدد معين من المناطق بشكل منفصل كما في حالة فرن الحايك، الحمرا أو المزرعة. يتّبع تسلسل مجموعات المباني التي تم تحديدها وعرضها في الفصول السبعة والعشرين للكتاب اتجاه عقارب الساعة بدءاً من وسط المدينة. لا يمكن لتبنّي مخططٍ مركزي إلا أن يستحضر وسط بيروت القديم، وهنا لابد من التنويه إلى تغييبه المتعمّد عن هذا البحث بسبب التحول الجذري لنسيجه الأصلي بفعل الحرب من جهة وتدخلات إعادة الإعمار التي طالته من جهةٍ ثانية، فضلاً عن وفرة الأعمال البحثية التي اتخذت من وسط المدينة موضوعاً لها، والمقدّر لها بطبيعة الحال أن تأخذ بالزيادة في السنوات القادمة. تمّ أيضاً استبعاد منطقتي الأونيسكو ومار إلياس من المسح، نظراً لتأخر تطورهما العمراني، ما أبقى على الحديد عنصراً هامشياً في تصميم أبنيتها.
لطالما كانت أعمال الحديد المنتشرة في أوروبا واستخدامُها في العمارة الحديثة مرجعاً أساسياً للحرفييين والمهندسين المعماريين في عددٍ من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، وعليه تم تقفّي أصول تصاميم أعمال الحديد المطاوع، أو "الفير فورجيه"، ومصادر استلهامها، وذلك بالرجوع لمئات السّجلّات والوثائق الأرشيفية المتاحة في لبنان وفرنسا، والعائدة لمهندسي الديكور وحرفيي أعمال الحديد الذين لمعت أسماؤهم في باريس في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، أمثال ريمون سوب، وجيلبر بوايرا، جان ديسنو وغيرهم، ليتبيّن أنّها كانت مصدر إلهامٍ لتصاميم الأبواب والأسوار ودرابزين السلالم ودرابزين الحماية في شرفات ونوافذ مباني العاصمة اللبنانية والتي يعود تنفيذها إلى فترة الانتداب الفرنسي وما بعدها.
أضحى التصميم الفرنسي لسنواتٍ عديدةٍ، كما يُظهر البحث، نموذجاً للتبنّي والتطويع في عالم الفنون الزُّخرفية. وبتيسيرٍ من مساهمة المقاولين الفرنسيين في قطاع البناء في لبنان، اتَّخذ نقلُ المعرفة طرقاً مختلفة، ليس أقلها أهميةً التدريس والمنشورات المصورة. إن اختيار فرنسا كأول مرجع ثقافي تم التأسيس له خلال فترة الانتداب واستمر لاحقاً خلال فترة الاستقلال، لا يزال يتمتع بمكانة هامةٍ وتأثيرٍ ثقافيٍّ لا يستهان به على الشرائح الاجتماعية الميسورة في البلاد، وهي عينها الفئات التي يخرج منها ملّاكو الأبنية. واستناداً إلى الانتشار الواسع للغة الفرنسية في المؤسسات المدرسية والأكاديمية، باتت المكتباتُ المروِّجَ الرئيسي لسوق الفن والعمارة الداخلية والفنون الزخرفية عبر مختاراتهم من الكتب والدوريات المطروحة للتداول.
كان يُعمَد لنسب العمل في ثلاثينيات القرن الماضي لمنفّذه الوحيد، الحرفيّ أو صانع الحديد الرئيسي، ما أفضى أحياناً لإغفال أصوله الفرنسية، وأوحى باكتساب العمل هويّةً جديدة، كما أكسبه تسمياتٍ أكثر تحديداً على نحو أهمل اسم مصمم العمل حتى حين يكون معلوماً، لذا كان لابد لعمليات نقل التصاميم المقتبسة عبر المهندسين المعماريين أو المقاولين أو بواسطة المراجع في بيروت أن تخضع لعملية اعتمادٍ وإعادة نسبٍ جديدة، فبدلاً من ربطها بمؤلفها الأصلي بشكل حصري، لا تُغفِل عملية النسْب أبطال إعادة إنتاجها. يمكن أن تبدأ هذه القائمة بالمهندس المعماري أو المقاول وتنسحب لتشمل الحرفيّ الذي لطالما كان له دورٌ بارزٌ في ترجيح كفة الاختيار.
اتسمت العِشرية ما بين عامي 1945-1955 بغناها اللافت في مجال البناء، وإليها تعود المصادر الأوسع من المنشورات المتخصصة التي يعرضها البحث، ما ضاعف سُبُل نقل التصاميم واستعارتها، فبات الاستناد إلى مراجع مصممي الديكور الفرنسيين في تلك الفترة غير مستهجنٍ بين الجهات الفاعلة في المشاريع المحلية، وأفضى إلى نمط جديد من التصوُّر أضفى نوعاً من المشروعية على الاستلهام والاستعارة. إذاً، وعبر ترسيخها مرجعاً أعلى للبعض، تغدو المطبوعات أداةً لتداول المعرفة بدلاً من اقتصار دورها على تجميع التصاميم ونسبها لأصحابها، فيغدو التقارب الثقافي للإبداعات والانفتاح على الاستكشاف في عالم البناء وتقاليد الاستعارات القوة المحركة وراء تبني نماذج مختلفة.
يستحق اقتباس الأعمال الحديدية الفنية المنتجة في أوروبا، بحسب د. حيدر، أن يُرى ليس من منظور هيمنةٍ ثقافيةٍ، بل من منطلقٍ تطوريٍّ لقطاع البناء. في حين أنّ المصادر المتاحة لا تمنح تصوراً دقيقاً لديناميكيات التبادل بين حرفيي الحديد والمهندسين المعماريين، إلا أنها يمكن أن تكون مؤشراً إلى الخيوط التي ربطت بينهم، إذ لابد لكل تعاونٍ ناجحٍ أن يشجّع على مزيدٍ من التعاون أو أشكالٍ أخرى منه. وبفضل اتساع عملية النشر، أضحت أعمال فناني الديكور المختصين في حرفة صناعة الحديد مُتاحة لرواد العمارة المزدهرة في بيروت، مع اطلاع المهندسين المعماريين والتنفيذيين وحرفيي الحديد بانتظام على أحدث الاتجاهات في صناعة الحديد الفرنسية وأشهر مصممي هذه الإنجازات.
غالباً ما تُصمَّم عناصر الأعمال الحديدية بشكلٍ مستقلٍّ عن دورها الدّاعم معماريّاً، ما وجّه اهتمام د. حيدر نحو الزّخارف التي ميزتها، سواءٌ من خلال أبواب المدخل أو أسوار المساحات الخضراء أو شبكات النوافذ أو درابزين الشرفات، فأتاحت رحلةٌ في 52 حيّاً من المدينة و27 مساراً مختلفاً، للكاتب كما القارئ، أن يلمسا التطور التلقائي لهذا النتاج الحرفيّ في مناطق محدّدة وتحديد تجمُّعات وتكرارات معينة. قد لا تقدّم التكرارات بالضرورة معلوماتٍ عن الذَّوق العام وتفضيل تصميمٍ على آخر، لكنها بلا شك تُخبِر الكثير عن الخصائص العامة لتجمُّعٍ معين من المباني، وجودة البناء التي تُميز حياً عن آخر، فضلاً عن الحقبات المختلفة لتطور المدينة.
غالباً ما تُهمِل هذه النماذج تعقيدات تكوين واجهات المباني التي تتشابه أو تتمايز من خلال تصميم الدرابزين أو باب المدخل، ما يوفر للاعبين الأساسيين في إنجاز المشروع، من المهندس المعماري إلى التنفيذي وحرفيّ الحديد، مساحة تعبيرٍ ما من سقفٍ لحرّيتها. أياً كان العنصر المدروس، فإن الاستنساخ الرسومي لتشكيلاته يستمدّ مصادره من العلاقة بين الألفة البصرية والعضوية التي نشأت بين السكان ومحيطهم العمرانيّ. ما جعل من هذه التشكيلات صلة وصلٍ بين الداخل والخارج، بين المسكن والمدينة، أكثر من محض كونها هياكل أمان ٍ وفصل.
أتاح المسح الميداني الذي تم إنجازه في إطار هذا البحث إنشاء فهرسة أعمال الحديد المختلفة المنتقاة من أحياء مختلفة من المدينة، مع مراعاة فترة تشييد المباني. يغطي هذا الأرشيف مجموعةً واسعةً من العناصر المعمارية، يحتل الدرابزين الجزء الأوفر منها، نظراً لسعة انتشاره وتفوقه على المكونات الأخرى، من حديد النوافذ إلى أبواب المداخل التي تحوَّل تصنيعُها لاحقاً إلى مواد أخرى، كما مهّد هذا البحث الطريق لأبحاثٍ أخرى تتناول مواد وتقنيات البناء ستنشر نتائجها مستقبلاً.
يعيد هذا العملُ خطَّ تاريخِ بيروت بين عامي 1900 و1970 عبر التركيز على مكانة أعمال الحديد الفنية في العمارة البيروتية وتطورها، وما ذلك إلا نتيجة عملٍ بحثيٍّ وميدانيٍّ طويل تقفّى مصادر استلهام هذه الأعمال وما تلاه من تطويعٍ وتكييفٍ لها بما ينسجم مع محيطها، ما أتاح فسحة تأملٍ في قيمة التراث المعماري اللبناني المعرض للخطر. من جهةٍ ثانية، تَبرُز أعمال الحديد عبر الرحلة في صفحات الكتاب مفتاحاً جديداً لفك شيفرات النُّسج العمرانية الجديرة بالصون والنّقل الأمين إلى الأجيال القادمة. فإن كان الحديد بنظر الكثيرين عنصراً معمارياً كمالياً، فسيغدو عقب التعمق في هذا البحث عنصراً جمالياً ووظيفياً في آن، وسِمةً لتاريخٍ من التبادل بين الثقافات، أو نتاجاً للعولمة العمرانية التي تكرست منذ مطلع القرن العشرين.
يشكل محتوى الكتاب بشموليته أول عملٍ بحثيٍّ عن العمارة الحديثة في بيروت يرتكز بمسوحاته الهندسية على كامل المدينة، بحصيلة 1500 تصميمٍ للأبواب والأسوار ودرابزين السلالم أو الحماية في الشرفات والنوافذ منتقاة من حوالي 600 مبنى ، كما يعرض العمل صوراً أرشيفية لم يسبق نشرها لمدينةٍ شهدت أكثر تحولاتها جذريةً على مدى الأعوام الخمس عشرة من الحرب الأهلية (1975-1990)، وما تلاها من مشاريع لإعادة الإعمار (1990-2000)، فضلاً عن آخر الأحداث المفصلية التي عاشتها في انفجار 4 آب/أغسطس 2020. يَعرض العمل أيضاً مختاراتٍ لصورٍ فوتوغرافية تعود لكتالوجات نُشرت في فرنسا بين عامي 1924 و1958، وكانت مصدر إلهامٍ وتأثيرٍ في العديد من المناحي المعمارية في لبنان.
يُترجِم الاهتمامُ الذي يولى اليوم لعمارة القرن العشرين الحاجةَ لتطوير أبحاثٍ مستقبليّة لا تتناول الخصائص الجماليّة والوظيفية وحسب، بل تتعدّاها إلى قوانين تملّكٍ قادرةٍ على تطويع التراث وحفظه. كما ويتعين على هذه الدراسات، كما أشار البحث، أن تكون قادرةً على استيعاب تطور أنماط الحياة وتأثيرها على تصميم المبنى السكني على نحو أعمق، وكذلك تقبّل هذه العمارة من قبل قاطنيها وتماهيها مع ما تحفظه ذاكرتهم الجمعيّة عن مدينتهم.
قد تشهد علاقة الإنسان بالمكان، بيتاً كان أو مدينة، كما علاقته بالأشخاص وبكلِّ ذي روح، صفحاتٍ من الحبّ والبغض، الانجذاب والنفور، الولاء والخيانة، وقد تتدخل أطرافٌ وظروفٌ عديدة في هذه العلاقة بطلعاتها ونزلاتها، لكن مهما جارت الأيام واشتدت الظروف، وغدا البقاء أو الرحيل طوعاً أو قسراً منسجماً مع إرادة الإنسان أو مخالفاً لها، سيعود الفؤاد ليحط لدى الحبيب الأول... المنزل الأول...
28 نوفمبر . 4 دقائق قراءة