27 مايو . 27 دقيقة قراءة . 1748
الكتاب: على مقهى الوجودية
المؤلف: سارة بكويل
المترجم: حسام نايل
جلسة الراويات: 19تشرين ثاني 2020
عدد الصفحات: 462
الطبعة: 2019
دار النشر: دار التنوير للطباعة والنشر
المؤلف والمترجم
سارة بكويل هي كاتبة ومفكرة وأستاذة بريطانية ، حاصلة على جائزة ويندهام - كامبل الأدبية عام 2018، عملت في بداية حياتها بائعة كتب قبل أن تنشر كتابها " كيف تعاش الحياة " والذي كان سببا في شهرتها. في عام ٢٠١٦ صدر لها كتاب "على مقهى الوجودية "، والذي كان له صدى كبير في الأوساط الفكرية، وقوبل باحتفاء مذهل، واعتبر من أهم الكتب الصادرة في ذلك العام. الكتاب ترجمة الدكتور حسام فتحي نايل، وهو ناقد أدبي ومترجم مصري، حائز على جائزة الدولة التشجيعية من مصر دورة ٢٠١٣، في مجال الدراسات الإنسانية عن ترجمته كتاب جون إليس "ضد التفكيك"، وهو خريج كلية الآداب - قسم اللغة العربية - جامعة القاهرة. وحاصل على ماجستير ودكتوراه في النقد العربي الحديث والبلاغة التفكيكية من جامعة القاهرة.
النص
الفلسفة هي البحث عن الحكمة، وتعني باليونانية "عشق الحكمة"، وهي وسيلة لفهم الكون، وفهم العلاقات والأفكار الإنسانية والاجتماعية ، ومحاولة التأسيس للعلوم الطبيعية، وأيضا تعزيز العقلانية وقيم الخير والشر. وهناك أنواع متعددة من الفلسفة منها على سبيل المثال: التحليلية والبراغماتية والواقعية والوضعية... وأخيرا الوجودية، والتي تُعد من أحدث المذاهب الفلسفية. ترفض الفلسفة الوجودية فكرة أن الكون يقدم أي أدلة كيف يعيش البشر... ويقول الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر( فيلسوف فرنسي من أعظم فلاسفة المذهب الوجودي فى القرن العشرين، 1905 - 1980) "الوجود يسبق الجوهر" ، يعني لا يمكن العثور على هوية أو جوهر الشخص إلا بذاته وركيزته الحرية المطلقة والمسؤولية الفردية، وأيضا التحرر من الماضي وكسر كل القيود الدينية والاجتماعية والمنطقية. كما يعني إبراز قيمة الوجود الفردي للإنسان، فالوجود الحقيقي هو وجود الأفراد. الإنسان قبل كل شيء مشروع يعيش بذاته ولذاته، سابق في وجوده، فالإنسان هو ما شرع في أن يكون لا كما أراد أن يكون، فالوجود يسبق حقيقة الجوهر. الإنسان إذاً مسؤول عن وجوده الفردي، أن تضع الإنسان بوجه حقيقته وأن تحمله المسؤولية الكاملة عن وجوده لا يغني عن فرديته بل هو مسؤول عن جميع الناس وكل البشر وهذا المعنى العميق للوجودية.
بدا أن الوجودية انتهت. ولكننا نجد أنفسنا الآن، في القرن الحادي والعشرين، نواجه مرة أخرى أسئلة جوهرية تتعلق بالهوية والحرية، هذه المرة في عالم معقد فائق التقنية. وربما يكون لدى الوجوديين ما يقولونه لنا أكثر. إذ قدمت لنا الكاتبة في أربعة عشر فصلًا متضمنا أهمية الفلاسفة وانشغالهم بالوجود الإنساني (العيني والملموس) الساعي إلى الحرية ضمن مواقف ومحددات وسياقاتٍ على نحوٍ آسِر، لتلك المفكرين الوجوديين سياسيًا وتاريخيًا "؛ فهي تعيدُ "التفلسف" إلى الحياة بدلا من السقوط في لعبة التجريد مع أسئلة، مثل "كيف أعرفُ بأنني أعرف ما أعرفه"؟ مصورة وحدة الفلسفة في السير الشخصية لثلاثة شبان أصدقاء، يجلسون في مقهى يشربون "كوكتيلات المشمش"، تعبيرا عن المزيج الفكري لنشأة ذلك التيار الوجودي ، وهم جان بول سارتر وصديقته سيمون دي بوفوار ( فيلسوفة فرنسية و ناشطة سياسة ونسوية، 1908- 1986 ) ، وصديقهم ريمون آرون ( فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، 1905 – 1983) . يقول لهم صديقهم آرون "لو كنتم فينومينولوجيين لاستطعتم التكلم عن هذا الكوكتيل ... ". هذه الجملة البسيطة أنشأت فكرا وجودياً، ألهمت سارتر دمج مصطلحات الفينومينولوجيا مع عقليته الإنسانوية الفرنسية ونقلها إلى التيار اليساري شاقا طريقه بين الكلمات بحركة فكرية جريئة وروح متعطشة لقلب الواقع العبثي . إذ ببراعة كاتبة تمتلك أدوات لغوية قوية وبشغف سردي فكري متقد، جمعت لنا بكويل أفكار وحياة وأعمال هؤلاء العمالقة الوجوديين ، بكل تناقضاتهم الفكرية والمجتمعية، وقصصهم الحياتية في رواية سردية سرمدية. وبغاية العناية والترتيب، حفرت الكاتبة في فكر سارتر، ونهج ألبير كامو، وسلوك دي بوفوار، وبشغف المعرفة وحب الفلسفة تذوقنا تلك الأفكار وشربنا "كوكتيلات المشمش" على مقهى الوجودية. إن النظرية التي لا تصير واقعاً، ولا ينقلها البشر إلى الفِعل المشخّص، إنما هي تخيّل تعسّفي مَحض، دون أية حقيقة ( لا تخاطر مع الحقيقة)، يفرض علينا الواقع أن نستأنف التفكير في وجودنا وفي صناعة ماهيتنا...
هنا في الفصل السابع، ركزت الكاتبة بكويل على مشروع سارتر الوجودي وعلاقته مع أصدقائه.
لازم مفهوم الوجودية مشروع جان بول سارتر الفكري وحيثيات مواقفه الصاخبة التي زادتهُ حضوراً على المستوى العالمي، بحيثُ تحولَ إلى أيقونة ثقافية وفكرية، ومن المعلوم أنَّ الوجودية باعتبارها فلسفةً لا تنفصلُ في إطارها الفكري عن صيرورة الحياة وطريقة العيش، ليست صنيعة صاحب "الوجود والعدم"، بل الرواقيون والأبيقوريون هم روادُ النزعة الوجودية في مسعاهم الفلسفي. كما أنَّ الفيلسوف سورين كيركغارد (فيلسوف دنماركي تنسب إليه المدرسة الوجودية المؤمنة، 1813- 1855)، قد استخدمَ صفة "وجودي" للدلالة على الفكر المتعلق بالمشكلات الإنسانية، وبدوره مارس فريديرك نيتشه ( فيلسوف الماني، 1844- 1900) الحياة بوصفها خياراً فلسفياً بمعنى أنَّ ما يختبرهُ الإنسانُ وجودياً يصبحُ بذرة لمفرداته الفلسفية. والمشترك بين نيتشه وسارتر بأنَّ المرءَ هو المسؤول. هنا يفرض السؤال نفسه، هل بدأ وانتهى التيار الوجودي بمشروع جان بول سارتر؟ وماذا عن صديقته سيمون دي بفوار أو غريمه ألبير كامو ( فيلسوف وروائي فرنسي، 1913- 1960)؟ وأين يكونُ موقع موريس ميرلوبونتي (ميرلوبونتي فيلسوف فرنسي، تأثر بفينومينولوجيا هوسرل، 1913 – 1961 ) و مارتن هايدغر ( فيلسوف الماني، 1899 – 1976)؟ وهل يصح الكلام عن الوجودية دون العودة إلى إدموند هوسرل ( فيلسوف الماني، 1859-1938) وفلسفته الظاهراتية؟ فحسب هوسرل "ما من أحد يمكنه أن يتولى عنك بناء الجسر الذي يتحتمُ عليك أن تعبره فوق نهر الحياة". فيما خص طبيعة العقل وعلاقتها بالذات وبالتجربة الإنسانية، يعتمد فيها هوسرل على مناهج العلوم الحديثة وفلسفة الفينومينولوجيا أو الظاهراتية، والفلسفات المقارنة وخاصة التراث الفلسفي. الذات ليست شيئاً خارج التجربة، أو شيئاً مخفياً في الدماغ أو في حقل غير مادي، إنها عملية يمكن اختبارها، وتخضع للتغير المستمر، ف "نحن نصنع الذات في عملية الإدراك، وهذه الذات تأتي وتذهب اعتماداً على كيفية إدراكنا، فنكون ذواتنا بالمعرفة التراكمية"، حسب رأي أفلاطون.
لاشكَ أن معرفة سارتر بالمنهج الفينومينولوجي تُعد لحظة مفصلية في تطوره الفكري، ويتجلى ذلك في سلوكيات بطل رواية "الغثيان" إذ يعاينُ الأديب الشاب أنطوان روكنتان (الشخصية المحورية في هذه الرواية) ظواهر وجودية قائلاً "إنني لا أستطيعُ حتى أن أتصور أنَّ شيئاً مما يحيطُ بي هو غير ما هو". إذاً كانَ سارتر فينومينولوجياً في مقاربته للأشياء حتى قبل أن يقرأَ إنتاجات هوسرل ، فبرأيه لا يوجدُ مسار موصوف يهدي الإنسان إلى خلاصه، بل يجبُ عليه إختراع مساره دائماً، يعني أن الإنسان حرا ومسؤولا. هذا يعبرُ عن فكرة سارتر الجوهرية وإيمانه بمبدأ الحرية إذ يعتقدُ بأنَّ الإنسان لا بَّد أن يبادر بإنشاء نفسه وتكوين ماهيته وهو الكائن الوحيد الذي يسبقُ لديه الوجودُ الماهية.
تتابع الكاتبة السرد في الفصل الثامن عن معاناة المجتمع ودور الفلاسفة الوجوديين في الخلاص من الواقع المرير...
أخذ ريمون آرون المنهج الذي مكنه من التحدث عن كوكتيل المشمش ونشأة الفلسفة، حتى شرع بالبحث عن ضالته المنشودة والركيزة الأساسية في الظاهراتية هي "الذهاب إلى الأشياء نفسها". تعلقُ صاحبة الكتاب على هذه العبارة موضحةً بأنَّ "الظاهراتية" توفر عناء البحث في التفاسير التي تتراكم على سطح الأشياء، فبالتالي يجبُ الأهتمام بما هو واقع على مرمى النظر. وتتناولُ سارة بكويل مساهمة هؤلاء في نضوج الفلسفة الوجودية التي تصدرت المشهد الثقافي في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
جابريل مارسيل (فيلسوف فرنسي وكاتب مسرحي وناقد موسيقي وقائد الوجودية المسيحية، 1889 – 1973) من تيار الوجودية المؤمنة، التي تَنَحَّت قليلا عن مذهب الفيلسوف سورين كيركجارد ولكنها لم تناقضه، وقد عُرف بإنتاجه العميق. يدرس مارسيل شخصياته المسرحية جيدًا، ويمضي إلى أبعاد سحيقة في أثناء تعامله مع الإنسان وتناوله لعلاقات الناس، كما يعرف بحواره الفلسفي الرصين. ومسرح مارسيل فلسفي بحت. هو يجيب على مطلب ميتافيزيقي لا يفتأ يلح على الإنسان ويقضّ مضجعه، الذي ينبع من ذلك الدافع الخلاق الذي يوجد عند أصل كل ما هو حي حقًّا. ووراء مثل هذا المسرح ثمة رؤية تكمن عند جذور العمل الدرامي الحي. إن نمط الفلسفة الذي ينتمي إليه فكره لا يسمح بوجود نتائج جاهزة يمكن أن يحملها المرء ويمضي في طريقه، ذلك أن المذهب شيء نمتلكه، شيء يطيب لنا أن نطوف به وأن نقيم فيه. أما الفيلسوف، بالمعنى الذي يفهمه مارسيل : الأنسان يجتهد في المشاركة على نحو أكثر وعيًا في حياة تعلو على حياته الشخصية "فأنا موجود"، تلك هي المقولة التي يبدأ منها جابرييل مارسيل... الوجود في الجسد، والعلاقة مع الواقع، وعملية البحث عن الذات، وفي أعماق الذات نفسها وفي العالم. أي أن البحث عن الوجود في العالم محورٌ من محاور فلسفته الأساسية. ويضعنا مارسيل أمام حقيقة مفادها: "عدم كفاية العالم"، أي أن القوانين المادية والعلمية لا تشفي الإنسان ولا تكفيه، ولا بد من التأهب للوقوف على عتبة الله. ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن مارسيل بعد أن هجَرَ الدين وأصبح لا أدريًّا مدة غير قصيرة من الزمن، عاد ليُعَمَّدَ ويدخل في الكنيسة الكاثوليكية، بدعوة من الكاتب فرنسوا مورياك (روائي وكاتب مسرحي فرنسي، 1885 - 1970).
ثم خصصت المؤلفة بكويل الفصل الخامس للكاتبة والفيلسوفة دي بوفوار الشخصية المهمة والرئيسية في الرواية...
سيمون دي بوفوار، الوجودية المتحررة وفكرها المقلق، وكتابها "الجنس الثاني" الذي أحدث ضجة كبيرة وقلب المفاهيم الفكرية في المجتمعات. عالجت بوفوار من خلال الفلسفة موضوعين هامين هما : 1- تاريخ البشرية بوصفه تاريخًا أبويًا، 2- تاريخ المرأة من الميلاد إلى الشيخوخة. القصتان مترابطتان وتشغلان جزءا كبيرا من الكتاب. مزجت فيه دي بوفوار تجاربها الشخصية بقصص جمعتها عن نسوة أخريات ، وكذلك في التاريخ والسيكولوجيا. أحدثت صدمة لأنها ركزت على العلاقات الجنسية مخصصة فصلا عن السحاق ، حيث كانت المرأة محرومة من كثير من حقوقها في أوروبا وأمريكا. كما كرست الجزء الثاني من كتابها لسرد حياة المرأة النموذجية بأن "المرأة لا تولد امرأة بل تصير امرأة". تلك المفاهيم المجتمعية أثرت سلبا على نشأة المرأة الفكرية ، وتبديل تلك المفاهيم يحتاج الى غرس مفاهيم تبني وتغير المرأة. ولكن هناك مشكلة أساسية للمرأة انها تربت بالفطرة على نظرة سلبية مفتقرة للثقة بالنفس. بالنسبة لدي بوفوار، على المرأة أن تكون متحمسة للتغيير، و لإعطاء القيمة لذاتها، ولإرضاء نفسها قبل الآخرين .
وقد تأثرت دي بوفوار بكتاب "الوجود والعدم" لسارتر، و بالعلاقات الإنسانية بوصفها صراعا بين الذوات... وكذلك بعلاقتها مع سارتر الذي جعل الحب معركة بين شخصين ينشغلان بالتنويم المغناطيسي في غرفة مغلقة. قالت دي بوفوار " إن الاختيارات والعوامل المؤثرة والعلاقات التى تتراكم أثناء الحياة تخلق بنية من الصعب التخلص منها ". كان إهتمامها تطبيق الوجودية في الحياة من الطفولة حتى النضج، فالفلسفة تمكننا من فهم أنفسنا بوصفها أم العلوم.
في الفصل الثاني من هذا الكتاب تكلمت الكاتبة عن هيدغر ودوره الوجودي في حياة وعلاقات الفلاسفة .
إن الفلسفة في فكر هايدغر متعددة الأوجه، موحدة الهدف، تبحث أساسا في علاقة الموجود بالوجود ، من حيث علاقته الزمانية بذاته وبالموجودات الأخرى. فلسفة تبحث في العلاقة بين الميتافيزيقا والإنطولوجيا، وبينها وبين الشعر، وبين الفكر واللغة، وبين التقنية واللغة. فلسفة هايدغر تعرضت للكثير من الانتقادات الفلسفية البحتة كاتهامه بالعداء للمنطق، وانتصاره للعاطفة، وإنكاره للقيم، ومناداته بالنزعة العدمية ، إضافة إلى غموض فلسفته. يمكن تفسير فلسفة هايدغر بأنها ولدت في العصر الذي تحالفت فيه العقلانية مع التقنية ، وهذه من الأسباب اللتي دعته إلى مفارقة واقعه واختلاق عالم آخر. ومن هنا جاء رفضه للمنطق ، ودعا لعقلانية متمايزة ونبذ المعرفة النموذجية. يهدف هايدغر إلى إقناعنا بأن الحياة التقنية والتقدم الصناعي، هي عقاب لا خلاص لنا منه إلا باللجوء إلى الخصوصية والفردانية. ولكن ربما هذا قد يؤدي بنا مرة أخرى إلى الاغتراب عن إمكانيات وجودنا في العالم. حاولت فلسفة هايدغر أن تكشف لنا عن خبايا الواقع الإنساني، وتركت لنا حرية التجربة، لأنها لا تريد أحكام جاهزة، بل كل موجود يملك هو وحده مفتاح إمكانيات وجوده . ويقول هايدغر: "الإنسان يوجد ثم يريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكونه بعد القفزة التي يقفزها إلى الوجود، والإنسان ليس سوى ما يصنعه" .
ما كتب عنه إدموند هوسرل، هو أنه يجب عدم الأخذ بالفلسفة القديمة فقط "من الضروري وجود طريقة جديدة في النظر إلى الأشياء " بل نبحث في تواصل مستمر، فلا حقيقة مطلقة مجردة سواء في الميتافيزيقا أو في العلم بل نراهن على فهم نمط حضور الإنسان في العالم. يمكن أن نرصد بداياتها مع جورج فيلهلم فريدريش هيغل (من أهم الفلاسفة الألمان ومن مؤسسي المثالية الألمانية ومطوري المنهج الجدلي،1831-1770) و إدموند هوسرل هو أيضا من مؤسسين هذه المدرسة . تلاهما في التأثير عليها عدد من الفلاسفة مثل: هايدغر وسارتر وميرلوبونتي. وتقوم هذه المدرسة الفلسفية على العلاقة الديالكتية بين الفكرة والواقع. والظاهراتية مدرسة فلسفية اجتماعية ترجع أصولها إلى القرن التاسع عشر، ظهرت كرد فعل على المدرسة الوضعية. والمفكرون الظاهراتيون ينتقدون الوضعية الظاهراتية لأنها تسلم بوجود حقائق موضوعية مستقلة عن الوعي الفردي. وملخص أفكار هذه المدرسة هي أنها تهتم بالوعي الإنساني باعتباره الطريق الموصل إلى فهم الحقائق الاجتماعية، وخاصة بالطريقة التي يفكر بها الإنسان في الآخر. كانت فلسفة أرسطو تتمثل في الحكمة فقط إلى القرن التاسع عشر، ثم شملت الطبيعة ومنها علم الفلك والطب والفيزياء، وأصبحت في كل المجالات مثل علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد . يقول هوسرل في تعريفه للفينومينولوحيا في وصف فينومينولوجي لفنجان قهوة ينبغي أن أضع جانبا الفرضيات المجردة وأية تداعيات انفعالية، ويقول: "إذا أردت أن أحدثكم عن مقطوعة موسيقية تمس القلب فالفينومينولوجيا تجعلني أصفها بأنها مقطوعة مثيرة للمشاعر."
يقول إذا إن الفينومينولوجيا مفيدة في الحديث عن التجارب الدينية أو الصوفية، ويصفها بأنها شعور داخلي دون الحاجة إلى إثبات، وهي تساعد الأطباء لأنها تمكنهم من معرفة التشخيص الطبي كما يعيشه المريض. إذا الفينومينولوجيا هي تحويل طريقة التفكير إلى واقع، أو إعادة تفكيرنا في أنفسنا، أي ينبغي أن ننظر فيها بفعل العقل. "الفينومينا" تعني الظواهر و "لوجيا" تعني العلم في مجال ما وراء "الظواهر" التي تعني موضوعات وأشياء العالم الخارجي في الوعي". وبذلك تكون الفينومينولوجيا هي دراسة الوعي بالظواهر وطريقة إدراكنا لها. ما من غرابة في أن يكون العالم غير مفهوم. وما من غرابة أيضًا في أن يكون الإنسان راغبًا بالفهم، مسكونًا بالمعنى. يبحث كامو هنا سؤال "اللاجدوى" الناجم من تقاطع الإثنين؛ عالم غير مفهوم، وإنسان راغب بالفهم.
ويجادل كامو بأن الطريق من لحظة إدراك اللاجدوى تتفرع إلى احتمالين؛ الأول هو الانتحار، والثاني هو قبول اللاجدوى كمكوّن عضوي للتجربة البشرية، والعيش معها باكتراثٍ أقل. بحسب كامو حتى لو كانت الحياة بلا معنى، وكانت جميع المساعي غير مجدية، فهذا لا يجعلها غير جديرة بالتجربة. كما يكتب كامو أطروحته الفلسفية (أسطورة سيزيف) بالاتساق مع روايتيّ (الغريب) و(الطاعون). ويتمتع كامو برشاقة في الاستدراك والاستطراد والنقض فيما يشتبك مع أسئلته الخاصة. وهو مثل نيتشه، يكتب الفلسفة بحرارة، وربما بوسعنا القول، إنه يكتب الفلسفة من مفاهيم - بالجسد. يطلق كامو: "دعوة للعيش حتى وسط الصحراء". فيما يشكل هجمة مرتدة ضد العدمية - النتيجة الطبيعة لتحوّل القيم إلى هشيم في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. يقول كامو، حتى في دراما عبثية مثل هذه، ينبغي على المرء أن يتخيّل سيزيف سعيدًا...
أما موريس ميرلوبونتي فيعد من أقطاب الفكر الفلسفي الفرنسي المعاصر، وهو عادة ما يدرج اسمه ضمن أعلام الفلسفة الوجودية الفرنسية إلى جانب جان بول سارتر لتلك الفلسفة. وكان له خلاف إيديولوجي وسياسي مع سارتر. لقد حاول ميرلوبونتي بالفعل أن يجدد الفكر الوجودي انطلاقا من الفلسفة الفينومينولوجية خاصة من أطروحات مؤسسها إدموند هوسرل وسيظهر تأثير هذا الأخير واضحا على فلسفة ميرلوبونتي خصوصا فيما يتعلق بالتركيز على بعد الإدراك الحسي في علاقة الإنسان بالعالم، ثم استفادته كذلك من مدارس علم النفس المعاصر مثل المدرسة السلوكية. إن هذا التنوع في مصادر تفكير ميرلوبونتي أدى به إلى إنتاج عدد من الأطروحات الغنية بالمواقف والمعلومات الفلسفية التي طبعت وتميزت بها إنتاجاته الفكرية.
يرى ميرلوبونتي بأن العالم ليس كما ندركه ، وإنما هو مجال تتجلى فيه أفكار الإنسان وتتحقق فيه إدراكاته الحسية، وما دام الإنسان موجودا في العالم فهو يتعرف على نفسه داخله والحقيقة التي يبحث عنها هي جزء منه، والعالم لا يدرك بالعقل بل يعيشه الإنسان ويشارك في وجوده دون امتلاكه. من هنا تكون الفلسفة هي الكشف عن هذا العالم والعمل على إعادة النظر فيه. بالإضافة إلى ذلك فالعالم له معنى وما على الإنسان إلا أن يتوصل إلى وصف ذلك المعنى، كما أن فهم العالم والتوصل إلى معناه يقتضي تجاوز ثنائية الذات والموضوع ، وكذلك تجاوز تلك التفرقة التي أقامها سارتر بين الوجود في ذاته والوجود لذاته.
إذا كان جسد الإنسان يقوم بعدة وظائف من حركة وجنس وتعبير، فإنه يصبح بالتالي وسيطا يحقق الإنسان عن طريقه وجوده في العالم. بل هو الأداة التي تجعله حاضرا في العالم وجزءا من الواقع. ومن هذا المنطلق يرى بونتي بأن "جسدي ليس أمامي، في مواجهتي"، أي ليس موضوعا قائما بذاته أو شيئا مستقلا عني بل أنا جسدي. وإذا كان الكلام تعبيرا عن الفكر فالجسد تعبير عن العالم.
إذا كان الإنسان يعيش في العالم ومع الآخرين، فإن الاتصال بين الذوات هو شيء ضروري بحكم العلاقة التي تربطها بالعالم، فوجود الأنا هو حضوره أمام الآخرين، ولا يمكن الاتفاق مع سارتر- حسب ميرلوبونتي- فيما ذهب إليه من أن معرفة الغير تحوله إلى موضوع جامد وفاقد لحريته ، فمن خلال تجربة الجسد "فإنني لا أنظر إلى جسدي كموضوع، كذلك لايمكن أن أنظر إلى جسد كموضوع أو كشيء قابل للمعرفة الموضوعية، لأن جسد الغير مماثل لجسدي بل أدخل معه في علاقة تعاون". ويقول ميرلوبونتي "إن الحرية هي جوهر الإنسان باعتباره عن وعيه فهو يستطيع الانفصال عن الواقع بفعل تلك الحرية التي تشكل جوهر وجوده وبالتالي يستطيع تجاوز كل الحدود التي تقف في طريقه". لكن ميرلوبونتي لا يتفق مع سارتر بأن حرية الإنسان هي حرية مطلقة، لأن من شأن ذلك أن يجعلنا نغفل إلتزامات الإنسان ، فلا حرية بدون التزام. وما دام الإنسان يعيش في العالم ومع الآخرين، فلا بد أن يمارس حريته في نطاق الشروط التي يضعها هذا الوجود وهذا لا يعتبر حدا لحرياتنا بل إن ذات الإنسان تتفاعل بصورة مستمرة مع الذوات الأخرى بما يحفظ لكل واحدة منها خصوصياتها وبالتالي حرياتها في التصرف والاختيار ضمن هذا التفاعل.
تغلغلت الأفكار الوجودية في الثقافة الحديثة، ولم نعد نفكر فيها بوصفها أفكارا وجودية إطلاقا كالقلق وعدم الأمانة والخوف من الإلتزام. وقد امتد القلق الوجودي إلى قلق تكنولوجي. ويوجد الكثير من الأفكار التي تعالج هذا الموضوع. الحرية تمثل اللغز الكبير في أوائل القرن ال 21، ويرتقي عدم يقيننا بالحرية الى عدم يقيننا بوجودنا الإنساني ، تقول المؤلفة سارة بكويل إنه يجب إعادة قراءة الوجوديين في وقتنا الحالي. كما تأثرت رؤية باكويل للعالم باندهاشات سارتر البكر من وجود الأشياء، وتشير الى شخصية سارتر الممتلئة "بالشخصية" ، طاقة وحيوية وسخاء، بالمقارنة مع شخصية هايدغر التي تفتقد إلى "الخيرية". وتأثرت باكويل بإلحاد سارتر بعكس هايدغر. يقول سارتر في هذا السياق " فلسفة ملحدة كبيرة... هي ما تحتاجه الفلسفة"، وترد عليه دي بوفوار في هذه النقطة " أنت تريد إنشاء فلسفة عن الإنسان". اهتم هايدغر بالتكنولوجيا والبيئة، ويقول إن "ماهية التكنولوجيا ليست شيئا تكنولوجيا". ويقول نيتشه في هذا الإطار " آلة الحوسبة فائقة السرعة، ستثير سؤال وجوديا حقيقيا... عن مستقبل الأنسان". وتعلق المؤلفة سارة بكويل" إننا نعيش في حياة وعلاقات ذات وهج متأرجح يمكن قياسه"، كما تذكر في هذا الإطار فيلم Stops Machine. وتعلق بكويل على أهمية الفينومينولوجيا والوجودية، بأنهما يكتشفان سمات التجربة كما نعيشها، وليس كالتي يضعها الفينومينولوجين مثل كارل ماركس و هيغل. وتذكر أيضا إن ميرلوبونتي في كتابه " فينومينولوجيا الإدراك" يصف كيف نعيش الحياة لحظة بلحظة.
الخاتمة
أنه كتاب عن الفلسفة من 415 صفحة لكنه شيق في كل صفحة، لأن الأفكار المجردة والمعقدة تم تبسيطها إلى عبارات وقصص وخلطِها بأسلوبها "الروائي" الذي يتألف منه الكتاب! فأصبح نسيج من خيوط ملونة، سياسة وتاريخ وسيرة ونقد، ناهيك عن توظيف المؤلفة للاستعارات لمقاربة معنى مجرد بلغة محسوسة...
إنَّ كل فلسفة، على ما يبدو، هي بمثابة سيرة ذاتية لصاحِبها. يمكنني أن أفهم أفكار سارتر وكامو وهيدغر وميرلوبونتي ودي بوفوار على نحوٍ أكبر عندما أعرف بأن هيدغر لم يغادر كوخه في الغابة تقريبًا، وأن سارتر كان يصير شديد الجاذبية عندما يتكلم، رغم كل ما قيل عن "قبحه"، وعلاقة كل ذلك بضرورة أن "يخلق الإنسان نفسه" وأن "يختار ما يكونه". مع كل ما مرت به دي بوفوار من تنشئة محافظة، انتهى بها الأمر إلى تأليف "الجنس الآخر" الذي شكل نقطة ارتكاز فارقة في نشوء الفكر النسوي. والمفاجأة في إبداع كامو، مع إن له جدة "عنيفة" وأم "صماء" وأب توفي في سنته الأولى. إن تفاصيل ناعمة، روائية جدًا، من هذا القبيل تجعلنا نفهم ما أسماه الكتاب "تعدد المنظورات" للفكرة الواحدة، لأن المنظور الفلسفي لا يمكن فصله عن سياق صاحبه.
تختم سارة كتابها ، بأنها كانت تعتقد منذ ثلاثين عاما إن الأفكار هي الشيء المهم، لكنها حاليا توصلت الى نتيجة نقيضة وهي ان الأفكار مهمة لكن الناس أهم بكثير. حَوَّل هؤلاء الفلاسفة الفقر، من فقر اجتماعي إلى فقر ميتافزيقي، منتصرين في ذات الوقت لمتعة الوجود من منظور وجودي تحرري ، و مدركين أن حقيقة العالم لا تكمن في الكتب والمكتبات ، إنما في الحياة التي نحياها والعالم الذي نراه ونلمسه ، ننصت إليه ونتذوقه. يقولون "يكفينا أن نتعلم بأناة ، علم الحياة الصعب، والأفضل من فهم عيشهم كله أجل إن تعلم الحياة، ليس بالأمر السهل، ويتطلب المران الدؤوب". عندما نعلم أنهم لا يتفلسفون عبر التعليق على النصوص الفلسفية أو بتحليلهم لأفكار الآخرين ، إنما يتفلسفون وهم يحيون حياة فلسفية. لقد أثمرت الرواية بفكر هؤلاء الأدباء الفلاسفة و اهتمام الكاتبة سارة بكويل بإعادة قراءة الوجودية . حيث إن الحرية والوجود وبناء الذات تكمن في معانقة نظير هذه التجارب. أي في أن تكون فقيرا، دونما إحساسك بالنقص والحرمان. ذلك أن حتمية العوز، بدل أن تهزمك و جعلك مستهلكا ، ينبغي أن تردك قوتك وغناك الذي يستدعي التحلي بحكمة المعرفة ، تلك التي تشبعوا بها تلك الفلاسفة فصارت تجاربهم وأفكارهم أساسأ بني عليه المجتمع وتحرك نحو الأمام وبقناديل العظماء وجد المسار. الدراسة التاريخية للفلاسفة بينت لنا الأوضاع السياسية والدينية والاجتماعية، فمن خلالها نستطيع تحديد أن هذا الكتاب حقا، نتجية بيئية ، وذلك لأن النص هو ثمرة كاتبه والأديب نتاج ثقافته ،الأدب قصة مشاعر و أحاسيس - أي عدم إغفال العبقرية الشخصية ومدى تأثيرها في البيئة، فلكي يتم تصوير الأدب ممزوج بالعلم بصورة حقيقة يجب إدراك أهمية العنصر الشخصي ومزاجه على الطبيعة الأدبية والخلفية الفلسفية والحقيقة الفنية، والتفسير الظاهري والعام للنصوص الأدبية، والتعمق في باطنها لإستخراج جماليتها وتأثير إبداع الكاتب.
آراء "الراويات"
منحنا الكتاب فرصة لاختبار أفكارنا. أحيانًا كان سارتر يملأ عروقنا بالأدرينالين ، وأحيانًا كنا نميل إلى ميرلوبونتي بقوله بأننا لا يمكن أن نكون أحرار خارج "الموقف". و كامو الإنسان، كان أكثر أبطال الكتاب جاذبية، ويقول أنه ينبغي على الفلاسفة ومسؤولي الدولة عدم تبرير العنف مهما حدث (حتى لو أصر سارتر بأن الأيادي القذرة ضرورية). لكن كيف لا أحب رجلًا يقف ضد عقوبة الإعدام في وقتٍ نزعت فيه أوروبا كلها إلى تطهير نفسها من النازية؟
إذا قرأت الراويات بشغف حب المعرفة بعيون مشدودة إلى النهل من التاريخ الوجودي علما، ومعرفة تلك الرواية المتربعة على عرش التاريخ الوجودي . قراءة عميقة مع البحث الموسع عن تاريخ الوجوديين ودورهم في بلورة الفكر الجمعي، للنهوض بالمجتمعات المتهالكة اليائسة إلى عالم تسوده الحرية وبناء الذات. أبدت كل قارئة إعجابها بتلك الأفكار القيمة التى نقلتها الكاتبة المبدعة سارة بكويل، طارحة أسئلة جوهرية بمفهوم الوجود الإنساني، وأثنت على دور المترجم الأكاديمي الدقيق والحر في في ترجمة النص وكأنها تقرأ النص الأصلي، مقيمات الرواية بالجيد والجيد جدا.
تعلمت أن القراءة فعل خشوع. فأنت حين تنتهي من قراءة كتاب لا تعود الشخص الذي كنته قبل القراءة (أمبرتو_أكابال).
بقلم سهام جبريل
تحرير ومراجعة: داليا أبو العطا، شذى عاصم شلق، د. مايا أبو ظهر
مراجعة أدبية: د. جمال مقابلة
15 سبتمبر . 2 دقيقة قراءة
14 أغسطس . 5 دقائق قراءة